issue16680

يعزز بناءَ الرواية فصولٌ تتناولسيرة التسلية عبر التاريخ قد تُكتب الرواية التاريخية بهدف تعليمي كما في رواياتجورجي زيدان عن التاريخ الإسلامي وقد تُكتب بهدف الإسقاطعلى الحاضر كما فعل محفوظ الثقافة CULTURE 18 Issue 16680 - العدد Monday - 2024/7/29 الاثنين رواية موريتانية عن «ثورة الضواحي في قرطبة» صـــــــــدرت فــــــي بــــــيــــــروت عــــــن المـــؤســـســـة العربية للدراسات والنشر في بيروت، رواية «فتنة الـربـض» لـلـروائـي الموريتاني محمد صفحة 222 ولــد محمد سـالـم، وجـــاءت فـي من القطع المتوسط. تنطلق حكاية الرواية من تصور عثور الكاتب فجأة على نص لكاتب مجهول شارك في أحداث ثورة سكان الأرباض (الضواحي) في قرطبة، التي قامت ضد الأمير الحكم بن هشام بـن عبد الرحمن الـداخـل، ثالث أمـراء 202 بـــنـــي أمـــيـــة فــــي الأنـــــدلـــــس، وذلــــــك ســـنـــة هجرية، وهو نص مجهول تماماً ومجهول كــــاتــــبــــه، ولا ذكــــــر لـــــه فـــــي أي مـــــن المــــصــــادر القديمة، وتكون مهمة الكاتب بعد أن فشل في العثور على أي معلومة عن ذلـك النص أن يعيد ترتيب الأحداث وتنسيقها انطلاقاً من تقنيات السرد المعاصرة. تحكي الـروايـة عـن أحـــداث تلك الـثـورة، والـــصـــراع الــــذي تــأجــج بــن الـحـكـم وأعــوانــه من جهة وبي بعض رجـال الدولة والفقهاء والـــعـــامـــة مـــن جــهــة أخــــــرى، بـسـبـب جــبــروت الـحـكـم وجــــور أعـــوانـــه وتـعـسـفـهـم، وحـكـايـة الـــصـــداقـــة الـعـجـيـبـة بـــن الـفـقـيـه طـــالـــوت بن عبد الجبار المعافري أحد قـادة الثورة وبي الـشـاب الـيـهـودي الـنـجـار حاييم الإشبيلي، الـــــذي أخـــفـــى الـفـقـيـه فـــي مــنــزلــه بــعــد الـفـتـنـة سنة كاملة، وكذلك حكاية راوي القصة مع أبــي أيـــوب الـحـداد الـنـصـرانـي، وكـــان الـــراوي يعمل فتى ضرّاباً (حدّاداً) في دكان أبي أيوب حي قامت الثورة، ونشط فيها، وقد نشأت بينهما مودة راسخة، وكذلك حكايات الناس الذين شاركوا في الثورة واحترقوا بنيرانها، وما آلت إليه حياتهم من مآلات مؤلمة. وكــانــت قــد صــــدرت لمـحـمـد ولـــد محمد سالم خمس روايات: «أشياء من عالم قديم»، و«ذاكــــــــرة الــــرمــــل» و«دروب عــبــد الـــبـــركـــة»، و«دحّان»، و«ألاعيب خالد مع كورونا». ومــــــن مـــقـــتـــطـــفـــات الــــــروايــــــة نــــقــــرأ عـلـى الـــغـــ ف الأخـــيـــر: «ضـــجّـــت بمقتلهم قرطبة واحتشد الناس من كل حوْماتها وأرباضها، شــــاخــــصــــة أبـــــصـــــارهـــــم نــــحــــو ذلـــــــك المـــشـــهـــد الـرهـيـب... أولـئـك الـرجـال الــكــرام، أفـــ ذ كبد قرطبة، الذين أزهقت أرواحهم مرّة واحدة... ثمانون رجـً أو يزيدون، ما منهم إلا رجل سـيـد تـتـعـلـق بـــه بــيــوتــات وأتـــبـــاع أو طـ ب كثر في أرجــاء قرطبة، نَـزع الحكم أرواحهم بـبـطـشـةٍ واحـــــدة، ضـــربـــتْ صـمـيـم المــديــنــة... ذهــــب الـــســـادة والأشــــيــــاخ فــلــم يــعــد لـلـحـيـاة بـــعـــدهـــم طـــــعـــــم... تـــوقـــفـــت قـــرطـــبـــة فــــي ذلـــك الـــيـــوم عـــن نـشـاطـهـا المــعــتــاد، وشــلــت حـركـة أســـواقـــهـــا... انـتـقـل أهـلـهـا إلـــى ضـفـة الـنـهـر، حيث صلب أولئك الـرجـال... تكاثر الجنود عــلــى الـــرصـــيـــف وعـــنـــد بــــاب الــقــنــطــرة، وفــي الجهة الغربية إلــى نهاية الـسـور، مشكلي صفوفاً تحرس تلك الجثث المهيبة... سُمع الــنــحــيــب فـــي أرجــــــاء المـــكـــان حــتــى خــلــنــا أن الأرض اهتزت بنا... غلبتني دمعتي... كان صَــلَــف الـجـنـد وتـعـسّـفـهـم فــي دفـعـنـا بعيداً وضربنا، يحرق الأكباد، مما جعل الصدور تـــتـــوغـــر، حــتــى ذهــــب الــــرهَــــب والــــخــــوف من النفوس، وكان ذلك أول يوم تجرأنا فيه على الجنود، وعلى الحكم بشكل واضح، وأصبح كلامنا علناً، جهاراً نهاراً». بيروت: «الشرق الأوسط» عبد الرحيم كمال يجعلها مسرحاً لروايته الجديدة الحياة لعبة خطِرة فــي روايـــتـــه الـــصـــادرة أخــيــراً «كــــلُ الألــعــاب للتسلية» يفتح الكاتب والـروائـي المصري عبد الرحيم كمال غرف الألعاب القديمة، وصناديقها المـغـلـقـة، فــي روايــــة تسعى لتقصّي جـــذور الملل والخواء البشري. تؤسس الرواية، الصادرة عن دار «العي» للنشر بـالـقـاهـرة، لـآصـرة المُـبـكـرة بـن الكتابة و«اللعب»، عبر تمهيد بصوت راوٍ عليم يُحيلنا للكُتّاب بوصفهم «الأشرار الطيبي» في العالم، الذين قطعوا طريقهم للملعب المُتسع «الكتابة»، في كسر لحاجز الموت والفوز بوهم الخلود. وإن كانت تلك اللعبة بدأت تشق قوانينها الخاصة مع اختراع الكتابة، إلا أنها سرعان ما تحوّلت إلــى لعبة خـطـرة، لعبة بلا رابــــــــح أو خـــــاســـــر، هــدفــهــا الأول هو التسلية والمتعة، إلا أنها تسلية لا تخلو من ألم. ســــرعــــان مــــا تُــحــيــلــنــا تــلــك الــتــوطــئــة إلــــى فـصـول صفحة) التي 239( الرواية تنهض على مسرح «لعبة» عــبــثــيــة، حــيــث يــجــد كـاتــب روائـي شهير يُدعى «حازم صـــفـــوت» نـفـسـه فـــي قبضة رجــل يعمل فـي جهة أمنية «سامر بك الشرقاوي» الذي يحتجزه في مكان مجهول، ويجعل شــرط منح حريته الــــــوحــــــيــــــد هـــــــو أن يـــكـــتـــب لــــه أولـــــــى روايــــــاتــــــه، روايـــــة يـكـون هــو كاتبها وبطلها ومــــحــــورهــــا. وســـــرعـــــان مـا يُــحــوّل هــذا الطلب الفضاء الـروائـي إلـى ملعب، طرفاه لاعـــــــب مــــــوهــــــوب مُـــحـــتـــرف مــــــنــــــزوع الــــــحــــــريــــــة، وآخــــــر مُـــــــــــراوغ وصـــــاحـــــب ســلــطــة ومــهــووس بـفـكـرة الألــعــاب، حيث يطلعنا السرد على مفارقة احتفاظه بغرفة ألعاب طفولية في بيته، يقضي بها أوقاتاً وهو يتفحص ألعابه القديمة، وتحديداً لعبة القطار، لـنـبـدو أمـــام بـطـل طـفـل بـمـ مـح رجـــل سلطوي: «بـيـنـمـا يـظــل ســامــر بـــك يـمـضـي جُــــلّ وقــتــه في غـرفـة الألــعــاب يـحـدّق نحو الـقـطـار اللعبة وهو يجري على القضبان ويصيخ لصوت صَفَارته الـشـهـيـرة، ويـنـتـقـل بــعــده مــن لـعـبـة إلـــى أخـــرى، حتى يشعر بالإنهاك فينام في غرفة اللعب». توقيع السجّان يُـحـاصـر عـبـد الـرحـيـم كـمـال بطله الكاتب «حــازم صفوت» بحدود مكانية بالغة الإحكام والتقييد، فهو يتنقل بـن مـمـرات طويلة وبي غرف مختلفة في المكان المُحتجز فيه، معصوب الـعـيـنـن، تلتقطه كــامــيــرات مـراقـبـة مُـعـلـقـة في سقف الـغـرفـة. وتـــؤدي تلك التعقيدات المكانية والـنـفـسـيـة فـــي الـــروايـــة إيــقــاعــ مـــوازيـــ لعملية الـكـتـابـة المُـــحـــاصَـــرة داخــــل تـ فـيـف عـقـل البطل ومُــخــيــلــتــه، وهــــو «مــــأمــــور» بــكــتــابــة روايــــــة عن «سجّانه» سامر الشرقاوي وبتوقيعه، وبشرط أن تكون رواية شيقة. يـــــبـــــدو فــــعــــل كــــتــــابــــة روايـــــــــــة عــــــن «ســــامــــر الـــشـــرقـــاوي» عــمــً يستحضر مـعـه عـــدة ألـعـاب ســــرديــــة، بــــدايــــة مــــن مــــراوغــــة ســـيـــرتـــه الـــذاتـــيـــة، وتــــقــــصــــي تـــــاريـــــخـــــه الــــعــــائــــلــــي، والاســــتــــعــــانــــة بالتخييل لتحويل شخصية «سامر الشرقاوي» الأمنية الجافة إلــى شخصية بملامح روائـيـة، فيُطلق الكاتب له صوتاً داخلياً، ويتخيّل ندوب طــفــولــتــه، ويــصــنــع لـــه عـــ قـــة قــديــمــة مُـتـخـيّـلـة بروايات اللص الظريف (أرسي لوبي). يُـوازي عبد الرحيم كمال بي معاناة بناء بـطـلـه «حــــــازم صـــفـــوت» لــعــالــم روائــــــي بـتـوقـيـع سجانّه، وبي حالة «التسلية» التي يستشعرها «ســـامـــر بـــك» فـــي المــقــابــل. ويـــعـــزز بـــنـــاءَ الـــروايـــة فصولٌ تتناول سيرة التسلية عبر التاريخ، التي ارتبطت بالحلبات التي كـان يصطنعها الملوك لـتـزجـيـة المــلــل عـنـهـم، والــتــي يــــزجّ فـيـهـا العبيد لمواجهة الأســود، فـ«ترتفع الأقــداح والصيحات ويـــشـــرب المــلــك والــحــاشــيــة خــمــورهــم المـمـزوجـة بــــدمــــاء الـــعـــبـــيـــد». ثــــم تــســتــمــر مـــســـيـــرة تـطـويـر «ألـــــــعـــــــاب» دامــــــيــــــة أخـــــــرى، صــــــارت تُـــســـمـــى بــالمــســدس والــبــنــدقــيــة والــقــنــبــلــة: «لــم يـــشـــعـــر الـــــ عـــــبـــــون المــــهــــرة بــــأي ذرة مـــن ضــمــيــر وهــم يضغطون عـلـى زر صغير داخــــــــــل لـــعـــبـــتـــهـــم المــــســــمــــاة بـــالـــطـــائـــرة فــتــســقــط مـنـهـا اللعبة التي تسمى القنبلة الــــذريــــة الـــتـــي تُــفــنــي مــئــات الآلاف من البشر». وتطرح الــــروايــــة ســــــؤالاً افــتــراضــيــ حــــــول مـــــا إذا كــــــان أشــــــرار الـــعـــالـــم هـــم الأطــــفــــال الــذيــن حُــــــــرمــــــــوا مـــــــن الـــــلـــــعـــــب فـــي طــفــولــتــهــم؟ أوهــــــم «هـــــؤلاء الأطــفــال الـذيـن لـم يخرجوا من طفولتهم بسلام؟». لعبة مسرحية ويُـــــــــــــوظّـــــــــــــف الـــــــســـــــرد فــــــصــــــول ســــــيــــــرة الألــــــعــــــاب واللاعبي، بضمير الـراوي الـــــعـــــلـــــيـــــم، فـــــــيـــــــتـــــــوازى مـــع مـــــراحـــــل تـــــطـــــوّر «الـــلـــعـــبـــة» بــــن الـــبـــطـــلـــن المــــركــــزيــــن فــــي الــــــروايــــــة، صــــراع «اللاعب المحترف» مع «تسلية صاحب اللعبة»، وتتضاعف فانتازية تلك اللعبة، بأن ينضم إلى «حــــازم» عـــدد مــن المـوهـوبـن تـبـاعـ منهم لاعـب كــــرة شــهــيــر، ومــمــثــل كـــومـــيـــدي، الـــذيـــن يــجــدون أنـفـسـهـم فــي «ســجــن» الـسـلـطـة دون أن يـعـرفـوا الـسـبـب، لـيـتـحـوّل ســـرد الـــروايـــة بـالـتـدريـج إلـى لعبة مسرحية، يجمع الأبطالَ فيها مكانٌ مغلق، وســـط مــراجــعــات لـلـحـيـاة، وأســئــلــة عــن جــدوى الموهبة، وانتظار الموت. ويـرتـفـع عبد الـرحـيـم كـمـال بسقف اللعبة مع نهاية الرواية بأن يُدخل الرأي العام كطرف فيها، بعدما يتصاعد الفضول حول اختفاء كل تلك الشخصيات الـعـامـة، فيُصبح مطلوباً من «حازم صفوت» اختراع قصة تُفسّر للرأي العام سبب اختفائهم دون تـوريـط للسلطة، بعد أن يتحوّل لغز اختفائه هو والمحتجزين معه إلى «تـرنـد» يتواطأ الجمهور في تشكيل سرديته، فيبدو «الـتـرنـد» اللعبة الرقمية الأكـثـر شعبية الـــتـــي يُـــزجـــي بــهــا الـــنـــاس أيـــامـــهـــم الــرتــيــبــة مع الحياة، تماماً كما يلعبون لعبة «الاستغماية» «المـــواطـــنـــون والمــواطــنــات ‫: مــع الأمــــل والانـــتـــظـــار فــي علبهم الـصـغـيـرة المغلقة يلعبون كــل نهار وليلة لعبة واحدة مُكررة، هي لعبة الاستغماية المــعــروفــة، حـيـث يـضـع المـــواطـــن يـــده عـلـى عينه ويـــعـــطـــي وجــــهــــه لـــلـــجـــدار ويـــــنـــــادي فــــي صـــوت ‬.»؟ خفيض: خلاص القاهرة: منى أبو النصر «الأزبكية» و«الأنتكخانة» لناصر عراق تاريخ مصر الحديث في روايتين ) لــتــؤكــد شغف 2022( » تـــأتـــي روايــــــة «الأنـــتـــكـــخـــانـــة الـــروائـــي نـاصـر عـــراق بـتـاريـخ مـصـر الـحـديـث واسـتـمـرار مـــحـــاولاتـــه لانـــتـــقـــاء لــحــظــات مــنــه لـصـيـاغـتـهـا فـــي قـالـب قصصي. فهو بــدأ مـع بـدايـة ذلــك الـتـاريـخ الـحـديـث إبـان الحملة الفرنسية على مصر في آخـر القرن الثامن عشر )، متناولاً الفترة التي مهدت 2015( » في روايـة «الأزبكية لبناء مصر الحديثة على يد محمد علي باشا، مواصلاً فــي «الأنـتـكـخـانـة» تـصـويـر مــا يمكن تسميته بالنهضة الثانية في تاريخ مصر الحديث، إبان محاولة الخديوي إسـمـاعـيـل، حـفـيـد مـحـمـد عــلــي، مـواصـلـة الـبـنـاء عـلـى ما أسسه جــده. الـروايـة تــدور في اللحظة الفارقة في أواخـر أيــام إسماعيل وقبل أن يتخاذل حكمه ويُضطر للتنازل عــــن الــــعــــرش لابـــنـــه الـــخـــديـــوي تـــوفـــيـــق، مــــا يــفــتــح الـــبـــاب للانتكاسة الثانية للنهضة المصرية الحديثة. نشهد في الــروايــة بـــوادر الــحــراك الشعبي والنهضة الوطنية التي تجسدت في الحركة العُرابية، لكن الـروايـة تستقيل عند تلك اللحظة، الـتـي نـعـرف تاريخياً مـا تـ هـا سريعاً من الاحتلال البريطاني الطويل لمصر. قد تُكتب الرواية التاريخية بهدف تعليمي كما كان الحال في روايـات جورجي زيـدان عن التاريخ الإسلامي، وقد تُكتب بهدف الإسقاط على الحاضر كما فعل نجيب مـــحـــفـــوظ فــــي بـــعـــض روايـــــاتـــــه الـــتـــاريـــخـــيـــة، ولــكــنــهــا فـي الحالي - وكـمـا فـي فـنـون الــروايــة جميعاً - تـهـدف أيضاً إلـى التشويق والإمـتـاع. في روايتي عـراق نجد الأغـراض الـثـ ثـة مجتمعةً. فـي الـروايـتـن عنصر تعليمي خفيف فـــي مـعـالـجـتـهـا لــلــقــرن الـــتـــاســـع عــشــر مـــن تـــاريـــخ مـصـر، وفــي «الأنـتـكـخـانـة» على التحديد نجد مـا يمكن وصفه بالإسقاط على اللحظة الراهنة، حيث إن عصر إسماعيل ارتـــبـــط فـــي الــــوجــــدان المـــصـــري بـسـلـبـيـات الاســـتـــدانـــة من البنوك والـقـوى الأجنبية، وهــي السياسة التي – بغض الـنـظـر عــن غـرضـهـا الأســمــى وهـــو تـحـديـث الـبـلـد و«جـعـل مصر قطعة من أوروبــا» – أدت إلى تنحية إسماعيل عن . يمكن 1882 الـعـرش وانـتـهـت بـالاحـتـ ل البريطاني فـي إذن اعـتـبـار الــروايــة إسـقـاطـ على الأوضــــاع الاقتصادية الحالية في مصر، من جهة أن الدولة غارقة في الديون، ومـنـشـغـلـة بـبـيـع الأصـــــول المــصــريــة إلـــى جــهــات أجـنـبـيـة. ولكن في المحك الأخير فلنقرر أنه إنْ كان الهدف التعليمي واضحاً بذاته، فإن الهدف الإسقاطي مستتر، ويقوم على قدرة القارئ على الربط بي ما يقرأه وبي المشهد المعاصر الذي يعيشه. عـلـى أنــنــي آخـــذ عـلـى الــكــاتــب أنـــه وقـــع تـحـت تأثير ،1919 توفيق الحكيم في ذروة كتاباته الوطنية عقب ثورة وفي ظل النضال ضد الاحتلال البريطاني. ومثل توفيق الحكيم نـراه يعهد لعلماء الآثـار الأجانب بمهمة تمجيد الحضارة المصرية والإنـسـان المـصـري. في روايــة الحكيم )، ثـمـة حــــوار مُــطــوّل 1933( » الـتـأسـيـسـيـة «عـــــودة الـــــروح يستغرق فـصـً كــامــً أقـحـمـه الحكيم إقـحـامـ لأغـراضـه الوطنية المشروعة في حد ذاتها، ولكن ربما غير المشروعة فنياً حيث يُوقف الكاتب السرد ليتخيل حواراً مستحيلاً بــن عــالــم آثــــار فـرنـسـي ومـفـتـش زراعــــة إنــجـلــيـزي. الأول يتغنى بأمجاد مصر القديمة وبـأن الفلاح المصري الذي قـد يبدو جـاهـً متخلفاً الـيـوم، إنما هـو يحمل فـي قلبه حضارة آلاف السني، بينما الثاني - ممثل الاحتلال - لا يكنّ إلا الاحتقار للمصري المعاصر والاستخفاف بـآراء الأثري الفرنسي. هذه «التقنية الوطنية» إن جاز التعبير، استخدمها ناصر عـراق على نحو مماثل في «الأزبكية» حـــــن قـــــــدّم شـــخـــصـــيـــة رسّـــــــــام فـــرنـــســـي يُـــــجِـــــلّ المـــصـــريـــن وحــضــارتــهــم الـعـظـيـمـة وجـــعـــل مــنــه نـقـيـضـ لـلـعـسـكـريـة الــفــرنــســيــة المــحــتــلــة. ومـــــرة أخـــــرى لــجــأ عـــــراق إلــــى نفس «التقنية الـوطـنـيـة» فـي «الأنـتـكـخـانـة»؛ إذ جـنّـد الأثـريـن الفرنسيي والألمــــان للتغني بـأمـجـاد الـحـضـارة المصرية القديمة، بينما ينعون على المصري الحديث تخلفه وعدم تقديره لتراثه الهائل، وإن كان بعضهم يؤمن بأن اليوم آتٍ لا محالة حي يُفيق المصريون من سُباتهم ويدركون قـيـمـة كــنــوزهــم وعـظـمـة أجــــدادهــــم. كـــان لـتـوفـيـق الحكيم أهـــداف وطنية ملحّة حـن لجأ لتلك التقنيات الساذجة منذ ما يقرب من مائة عـام، ولكن يصعُب تصوّر الهدف منها اليوم. على أن هذا ليس العَرَض الوحيد لاقتفاء عـراق أثرَ الحكيم في غير داعٍ. ففي «الأنتكخانة» يقدّم لنا الروائي قصة حب بي الأثـــريّ المصري الشاب أحمد أفندي كمال وبي الفتاة الفرنسية جوزفي القادمة من باريس لتعمل معاونةً لعالم الآثـار الفرنسي مارييت باشا. تبدو قصة لـقـاء بـن حضارتي على نسق قصة الـحـب الشهيرة في ) بـن الشاب 1938( » روايـــة الحكيم «عـصـفـور مـن الـشــرق المــصــري مـحـسـن وبـــن عـامـلـة شــبــاك الــتــذاكــر الـفـرنـسـيـة. المسرح مختلف ولكن اللقاء الجنسي هو ذاتـه. في رواية الحكيم كـان اللقاء لقاءً حضارياً لأن الحكيم أراد للفتى والـــفـــتـــاة أن يـــرمـــز كـــل مـنـهـمـا لــحــضــارتــه حــســب رؤيـــتـــه؛ المـــصـــري ســــاذج بــــريء عــاطــفــي، بـيـنـمـا الـفـرنـسـيـة مـاكـرة مخاتلة مُستغِلّة (هي العلاقة بي مصر وأوروبـا في ذلك الـوقـت)؛ ولذلك فـإن الفتاة تستغل محسن لتأجيج غيرة حبيبها الحقيقي الذي كان اهتمامه بها قد فتَر، فإذا ما تحقق لها غرضها واسـتـعـادت حبيبها، ألـقـت بمحسن جانباً في غير تردّد. في «الأنتكخانة» نجد موقفاً شبيهاً، فجوزفي بعد استسلامها لمغازلة أحمد الملحّة، تـوافِـق على أن تصبح زوجـةً ثانية له (موقف غير محتمل من فتاة فرنسية في ذلـــك الــوقــت أو فــي أي وقــــت)، إلا أنـهـا فــي لحظة الحسم تتراجع وتهجره إلـى فتى فرنسي جـاء به الـروائـي فجأة من لا مكان ليلعب دوراً اصطنعه له قبل أن يختفي فجأة أيضاً. التشابه مع الموقف في «عصفور من الشرق» واضح، إلا أن الرمزية ضعيفة للغاية لأن أحمد كمال ليس بريئاً بل هو مندفع نحو شهواته الجنسية وميله لاستكشاف امرأة من عنصر مختلف، ولا يعنيه في شيء أن له زوجة محبة وأولاداً منها، بل يخونها ويخفي عنها مشروعه في الزواج من امرأة أخرى، ما يجعله صِنواً لجوزفي في المخاتلة. بذلك تصبح العلاقة من حيث قيمتها المجازية في حالة ارتباك بالمقارنة على ما كانته عند الحكيم. يــعــود أحــمــد كـــمـــال، وقــــد رفـضــتـه المـــــرأة الـفـرنـسـيـة، نادماً لأسرته وزوجته البسيطة التي يشرع في تعليمها الـقـراءة والكتابة، إضـافـة لمـا كـان يفتنها بـه مـن حكايات عـــن تـــاريـــخ مـصـر الــقــديــم. تُــــرى هـــل تــرمــز الـــزوجـــة لمصر الجاهلة المتخلفة والزوج للمصري العصري المتعلم الذي يأخذ على عاتقه تعليمها وتمدينها؟ هل ينتقل الروائي هنا من توفيق الحكيم إلى نفحة سريعة من يحيى حقي و«قنديل أم هاشم»؛ إذ يأخذ الطبيب الـدارس في أوروبا على عاتقه علاج وتمدين ابنة عمه فاطمة التي أيضاً ترمز لمصر؟ ربما. التراث الـروائـي يُعمل أثـره جيلاً بعد جيل. ولا بأس أن نجد لوناً من التناصّ هنا أو هناك. المهم أن يضيف الجديدُ إلى القديم ولا يبقى عالةً عليه أو تكراراً له. الروائي هنا مشغول بالحدث وملاحقته السريعة، ما لا يتيح لـه فـرصـة التأني والـتـأمـل والـسـمـاح للوقائع أن تُشكّل معانيها وللشخصيات أن تُبرز دواخلها. تكلمتُ عن عنصرَي التعليم والإسقاط في الرواية. يبقى أن أقــول شيئاً فـي مجال التسلية التي هـي عنصر مطلوب في كل رواية، بشرط أن تكون موظّفة وأن تلتحم بنسيج الـــروايـــة، لا أن تــكــون هــنــاك لمــجــرد الإضـــحـــاك أو الإثــــارة، وهــو مـا لا يحدث فـي «الأنتكخانة»، وبـالأخـصّ الـتـسـلـيـة الـجـنـسـيـة. لا اعـــتـــراض عــلــى الــجــنــس فـــي الـفـن الـروائـي ولا على مـدى الصراحة فيه والتفصيل، بشرط أن يكون جـزءاً من النسيج الـروائـي وأن يكون ذا دور في دفــع الــحـدث أو الـكـشـف عـن الشخصية أو غــيــره. أمـــا في «الأنـتـكـخـانـة» فـيـبـدو أن كــل الــذكــور تقريباً يـعـانـون من الغُلمة ويحركهم الشبق الجنسي، ســواء النجار القاتل الجالب للخادمات الريفيات إلى فراشه كل ليلة، يسرقن التحف من أجله ويمنحنه أجسادهن حتى إذا ما طالبن بالزواج كان نصيبهن القتل والدفن في حديقة الــدار، أو أحمد أفندي الذي يسيل لعابه طَوال الوقت ما بي زوجته المصرية وجوزفي الفرنسية، أو عالم الآثار الألماني الذي يلاحق زوجته في حـالٍ دائمة من الشهوة، ولا يكاد يرى عجيزتها حتى ينسى أبحاثه ومـا هـو بـصـدده مـن عمل ويقوم وراءها... إلخ إلخ. هذه المواقف تتكرر كثيراً، ونادراً ما يكون لها وظيفة اللهم إلا في حالة الفضول الجنسي لأحمد كمال تجاه جوزفي الفرنسية. أخيراً أود أن أتوقف عند اللغة التي أجدها إشكالية في الرواية. يستخدم الكاتب لغة أحادية النغمة لا تتغير قيد أنملة مـا بـن الـسـرد والــحــوار. كما أن لغة الـحـوار لا تتغير مــا بــن شخصية وأخــــرى. لا يـهـم إن كـــان المتكلم متعلماً أو جـاهـ ً، خـواجـة أو مصرياً، سيدة أو خادمة. الــكــل يـتـكـلـم نــفــس الــلــغــة الـفـصـحـى بــــدون أي تـــفـــاوت أو تمييز. لا يهمني أن الــحــوار مـكـتـوب بـالـفـصـحـى، ولكن الفُصْحَيات تتفاوت كما أن العاميّات تتفاوت. وفصحى الحوار لا يجب أن تتساوى بي كل الشخصيات، كما أنها لا يجب أن تتساوى مع فصحى السرد. يُلاحظ أيضاً أنه ليست هناك أي محاولة لمحاكاة لغة القرن التاسع عشر في مصر لا في السرد ولا في الحوار، وهو ما كان حريّاً أن يخلق نوعاً من الواقعية التاريخية في النص. رشيد العناني

RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky