issue16682

لا فرنسا، ولا أميركا، ولا الغرب بخير. وهو أمر مؤسف فـي عالم تهيمن عليه الديكتاتوريات، السافرة أو المقنّعة، الصينية والروسية والكورية الشمالية والإيرانية والتركية وسواها. علماً بأن الديمقراطية الغربية ليست هي النظام السياسي الأمثل، بل «النظام الأقـل ســوءاً»، على حد تعبير ريمون أرون. ظــواهــر خـلـل كـثـيـرة يمكن الـتـوقـف عـنـدهـا فــي الـواقـع الغربي. لكننا سنختار إحداها: «كيف يمكن لشخص مثل عــامــ ، رئـيـس (التجمع 28 جـــــوردان بـــارديـــا، الــشــاب ابـــن الـــــ الـوطـنـي) الفرنسي اليميني المـتـشـدد، والـــذي لـم يصل إلى فـــي المـــائـــة من 37 الــجــامــعــة، أن يـــحـــوز هـــو وتــجــمّــعــه عــلــى أصــوات الناخبين فـي بلد عريق الـتـراث مثل فرنسا، بينما حـلـف الأحــــزاب الأربـــعـــة، الملتئمة حـــول إيـمـانـويـل مــاكــرون، الزاخرة قياداتها بخريجي (المعاهد الكبرى) الرفيعة الثقافة 22 والتخصص الـعـالـي، لا تحصل مجتمعة على أكـثـر مـن فـي المــائــة؟». وفـي الجانب الآخــر مـن الأطلسي، يلتف اليوم أكثر من نصف المجتمع الأميركي حول دونالد ترمب، الذي يجاهر بعدائه لـ«ثقافة النخب المهيمنة على وسائل الإعلم الكبرى»، ويكيل لها تهم «التضليل» والإسهام في «تخريب أميركا». طرحت السؤال على الصديق الفرنسي، المفكّر والأديب، فـي رسالتي الأخـيـرة لـه، وقـد أجابني أنـه يستطيع إفادتي عــن الــوضــع فــي فـرنـسـا مــن خـــال تجربته المـعـيـوشـة، فقال إن الانــتــخــابــات الـنـيـابـيـة أظـــهـــرت عـلـى صـعـيـد الـجـغـرافـيـا السياسية الفرنسية ثلث مناطق سوسيولوجية مختلفة: العاصمة باريس وضواحيها «الراقية»، حيث تهيمن «القوى الـوسـطـيـة»، المـاكـرونـيـة والاشــتــراكــيــة والمـحـافـظـة المعتدلة، والـداخـل بمدنه الصغيرة وقـــراه وأريــافــه، حيث قـوة وجـود «التجمع الوطني» اليميني المتشدد، ومجموع الضواحي الفقيرة حول باريس وفي كل البلد، حيث كثافة المهاجرين، بيسارها المتشدد وإسلموييها ونزعة «الووكية» الرافضة لـ«حضارة الرجل الأبيض». داخــل هـذه الجغرافيا الفرنسية، وعلى امـتـداد أوروبــا وأمـيـركـا ومجمل الــغــرب، وفيما يتخطى الأحــــزاب والـقـوى السياسية الظاهرة، ثمة صراع عميق متفاقم أكثر فأكثر بين تيارين كبيرين: تيار تغلب عليه نزعة العولمة والأممية التي تتجاوز الأمكنة والحدود والسدود والقوميات وتقفز فوقها، وتيار متمسك بالهويات والثقافات القومية. والخطير أنه بين «تيار الأممية»، و«تيار الهوية»، تبدو الأمور ذاهبة، أكثر فأكثر، نحو الاصطدام الكبير. أيــن موقع نخب الثقافة ونخب الإعـــام، المتمركزة في باريس، من هذا الصراع التاريخي؟ تبدو «نزعة العولمة» هي الفاعلة ضمناً في وسائل الإعلم الفرنسية الكبرى من قنوات تلفزيونية وصحف ومـجـات وإذاعــــات، ســواء المملوكة من الرأسمال الكبير أو من الدولة، مع استثناءات جد ضئيلة. كـذلـك الأمـــر بالنسبة إلـــى الـجـامـعـات، وللغالبية الـواسـعـة مــن دور الـنـشـر. ويـــرى الـصـديـق الـفـرنـسـي أن هـــذه الثقافة النخبوية التي تنشر ما يُعرَف بـ«الفكر السليم»، باتت أكثر فأكثر في حال قطيعة مع معظم شعب الداخل، الملتئمة من فئات واسعة منه حول «التجمع الوطني» اليميني المتمسك بـ«نزعة الهوية». بينما نجد تفاعلً وتعاطفاً ضمنيين بين الثقافة النخبوية الباريسية والتيارات البارزة في مجتمعات المهاجرين والضواحي الفقيرة، التي يلئمها في صورة ما «تيار العولمة»، إذ يشجع على الهجرة ولا يرى فرقاً كبيراً بين المواطن الأصلي والمهاجر ضمن حركة الإنتاج والاستهلك، ولا تعنيه مسألة الهوية. هل هو الداخل الفرنسي في وجه باريس ومجتمعات المهاجرين؟ أجل، في صورة ما. كذلك هو الداخل الفرنسي، وســــواه مــن دخــائــل أوروبـــــا، المتمسكة بـالـهـويـات القومية، فـــي وجـــه دوائـــــر المـجـمـوعـة الأوروبــــيــــة فـــي بــروكــســل، حيث روح العولمة برعاية أورســولا فون در لايـن، وشـارل ميشال، وجوزيب بوريل... ويــضــيــف الـــصـــديـــق الــفــرنــســي أنــــه لا يـمـكـن الــيــوم الـخـروج عن ثوابت «الفكر السليم» في فرنسا من دون التعرّض لعواقب، وأنــه، بالنسبة إلـى مواضيع كثيرة، كـان يستطيع التعبير عن رأيـه خـال إقامته في لبنان، أكثر من فرنسا. وهـو يـدرك أنـه يمارس الرقابة الذاتية على نفسه في أمــور كثيرة، فكرية وأدبـيـة أيضاً، كي لا يــعــرّض سمعته وحـيـاتـه المـهـنـيـة لـانـهـيـار. ويـضـيـف: «لـيـسـت هــي حـالـي وحــــدي، بــل حـــال كثير مــن المثقفين، الذين يراقبون بدقة كل كلمة تصدر عنهم في المواضيع الخلفية، خوفاً مـن سطوة (الفكر السليم)». ويضيف أيضاً: «يكفي أن تتحرك امرأة (ووكية) أو ميلونشونية واحدة لتجمع التواقيع ضدي، حتى أوصم بكل أشكال الــــ(فـــوبـــيـــا) (الـــــرهـــــاب) الـــســـائـــدة، وأصـــبـــح عــلــى قــارعــة الـطـريـق». ويــرى الصديق الفرنسي أن «الفكر السليم» يطمح إلى ما يشبه الأحادية الفكرية في الديمقراطيات المتأزمة، ويسهم في صورة ما في تهميش الأدب الكبير لصالح «أدب القراء». مــــا إن ســـقـــط الـــــصـــــاروخ عـــلـــى مـــدرســـة مجدل شمس، حتّى بدا أنّ المأساة الجولانيّة قـــد تــلــد مـــآســـي مــتــاحــقــة فـــي أمــكــنــة أخــــرى، وأكثرُ ما تخوّف المتخوّفون من وقوعه «فتنةٌ» شيعيّة – درزيّـــة فـي لبنان. والـحـال أنّ كلمة «فتنة» انتشرت في الإعلم ووسائل التواصل الاجتماعيّ، كما ردّدتـهـا ألسنة السياسيّين بكثرة، حتّى بدا كأنّ العالم مقسوم إلى أشرار «ينفخون فـي نـــار» الفتنة، وأخــيــار يسعون إلى «نزع فتيلها». والفِتَ التي تثير الهلع ليس مصدرها، كما يقال غالباً، مراحلَ نزاعيّة عرفها التاريخ الإســامــيّ فـي هــذه الحقبة أو تـلـك، وإن كان فــــي الــــوســــع دائــــمــــ اســــتــــخــــدام تـــلـــك المــــراحــــل وأحــــقــــادهــــا، بــالــحــقــيــقــيّ مــنــهــا والمـــؤســـطـــر، لتأجيج الــفِــنَ. ذاك أنّ الصاعق المفجّر إنّما هو حصراً النظام السياسيّ القائم والعلقات الــتــي ينسجها. فـهـو يــنــزع فـتـيـل الــفــن حين يساوي بين المواطنين والجماعات، ويعبّر عن إرادة السكّان الحرّة، كما يرتكز إلى القوانين، فـــضـــاً عـــن احـــتـــكـــاره وحـــــده أدوات الــعــنــف. وهــــو، فـــي المــقــابــل، يـنـفـخ فـــي نـــار الــفــن حين يـكـون عـكـس ذلـــك. أمّـــا الـشـكـل الــخــاصّ بهذه المعاكسة في بلدان المشرق العربيّ فهو النظام المــيــلــيــشــيــويّ، أو الـــنـــظـــام الـــــذي تـحـظـى فيه الميليشيا باليد العليا. ففي لبنان وسوريّا والـــعـــراق، وبــدعــم إيـــرانـــيّ مـبـاشـر أو مــــداور، باتت السلطة تتعادل مع هـذا التداخُل الذي يُقرّ للميليشيات بامتيازات أربعة على الأقلّ: امـتـيـاز حـمـل الــســاح وبــنــاء الـجـيـوش، وهـــو مـــا يُــتــرجَــم قـــــوّةً وتـحـكّـمـ بـمـفـاصـل ما تبقّى من حياة سياسيّة، وامـتـيـاز اقـتـصـاديّ يتيح للميليشيات التمتّع باقتصاد مـــوازٍ ومـشـبـوه، تلعب فيه الشبكات والتهريب دوراً مركزيّاً، وامـــتـــيـــاز أمـــنـــيّ مــــــردّه إلــــى حــفــر أنــفــاق ومـخـابـئ يـهـرع إلـيـهـا أفــــراد الميليشيات في لحظات الخطر، بينما يُترك باقي المواطنين وجهاً لوجه مع الخطر، وأخـــيـــراً، امــتــيــاز آيــديــولــوجــيّ إذا صـحّ الـتـعـبـيـر، بمعنى أنّ روايــــة المـيـلـيـشـيـات عن الأوضـــــاع والـتـنـاقـضـات الــســائــدة تــغــدو هي الــروايــة الـسـائـدة، الشرعيّة والـوطـنـيّـة، فيما يغدو سواها مروقاً وخيانةً وشذوذاً. وثـــمّـــة امـــتـــيـــاز آخـــــر، يـــتــأتّـــى عـــن مـوقـف العالم الخارجيّ، وإن كان يصلنا في صورة هـــــي عـــلـــى قــــــدر مـــــن المـــــــواربـــــــة: فـــنـــحـــن نـعـلـم جـيّـداً أنّ الفلسطينيّين، ومعهم اللبنانيّون والــــســــوريّــــون، يــعــانــون إفـــــات إســـرائـــيـــل من العقاب والمحاسبة، وكون قيادتها السياسيّة والعسكريّة تفعل ما تـراه مناسباً لها ولأمن مجتمعها ودولتها. لكنّ النظام الميليشيويّ فـــي المـــشـــرق الـــعـــربـــيّ يــشــاطــرهــا الإفــــــات من الحساب والعقاب، وهـذا علماً بـأنّ ارتكابات الـدولـة العبريّة لا تطال شعبها نفسه، فيما ارتـــكـــابـــات أنـظـمـتـنـا المـيـلـيـشـيـويّـة، لا سيّما السوريّ منها، تنصبّ على شعوبها أساساً. وامتياز كهذا، حوّلت حرب غزّة الأنظار عنه، إنّـمـا يبثّ فـي سـكّـان المـشـرق شـعـوراً يتداخل فيه العبث والاسـتـحـالـة، مـفـاده الــوقــوف في مواجهة أمر واقع ونهائيّ بالغ البأس والقوّة والإحكام. وإنّما عن منظومة الامتيازات الراسخة هذه، وعن نظامها، تنشأ الهشاشة المجتمعيّة التي تحمل على توقّع «الفتنة» بين «الأخوة»، بل تجعلها أمراً يكاد يلزم الحياة ذاتها. أمّا أن يـكـون الـــصـــاروخ الـــذي هـبـط عـلـى مـدرسـة مجدل شمس مقصوداً أو غير مقصود، هادفاً أو ضالاًّ طريقه، فيغدو أمراً تفصيليّاً بقياس نظام قائم على وعي وسلوك صاروخيّين. ولـــن يـلـزمـنـا الـكـثـيـر مــن إعــمــال الـخـيـال كــــي نـــتـــخـــيّـــل مـــنـــاطـــق المــــشــــرق الــــعــــربــــيّ، أو طــوائــفــه، تــتــبــادل الـــصـــواريـــخ فـــي مـــا بينها، وهو ما قد يُتحفنا به، في أيّـة لحظة، لبنان أو ســـوريّـــا أو الـــعـــراق. وهــــذا عـلـمـ بــــأنّ عـدم الفعل الصاروخيّ، تبعاً لمحدوديّة القدرات، لا يلغي النيّة في الفعل، والنوايا معبّاة وذات جهوزيّة رفيعة. فــــــإذا كـــانـــت مــــجــــزرة مـــجـــدل شـــمـــس مـن ذيـــول حــرب قـائـمـة، فلنراجع أحـــوال الأمكنة الـتـي يُـفـتـرض أنّـهـا تخلو مـن الــحــروب: مـاذا يــــحــــدث غـــــداً لــــو انـــطـــلـــق مــــن أيّـــــــة مــنــطــقــة أو طائفة فـي المـشـرق صـــاروخ يستهدف طائفة منطقة أو طائفة أخريين؟ في أغلب الظنّ لن يـحـدث شـــيء، باستثناء اســتــدراج مـزيـد من الـصـواريـخ فـي حــال تـوافـر الـطـرف المقصوف عليها. ولا يــعــود مــهــمّــ ، والـــحـــال هــــذه، وجـــود حرب في المنطقة يصفها البعض بالمصيريّة وغير ذلك من أوصاف، إذ الوضع «الطبيعيّ» في المنطقة كلّها هو هـذا، وإن تقدّم بعضها عـلـى بـعـض فــي هـــذا الــظــرف الـزمـنـيّ أو ذاك. وبـــدل أن تتّحد طـاقـات «الأمّــــة» المـزعـومـة في الــحــرب المـصـيـريّـة، عـلـى مــا تـحـضّ الــدعــوات النضاليّة، فإنّ جنون الحرب هو الذي يتمدّد فـي «الأمّــــة» المـزعـومـة إيّـاهـا فيزيدها تفتيتاً واحــتــرابــ . وإذا بـنـا كـلّـمـا «حــصّــنّــا» الجبهة «ضدّ العدوّ» زدناها انثقاباً في ما بيننا. فـــمـــا يـــفـــعـــلـــه الــــنــــظــــام المـــلـــيـــشـــيـــويّ هـو بالضبط دفعُنا إلى حالة الطبيعة الهوبزيّة حــيــث «حـــــرب الـــكـــلّ عــلــى الــــكــــلّ»، فـيـمـا حـيـاة الــــســــكّــــان تـــغـــدو «مـــنـــعـــزلـــة وفـــقـــيـــرة ولـعـيـنـة ووحشيّة وقصيرة». والــفــتــنــة، لـــغـــةً، تـحـمـل مـعـنـى آخـــر غير الذي نخشاه ونحذّر منه. فهي أيضاً الجمال الــــبــــاهــــر الـــــــذي يـــخـــلـــب الألــــــبــــــاب، كـــمـــا تــقـــول الـــقـــوامـــيـــس. ولـــربّـــمـــا ظـــــنّ أصــــحــــاب الــنــظــام المــيــلــيــشــيــويّ أنّ المـعـنـيـ مـــتـــرادفـــان، أو أنّ واحدهما لا يكتمل دون الآخر. OPINION الرأي 12 Issue 16682 - العدد Wednesday - 2024/7/31 الأربعاء جهة «الفكر السليم» نظام الميليشيات نظام «الفتنة» الدائمة وكيل التوزيع وكيل الاشتراكات الوكيل الإعلاني المكـــــــاتــب المقر الرئيسي 10th Floor Building7 Chiswick Business Park 566 Chiswick High Road London W4 5YG United Kingdom Tel: +4420 78318181 Fax: +4420 78312310 www.aawsat.com [email protected] المركز الرئيسي: ٢٢٣٠٤ : ص.ب ١١٤٩٥ الرياض +9661121128000 : هاتف +966114429555 : فاكس بريد الكتروني: [email protected] موقع الكتروني: www.arabmediaco.com هاتف مجاني: 800-2440076 المركز الرئيسي: ٦٢١١٦ : ص.ب ١١٥٨٥ الرياض +966112128000 : هاتف +9661٢١٢١٧٧٤ : فاكس بريد الكتروني: [email protected] موقع الكتروني: saudi-disribution.com وكيل التوزيع فى الإمارات: شركة الامارات للطباعة والنشر الريـــــاض Riyadh +9661 12128000 +9661 14401440 الكويت Kuwait +965 2997799 +965 2997800 الرباط Rabat +212 37262616 +212 37260300 جدة Jeddah +9661 26511333 +9661 26576159 دبي Dubai +9714 3916500 +9714 3918353 واشنطن Washington DC +1 2026628825 +1 2026628823 المدينة المنورة Madina +9664 8340271 +9664 8396618 القاهرة Cairo +202 37492996 +202 37492884 بيروت Beirut +9611 549002 +9611 549001 الدمام Dammam +96613 8353838 +96613 8354918 الخرطوم Khartoum +2491 83778301 +2491 83785987 عمــــان Amman +9626 5539409 +9626 5537103 صحيفة العرب الأولى تشكر أصحاب الدعوات الصحافية الموجهة إليها وتعلمهم بأنها وحدها المسؤولة عن تغطية تكاليف الرحلة كاملة لمحرريها وكتابها ومراسليها ومصوريها، راجية منهم عدم تقديم أي هدايا لهم، فخير هدية هي تزويد فريقها الصحافي بالمعلومات الوافية لتأدية مهمته بأمانة وموضوعية. Advertising: Saudi Research and Media Group KSA +966 11 2940500 UAE +971 4 3916500 Email: [email protected] srmg.com حازم صاغيّة ما يفعله النظام المليشيويّ هو بالضبط دفعُنا إلىحالة الطبيعة الهوبزيّة أنطوان الدويهي جــــنــــرالات الــــحــــروب والــــغــــزو أدركـــــــوا مــكــانــة غــــزة عبر الــتــاريــخ، فقديماً قـــال نـابـلـيـون عـنـهـا: «إن غـــزة هــي المخفر الأمامي لأفريقيا وباب آسيا»، ولكن الطريق إلى غزة لم تكن مفروشة أو مزروعة بالورود، ولكن المقاومة الباسلة ومرض الطاعون فتكا بجيش نابليون في الشام رغم احتلله غزة في بضعة أشهر، وعاد خائباً منهزماً. غزة الآن أصبحت أكبر سجن بشري عرفه التاريخ، أشبه بمعتقلت الفاشيست الطليان في القرن الماضي في ليبيا، وقد لا تختلف عن معسكرات الهولوكوست التي تعرض لها اليهود في أوروبــا ضمن سياسة التمييز والعنصرية عبر التاريخ، فمثلما كـان اليهود ضحايا الهولوكوست، كذلك اليوم الفلسطينيون في غزة هم ضحايا هولوكوست جديد مع اختلف الضحية. سـيـاسـة الــطــرد والإبـــعـــاد مــا لــم تـكـون لـهـا أسـانـيـد في التراث العقدي، ما كان لها أن تتم بسهولة، فالقول: «إن لم تطردوا سكان هذه الأرضمن أمامكم، يكون الذين تستبقون مـنـهـم أشـــواكـــ فـــي عـيـونـكـم ومــنــاخــس فـــي جــوانــبــكــم»، هو أحد مبررات الطرد والإبعاد التي تنتهجها حكومة اليمين المـتـطـرف الـيـوم فـي إسـرائـيـل، والـتـي تـهـدد بـحـلّ الحكومة، وإنهاء التحالف لو وقفت الحرب، أو تم التنازل قيد أنملة فـــي مـــســـار حــــلّ الـــدولـــتـــ ، المــــرفــــوض مـــن الــيــمــ المــتــطــرف بالمطلق، بل يرى في طرد الفلسطينيين وتهجيرهم خارج غزة حتى الضفة الغربية التي يسميها «يهودا والسامرة» هو الخيار الأوحد المطروح لديه. الحرب على غزة تسببت في تهجير ونزوح قسري، ما تسبب في تجمع النازحين والمهجرين في أماكن غير ملئمة للحياة البشرية الكريمة، ويفرض عليهم واقعاً اجتماعياً مغايراً للواقع المعيش سابقاً. قـبـل ثـاثـ عـامـ قــالــوا لـنـا إن ثـمـة سـامـ جــديــداً في الـــشـــرق الأوســــــط، عــنــوانــه اتـــفـــاق غــــزة وأريــــحــــا، ولــكــنــه مع مــــرور الأيـــــام أثــبــت أنــــه مــجــرد أرض مــنــزوعــة الـــســـام، هي غزة وأريـحـا... الملعونة في تراثهم «الملعون من يبني فيها حـجـراً»، فـي ظـل فيتو دائــم على الـسـام مـع سكانها، حتى بل حجر. ولـــعـــل حـــــرب غـــــزة المـــفـــتـــوحـــة الـــنـــهـــايـــة أنـــــمـــــوذج عـلـى هـــولـــوكـــوســـت جـــديـــد بــبــشــر آخــــريــــن، ومـــــنـــــاورات بـنـيـامـ نــتــنــيــاهــو تـــخـــبـــر عــــن نـــفـــســـهـــا، والمــــتــــابــــع لـــلـــشـــأن الـــعـــربـــي الإسرائيلي لاحـظ وتـأكـد أن نتنياهو لا يرغب فـي السلم، ولا في إيقاف الـحـرب، حتى لا تعنيه كثيراً عــودة الرهائن أو الأســــــرى مـــن الـــجـــنـــود الإســـرائـــيـــلـــيـــ ، فـنـتـنـيـاهـو يـــؤزم المفاوضات، ويؤمن بمبدأ التخلص من تبعات الأسير من الـجـيـش الإســرائــيــلــي، وهـــو الـتـخـلـص مـنـه بـقـتـلـه إن أمـكـن حتى لا يـكـون مـصـدراً للتفاوض، ومـنـه مقتل ثـاثـة أسـرى إسـرائـيـلـيـ بــرصــاص جـنـود إسـرائـيـلـيـ ، رغـــم تلويحهم بـــرايـــات بــيــضــاء وطـلـبـهـم الــنــجــدة بـالـلـغـة الــعــبــريــة، إلا أن رصـــاص جند نتنياهو صــبّ عليهم المـــوت، وهـــذا بشهادة أخـــي إحــــدى الـضـحـايـا الـــثـــاث، واســـمـــه إيــــدو شـمـريـز أخـو ألـــون، خـال جنازته، إذ قـال: «إن الذين تخلوا عنك قتلوك بعد كل ما فعلته من صواب». يعترف مفاوض إسرائيلي بالقول: «يحاول نتنياهو عــمــداً وضـــع المـــفـــاوضـــات فـــي أزمـــــة، لأنـــه يـعـتـقـد أنـــه يمكنه تـحـسـ المــــواقــــف، وهـــــذه مـــخـــاطـــرة غــيــر مــحــســوبــة بـحـيـاة الرهائن»، بينما والدة أسير إسرائيلي تتهم نتنياهو علناً بنسف صفقة التبادل بشكل ممنهج. الداخل الإسرائيلي الثائر حالياً على حكومة الحرب، حكومة بنيامين نتنياهو، مـــدرك تماماً لمماطلة نتنياهو ومحاولاته نسف أي عملية تفاوضية يمكنها إنهاء الحرب، وتــبــادل الأســـرى بـ الفلسطينيين والإسـرائـيـلـيـ ، ويظن نتنياهو أنـــه بالضغط الـعـسـكـري يمكنه تحقيق تـنـازلات كبيرة من «حـمـاس»، في حين أن «حـمـاس» لا تــزال تتمسك بشروطها، ما يعنى استمرار الحرب، وهو مطلب نتنياهو، رغـــم أنـــه لــم تـعـد هــنــاك أي مــبــانٍ يـمـكـن تـدمـيـرهـا فــي غــزة، فبنك الأهـداف نفد منذ شهور، ولم تستطع إسرائيل إنهاء «حـــمـــاس» أو تـدمـيـر شـبـكـة الأنـــفـــاق، اسـتـطـاعـت فـقـط قتل المدنيين وتهجير مليوني فلسطيني ووضعهم في العراء، تحت خط الفقر والجوع والعطش. ليس الوقت مناسباً للكلم عن «حـمـاس» وعـن بدئها هذه الحرب غير المحسوبة النتائج، في مواجهة قوة مفرطة، ليست عندها خطوط حمراء، ولا تحترم قواعد الاشتباك، ولـكـن مــا حـــدث حـــدث، والآن نـحـتـاج لـوقـف الــحــرب وإعـــادة الإعمار في غزة، مع المطالبات العربية بـ«لا لاستمرار الحرب، لا لإبــادة المدنيين، لا لدمار البنية التحتية في غــزة»، وأنه يجب كسر الحصار عن غزة، ولا علقة لذلك بدعم «حماس» فيما تقوم بـه، فهي مسؤولة مسؤولية كاملة عن أفعالها، والشعب الفلسطيني هو من يقرر من يحكمه في غزة. غــــزة مـكـلـومـة ومــــدمــــرة، والـــحـــلّ الــوحــيــد هـــو الـسـمـاح لـلـفـلـسـطـيـنـيـ بـــإعـــان دولـــــة فـلـسـطـيـنـيـة قــابــلــة لـلـحـيـاة، وحينها سينتخب الفلسطينيون مــن يمثلهم ويجتثون «حماس» انتخابياً، وليس بدمار غزة من أجل قتل السنوار. وعلى ساسة إسرائيل وقادة العالم والرئيس الأميركي القادم إدراك أن «لا سلم دون إقامة دولة فلسطينية»، وأي تعطيل أو مماطلة أو تسويف سيكون سبباً ومبرراً للعنف وتكراره. ويبقى الـسـؤال... من سيكتب سيناريو نهاية الحرب في غزة؟ منسيكتبسيناريو نهاية الحرب في غزة؟ جبريل العبيدي

RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky