issue16679

الثقافة CULTURE 17 Issue 16679 - العدد Sunday - 2024/7/28 الأحد سنوات كانت كافية لكي يزلزل تاريخ الفلسفة من أولها الى آخرها 10 لماذا جُنّ نيتشه؟ أنْ تــصــل إلــــى قــمــة الــشــعــر كالمتنبي وفيكتور هيغو فهذا شيء مفهوم ومقبول وإن على مضض. أنْ تصل إلى قمة الفكر كــــديــــكــــارت وكــــانــــط وهـــيـــغـــل، فـــهـــذا شـــيء مفهوم ومعقول، وإن على مضض أيضاً. أما أنْ تصل إلى قمة الشعر والفكر في آن معاً فهذا شيء ممنوع منعاً باتاً. هذا شيء لا يحتمل ولا يطاق. هل لهذا السبب جُنّ نيتشه؟ مـن يعلم؟ أم أنـه اقـتـرب مـن السر الأعظم أكثر مما يجب فعميت عيناه؟ 1879 فــي شـهـر مـايـو (أيــــار) مــن عـــام استقال نيتشه من جامعة بـال بسويسرا بـسـبـب أمـــراضـــه الـــعــديــدة المـتـفـاقـمـة على الرغم من أنـه لم يكن قد تجاوز الخامسة والـثـاثـن عـامـ : أي فـي عـز الـشـبـاب. وقد اقــتــنــعــت الـــجـــامـــعـــة بـــظـــروفـــه وحــيــثــيــاتــه وقـــبـــلـــت بـــــأن تـــصـــرف لــــه تـــقـــاعـــداً شـهـريـ متواضعاً يكفيه لدفع أجرة الغرفة والأكل والشرب وشراء بعض الكتب والمراجع. أما الثياب فلم يكن بحاجة إلا إلى أقل القليل: غــــيــــار واحـــــــد فــــقــــط، طـــقـــمـــان وقـــمـــيـــصـــان. وكـفـى الـلـه المـؤمـنـن شــر الـقـتـال. بـــدءاً من تلك اللحظة أصبح نيتشه شخصاً تائهاً مـشـرداً على الـطـرقـات والـــــدروب. بـــدءاً من تـــلـــك الــلــحــظــة أصـــبـــح فــيــلــســوفــ حـقـيـقـيـ وكاتباً ضخماً لا يُشقّ له غبار. لقد بقيت لـــه عـشـر ســـنـــوات فـقـط لـكـي يـعـيـش حـيـاة الــصــحــو. بـعـدئـذ ســـوف يـقـلـب فــي الجهة الأخـــــــرى مــــن ســـفـــح الـــجـــنـــون. ولـــكـــن هـــذه الــســنــوات الـعـشـر كـانـت كـافـيـة لـكـي يضع مؤلفاته الكبرى الـتـي دوخــت العالم منذ مائة وخمسي سنة حتى اليوم. بـدءاً من تـلـك الـلـحـظـة أصــبــح الـعـالـم كـلـه بـوديـانـه الـسـحـيـقـة وغـــابـــاتـــه الـعـمـيـقـة مــثــل كـتـاب مفتوح على مصراعيه لكي يتفلسف عليه. هل يمكن أن يمضي نيتشه حياته كلها في إعطاء الدروس الجامعية بأوقات محددة وإكـــــراهـــــات وظــيــفــيــة مــزعــجــة وتـصـحـيـح أوراق الـطـاب؟ محال. هـذه حياة لا تليق بـفـيـلـسـوف بــركــانــي زلـــزالـــي يــكــاد يتفجر تــــفــــجــــراً... نـــقـــول ذلــــــك، بـــخـــاصـــة أنـــــه كـــان يكره الفلسفة الجامعية وأستاذ الجامعة ويــــعــــدّه «كـــالـــحـــمـــار» الـــــذي يــحــمــل أثـــقـــالاً وأفكاراً جاهزة يكررها على مدار السنوات حــتــى ســـن الــتــقــاعــد. هـــل هــــذه حـــيـــاة؟ هل هــــذه فــلــســفــة؟ عــلــى هــــذا الــنــحــو انـطـلـقـت عبقريته وانفتحت طاقاته الإبداعية على مصراعيها. عشر سنوات كانت كافية لكي يزلزل تاريخ الفلسفة من أولها الى آخرها. كل كتاباتي ليست إلا انتصاراتعلى ذاتي! هــــذا مـــا كــــان يـــــردده بــاســتــمــرار. وهــي بـالـفـعـل انــتــصــارات عـلـى المــــرض والمـخـاطـر والصعوبات. إنها انتصارات على تربيته الأولى بشكل خاص. والأهم من ذلك كله أنها كانت انتصارات على التراث الموروث المتراكم والـــــراســـــخ فــــي الــعــقــلــيــات رســــــوخ الـــجـــبـــال. هنا تكمن الــــزلازل النيتشوية. أيــن أمضى الشهور الأخيرة قبل أن ينفجر عقله كلياً؟ لـقـد أمــضــاهــا فــي مـديـنـة تــوريــن الإيـطـالـيـة الجبلية الـسـاحـرة وهـنـاك شعر بـالارتـيـاح وباسترجاع الصحة والعافية إلـى حد ما. وأظـهـر 1888 لـقـد اسـتـقـر فيها خـريـف عـــام شــهــيــة هـــائـــلـــة لــلــكــتــابــة وتـــفـــجـــرت طــاقــاتــه الإبداعية في كل الاتـجـاهـات. ومـا كـان أحد يتوقع أنـه سينهار بعد أربـعـة أشهر فقط، ولا هو كان يتوقع ذلك بطبيعة الحال. ولكن الأشــيــاء كـانـت تـتـراكـم والانــفـجــار الصاعق قـد اقـتـرب. نـقـول ذلــك بخاصة أنــه استطاع أشهر 5 كـتـب متلحقة فــي ظـــرف 5 تـألـيـف فقط. من يستطيع أن يؤلف كتاباً كل شهر؟ فــلــمــاذا الإعـــصـــار إذن؟ لمــــاذا الانــهــيــار بعد كل هـذه الانتصارات التي حققها على ذاتـــــه وعـــلـــى أمــــراضــــه وأوجـــــاعـــــه؟ هـــل لأنــه أنهك نفسه أكثر مما يجب فانفجر عقله في نهاية المطاف من كثرة التعميق والتركيز؟ هــل الـفـلـسـفـة تـجـنـن إذا مــا ذهـبـنـا بـهـا إلـى نـهـايـاتـهـا، إلـــى أعــمــاق أعـمـاقـهـا؟ هـل يمكن أن ينكشف السر الأعظم لمخلوق على وجه أشهر 5 كـتـب فــي 5 الأرض؟ لا أحـــد يــؤلــف . أم هـل لأنــه قــال كـل مـا يمكن أن 4 أو حتى يـقـولـه ووصــــل إلـــى ذروة الإبـــــداع العبقري ولم يبق له إلا أن ينبطح أرضـ ؟ أم هل لأنه كـــــان مـــصـــابـــ بـــمـــرض الــســفــلــس (الــــزهــــري) الـــذي اعـتـراه منذ شبابه الأول فـي مواخير . أم أن تلك الغاوية 1966 مدينة كولونيا عام الحسناء سالومي جننته؟ أم؟ أم؟ أم؟ والله أعلم. البعض يقولون إنه دفع ثمن هجومه الـصـاعـق عـلـى المسيحية غـالـيـ . ينبغي ألا ننسى أنها كانت ديـن آبـائـه وأجــــداده، وأن والـــده كـان قساً بروتستانتياً وجــده كذلك، وجـــــد جـــــده أيــــضــــ .. إلــــــخ. ومـــعـــلـــوم أن أمـــه فرانزيسكا جن جنونها عندما سمعت بأنه أصبح ملحداً بعد أن كان مؤمناً متديناً بل وتــقــي ورع طـيـلـة طـفـولـتـه وشــبــابــه الأول. فكيف انقلب على كل ذلك؟ كيف انقلب على ذاتــــه وأعـــمـــاق أعــمــاقــه؟ ألـــم يــدفــع ثـمـن هـذا الانـقـاب باهظاً؟ يحق لـه بالطبع أن يفكك الأصولية الطائفية والمذهبية المـوروثـة عن الـــقـــرون الــوســطــى. يـحـق لــه أن يستأصلها من جذورها كما فعل أستاذه فولتير الذي أهــــــداه أحــــد كـتـبـه قـــائـــاً: إلــــى فـولـتـيـر أحــد كبار محرري الروح البشرية. ولكن لا يحق لـــه أن يـسـتـأصـل الــعــاطــفــة الــديــنــيــة ذاتـــهـــا. لا يــحــق لـــه أن يــســتــأصــل أعـــظـــم مـــا أعــطــاه الدين المسيحي من قيم أخلقية تحث على الإحسان والشفقة والرحمة وحـب الآخرين (بي قوسي: وهي قيم موجودة في الإسلم أيضاً إذا مـا فهمناه بشكل صحيح وليس على طريقة الإخوان المسلمي الذين لا شفقة لـــديـــهـــم ولا رحــــمــــة، وإنــــمــــا فـــقـــط طــائــفــيــات ومذهبيات وتكفيرات وتفجيرات). لحسن الحظ فإن أمه لم تطلع على كتابه الأخير عن الدين وإلا كانت قد أُصيبت بالسكتة القلبية على الفور. مــا هــي الـعـائـم الأولــــى الــتــي أرهـصـت بانهياره العقلي؟ تــقــول لـنـا الأخـــبـــار المـوثـقـة مــا فــحــواه: لقد ظل يكتب بشكل عقلني متماسك حتى . ولكن بعد 1888 آخر لحظة تقريباً من عام ذلك ابتدأت عبارات الجنون تظهر وتختلط بـالـعـبـارات العقلية المـتـمـاسـكـة أو الـتـي ما زالــت منطقية متماسكة. ابـتـدأت هذياناته غــيــر المـــعـــروفـــة تــظــهــر رويــــــداً رويـــــــداً. ابــتــدأ يشعر بالبانورايا الجنونية. بـمـوازاة ذلك تضخمت شخصيته وتـحـولـت إلــى هذيان كوني. هل هو جنون العظمة؟ يناير (كانون الثاني) من 6 بعدئذ في ، أي بداية العام الجديد الذي شهد 1889 عام انهياره تلقى البروفيسور الكبير جاكوب بــــوركــــهــــاردت أســـتـــاذ نـيـتـشـه والـــجـــيـــل كله رسالة هذيانية يقول فيها: «الـــــــشـــــــيء الــــــــــذي يـــــخـــــدش تــــواضــــعــــي وحـيـائـي هــو أنـنـي أجـسـد فــي شخصي كل الأشخاص العظام الذين ظهروا في التاريخ. لقد شـهـدت خــال الـفـتـرة الأخــيــرة جنازتي ودفني مرتي في المقبرة»... ما هذا الكلم؟ ما هذا الهذيان؟ ما هذا الجنون؟ من يشهد جنازته ودفنه في المقبرة؟ عــــنــــدمــــا وصــــلــــت هـــــــذه الـــــرســـــالـــــة إلــــى بــروفــيــســور ســويــســـرا الــكــبــيــر اتـــصـــل فـــوراً بــــأقــــرب صــــديــــق عــــزيــــز عـــلـــى قـــلـــب نــيــتــشــه: الــدكــتــور فـــرانـــز أوفـــربـــيـــك وســلـمــه الــرســالــة قــائــاً: لقد حصل شــيء مـا لنيتشه. حـاول أن تفهم. حاول أن تفعل شيئاً. عجل، عجل. وعندئذ هـرع الرجل وركـب القطار فـوراً من سويسرا إلى إيطاليا لكي ينقذ الوضع إذا أمكن. ولكن بعد فوات الأوان. يــقــول مــا فـــحـــواه: عـنـدمـا دخــلــت عليه الـغـرفـة وجــدتــه مستلقياً نـصـف استلقاءة على الأريكة وبيده ورقـة مكتوبة. فتقدمت نـــحـــوه لــكــي أســـلـــم عـلـيـه ولـــكـــن مـــا إن رآنـــي حتى انتصب فـجـأة على قدميه وهـــرع هو نحوي ورمـى بنفسه بي أحضاني. لم يقل كلمة واحــــدة، لـم يلفظ عـبـارة واحــــدة، فقط كـــان ينتحب بـصـوت عـــال والـــدمـــوع تنهمر من عينيه مدراراً. وكل أعضاء جسمه كانت تختلج وتـرتـجـف وهـــو يــــردد كـلـمـة واحـــدة هـــي: اســمــي فــقــط. لـكـأنـه يـسـتـغـيـث بـــي. لم تــكــن الــحــســاســيــة الــبــشــريــة قـــد انــتــهــت فيه كلياً آنــــذاك. لـم يكن عقله الـجـبـار قـد انطفأ كلياً. فيما بعد لم يعد يتذكر إلا أمه وأخته .1900 اللتي أشـرفـتـا عليه حتى مــات عــام (بي قوسي: انظر صورته مع أمه أكثر من مؤثرة). وفجأة شعرت أخته إليزابيت بأنها تمتلك كنز الكنوز: مؤلفاته العبقرية! فقد راحــــت تكتسح ألمــانــيــا كـلـهـا مــن أولــهــا إلـى آخرها في حي أنـه لم يبع منها في حياته أكثر من عشر نسخ. بل وكان ينشرها على حـــســـابـــه الــشــخــصــي عـــلـــى الــــرغــــم مــــن فــقــره وتعتيره. ولكن بعد جنونه بفترة قصيرة ذاع صيته وانطلقت شهرته. ثم راح صوته يخترق كـالـرعـد الـقـاصـف الـسـمـاء المكفهرة للبشرية الأوروبـــيـــة. وأصـبـحـت كتبه تباع بـــالمـــايـــن. بـــل وتـــحـــول كــتــابــه «هـــكـــذا تكلم زرادشـــــــت» إلــــى إنــجــيــل خـــامـــس كــمــا يــقــال. وأقـــبـــلـــت عــلــيــه الــشــبـيــبــة الألمـــانـــيـــة تـتـشـرب أفكاره تشرباً. وقد تنبأ هو بذلك عندما قال: «هــنــاك أنــــاس يـــولـــدون بـعـد مـوتـهـم. سـوف تجيء لحظتي ولكني لن أكون هنا». رسائل الجنون ســـوف أتــوقــف فـقـط عـنـد تــلــك البطاقة الـتـي أرسـلـهـا إلـــى «كــوزيــمــا» زوجـــة صديقه ومعلمه السابق الموسيقار الشهير ريتشارد فاغنر. كل المخاوف والإحـراجـات التي كانت تـمـنـعـه مـــن الـــبـــوح لـهـا بـعـواطـفـه ومـشـاعـره حرره منها الجنون. يبدو أنه كان مولهاً بها منذ زمن طويل عندما كان يزورهم في البيت الــريــفــي ويــمــضــي عــــدة أيــــام فـــي ضـيـافـتـهـم. وحتماً كان يغازلها بشكل خفيف. ولكنه كان حباً عذرياً خالصاً لا تشوبه شائبة. يقول لها في تلك الرسالة الجنونية: «حبيبتي الغالية جداً أميرة الأميرات. مـــن الـخـطـأ اعــتــبــاري شـخـصـ عـــاديـــ كبقية الـنـاس. لقد عشت طويلً بي البشر وأعـرف كل ما يستطيعون فعله من أسفل شيء إلى أعلى شيء. بي الهنود كنت بوذا بشخصه. وعند الإغريق كنت ديونيسوس. والإسكندر المــقــدونــي وقـيـصـر رومــــا هـمـا مـــن تجلياتي أيـــضـــ . وحـــتـــى الـــشـــاعـــر شـكـسـبـيـر والـــلـــورد فـــرانـــســـيـــس بـــيـــكـــون تـــجـــســـدا فــــي شـخـصـي. وكــنــت فـولـتـيـر ونــابــلــيــون وربـــمـــا ريــتــشــارد فاغنر ذاته. لقد تقمصتهم جميعاً. ولــكــن هــــذه المــــرة أجــــيء كـديـونـيـسـوس الـظـافـر الـــذي سيجعل الأرض كلها كـــرة من نـور وحفلة عيد. الـسـمـاوات ذاتـهـا أصبحت تــــرقــــص وتـــغـــنـــي وتـــطـــلـــق الــــزغــــاريــــد مــــا إن وصلت.. وكنت أيضاً معلقاً على الصليب». نيتشه مع أمه هاشمصالح عملصاحب «هكذا تكلم زرادشت» على تفكيك الأصولية الطائفية والمذهبية الموروثة عن القرون الوسطى «في بيت أحمد أمين»... ذكريات الصبا وسطرموز أدبية وفكرية عــــن دار «الــــكــــرمــــة» بـــالـــقـــاهـــرة، صــــدرت طبعة جديدة من كتاب «في بيت أحمد أمي» ،)2014 - 1932( لـلـكـاتـب حـسـن أحــمــد أمـــن الذي يستعيد ذكريات الطفولة والصبا خلل ســـنـــوات نــشــأتــه الأولــــــى، كـــونـــه الابـــــن الأكــبــر - 1886( للمفكر والمـــؤرخ المصري أحمد أمـن ) صاحب مؤلفات «موسوعة الحضارة 1954 الإسـامـيـة» الـتـي تتكون مـن «فـجـر الإســـام» و«ضـحـى الإســــام» و«ظـهـر الإســــام»، فضلً عن سلسلة أجزاء «فيض الخاطر»، ومذكراته الشخصية «حياتي». يتوقف المـؤلـف عند مفارقة أن أصدقاء وضيوف والده الذين يردّ عليهم في التليفون أو يستقبلهم بالمنزل، كانوا من عمالقة الأدب والفكر وجيل المؤسسي في الثقافة العربية. ويـــــــروي كـــيـــف كـــــان يُــــهــــرَع حــــن يـــــدق جـــرس الـتـلـيـفـون، ويـــرد بـصـوتـه الـرفـيـع المتحمس، والـسـمـاعـة الـكـبـيـرة يضعها بـصـعـوبـة فـوق أذنــه: «آلـــو... من حضرتك؟»، فيجيب المتكلم بــــأنــــه عــــبــــاس الــــعــــقــــاد أو تـــوفـــيـــق الـــحـــكـــيـــم، أو مـــحـــمـــود تـــيـــمـــور، ثــــم يــــســــأل: «أحــــمــــد بـك مــوجــود؟»، فيجيب الطفل: «دقيقة واحـــدة»، ثـم يـجـري إلــى المكتبة صـائـحـ : «بــابــا، بابا، محمود تيمور»، فيتوجه والده إلى التليفون، ويــســمــعــه يـــســـأل مــحــمــود تــيــمــور عـــن سبب تـخـلّـفـه عــن حــضــور جـلـسـة المـجـمـع الـلـغـوي، ثـم يسرد عليه مـا دار خللها، وكيف اقترح فيها إقـرار المجمع الكلمة العامية «محندق» لخلو معاجم اللغة من كلمة تعبر عن المعنى نفسه بـدقـة. ويـقـص عليه مـا كــان مـن موقف طـه حسي واعــتــراض لطفي الـسـيـد، ثـم يقرأ عليه رسالة وصلت إليه لتوه من المستشرق الألماني برجشتراسر يُعلّق على ما ذكـره في كــتــابــه «فـــجـــر الإســــــام» مـــن طـبـيـعـة العقلية العربية. ويتناهى إلى سمع الطفل حسي أسماء ابـن خـلـدون والجاحظ والـغـزالـي وابــن رشـد، تُــنــطــق فـــي أُلـــفـــة غــريــبــة وتــتــكــرر عــلــى لـسـان أبـــيـــه، فـكـأنـمـا هـــم أقـــــارب لـلـعـائـلـة أو جـيـران أو مستأجرو أرض. وكثيراً مـا تهتف والــدة حسي إذ يفرغ زوجها من المحادثة التليفونية طالبةً إما أن يشرح لها من هو «ابن عبد ربه»، مؤلف «العقد الفريد»، أو ألا يأتي بسيرته لأن تكرار نطقه بهذا الاسم قد بدأ يغيظها حقاً. وهـــو أحــيــانــ يــعــود مـــن الـــخـــارج يــســأل عمن اتــصــل بــه تلفونياً فتجيب زوجـــتـــه: «اتـصـل بــك ابـــن خــلــدون مــرتــن». ويــســأل أحـمـد أمـن مبتسماً: «هل ترك رسالة؟»، فتجيبه: «نعم، يـقـول إنـــه قــد بـــدأ يتململ فــي قـبـره مــن كثرة تناولك سيرته بالحديث». ويــــشــــيــــر حــــســــن أحـــــمـــــد أمـــــــن إلـــــــى أن أســمــاء: محمود تـيـمـور، مـؤسـس فـن القصة القصيرة في طبعته العربية، ومحمد حسي هيكل، مؤلف أول روايـة عربية، وعبد القادر المـازنـي، الشاعر والكاتب الساخر، وغيرهم، كـانـت مـألـوفـة لـديـه مــذ كـــان فــي الـخـامـسـة أو الــســادســة، وقــبــل أن يــقــرأ لأصـحـابـهـا حـرفـ . وكانت والـدتـه تُقلّد له أصواتهم وطريقتهم في الكلم فيضحك لصدق محاكاتها لصوت الــعــقــاد الــضــخــم، وبــــطء طـــه حـسـن الـشـديـد، وثــــرثــــرة الـــدكـــتـــور عــبــد الـــــــرزاق الــســنــهــوري، الــفــقــيــه الـــقـــانـــونـــي الــــبــــارز ووزيـــــــر المــــعــــارف، وصياح الشاعر علي الـجـارم باسمه فكأنما يعلنه للتاريخ: «أنـــا الــجــارم»، وتَـبـسّـط عبد الـعـزيـز فهمي بــاشــا، أول مــن وضـــع مُــســوّدة الـدسـتـور المـصـري فـي صيغته الحديثة، في الأخذ والرد. وكـــــان أحـــمـــد أمــــن يــقــص عــلــى زوجــتــه وعـلـى مسمع مــن أبـنـائـه أصـــل الـــعـــداء المـريـر بي السنهوري وطه حسي وحيرته بينهما؛ فـكـاهـمـا صـديـقـه الـحـمـيـم، كـمـا يــســرد على الأســــــرة طـــرائـــف عـــن بــخــل تــوفــيــق الـحـكـيـم، ويُثني على أريحية تيمور وسماحته وطيب خلقه، ويشبه لهم أسلوب طه حسي بحلوى «غزل البنات»، كما يقص عليهم ذكرياته عن الـشـيـخ مـحـمـد عــبــده ونــبــأ مـقـابـاتـه لحافظ إبراهيم، أو يتنبأ بمستقبل باهر في الأدب لموظف صغير بـــوزارة الأوقـــاف يدعى نجيب محفوظ. وإن ولدت قطتهم، أسمعهم قصيدة أمير الشعراء أحمد بك شوقي في القطة التي ولـــدت بـحـجـرة مـكـتـبـه، وإذا حـــلّ الـبـاذنـجـان عـلـى طــاولــة الــغــداء أنـشـدهـم قـصـيـدة شوقي الـسـاخـرة «نـديـم الـبـاذنـجـان» الـتـي يـقـول في ِمطلعها: ِكان لِسلطانٍ نَديمٌ واف يُعيد ما قال بلا اختلاف علىضوء هذا وغيره من مئات القصص والتفاصيل عن الحياة الخاصة لهؤلاء الأدباء والـكـتـاب والمـفـكـريـن ولأنــمــاط شخصياتهم، بدأ حسي أحمد أمي يقرأ كتبهم، فهم ليسوا غرباء عليه وباستطاعته حي يقود محمود تيمور إلـى حجرة الاستقبال أن يعبّر له عن إعجابه بروايته «سلوى في مهب الريح»، أو حي يرد على العقاد في التليفون أن يخبره أنــــه قــــرأ لـــه كــتــابــه الــشــهــيــر «عــبــقــريــة عــمــر»، فيداعبه العقاد بقوله: «كم سنك يا جحش؟»، وحــــن يـــعـــرف أن نــجــل صــديــقــه أحـــمـــد أمــن في العاشرة من العمر، يقول: «لا أعتقد أنك فهمته كـل الـفـهـم»، فيتحداه الطفل الصغير الذكي متحمساً: «بل فهمته، واسألني فيه إن أحببت»، فيتهرب العقاد من استمرار النقاش بقوله: «ليس لـديّ وقت لسؤالك فيه. نـادِ لي أباك». وكـــــــــان الــــصــــبــــي حــــســــن يــــجــــد أحـــيـــانـــ صـعـوبـة فــي إقــنــاع والــــده بحاجته إلـــى حُلة أو حــذاء جديد؛ خشيةَ أن يغضبه، أمـا فيما يتعلق بالكتب فالباب مفتوح على مِصراعَيه يشتري منها ما يحب؛ فهو يأذن له أن يأخذ مـن «مكتبة النهضة المـصـريـة»، الـتـي تتولى نشر مؤلفاته، أي عدد من الكتب دون قيد، ثم تحاسبه المكتبة في آخـر العام. وكـان حسي أكــثــر أبــنــائــه اســتــغــالاً لــهــذه الــرخــصــة، ولـم يحدث أن اعترض والده على إسرافه في هذا الاستغلل إلا مرة واحـدة؛ حي قرأ في كشف الحساب السنوي اسم كتاب في تاريخ العالم مـــن خــمــســة عــشــر مــجــلــداً بــلــغ ثــمــنــه أربــعــن جنيهاً، وهـو ثمن باهظ يفوق راتــب موظف كبير في شهر بمعايير ذلك الزمان. ويشير حسي أحمد أمـن إلـى ملحظة مهمة تتعلق بتكوين والده الثقافي: «فقد كان لا يكاد أحــد يجاريه فـي معارفه الإسلمية، وفي إلمامه بتاريخ حضارة الإسلم وعلومها لا سيما في الفلسفة والأدب. أما فيما عدا ذلك فثمة خلل كبير، تـداركـه بعض كتّاب عصره كالعقاد وطه حسي. فهو لا يعرف شيئاً عن الموسيقى الغربية ولا يستسيغها، والأسماء الرنّانة في ميدانها هي عنده مجرد أسماء. وهو لا يكاد يقرأ قصصاً أو مسرحيات غير بــعــض مـــا يــهــديــه إلـــيـــه مـــن مـؤلـفـاتـهـم أدبــــاء عـــصـــره كــتــوفــيــق الــحــكــيــم ومـــحـــمـــود تـيـمـور والــــــروائــــــي الــــشــــاب نــجــيــب مـــحـــفـــوظ تـجـنـبـ لــلــحــرج حـــن يـقـابـلـهـم بـــعـــدهـــا». ولا يعتقد حـــســـن أن والـــــــده قــــد قـــــرأ فــــي حـــيـــاتـــه روايـــــة لتولستوي أو دوسـتـويـفـسـكـي أو مسرحية لمـــولـــيــيـــر، وهـــــو لا يـــعـــرف شــيــئــ عــــن الأوبــــــرا والباليه ولا عن فنّي التصوير والنحت، ولا يظنه زار متحفاً للفنون في مدينة أوروبية إلا من قبيل الواجب. غـيـر أنـــه مـــع كـــل هـــذا الــقــصــور لـــم يكن يـــتـــظـــاهـــر بــعــكــســه ولا كــــــان الأمـــــــر يــــؤرقــــه. كـــل مـــا هــنــالــك هـــو أنــــه حـــن ضــعــف بـصـره ضعفاً شديداً وصــار مهدداً بفقده، وأحـسّ بحسرة شديدة إذ لم يُعْنَ في شبابه بتنمية اهتمامات وهـوايـات مختلفة ولـم يهوَ غير الــقــراءة والكتابة اللتي أصـبـح الآن مهدداً بــــأن يُــــحــــرَم مـنـهـمـا فـــكـــان يــــــردّد قـــولـــه: «لــو أنــي نمّيت فـي نفسي هـوايـة الاسـتـمـاع إلى الموسيقى مثلً، لكان في لجوئي الآن إليها العزاء عن فقد البصر». وقـــــد كـــــان عـــلـــى حــــد عـــلـــم حـــســـن عـلـى علقة طيبة بجميع أدبــاء عصره، ولـم تكن هناك بينه وبي أحدهم ما يشبه الخصومة غير زكـي مبارك، بسبب سلسلة طويلة من المقالات نشرها الأخير في مجلة «الرسالة» بـــعـــنـــوان «جـــنـــايـــة أحـــمـــد أمـــــن عـــلـــى الأدب الـــعـــربـــي»، يــــرد فـيـهـا عــلــى سـلـسـلـة طـويـلـة مـــن المـــقـــالات نـشـرهـا أحــمــد أمـــن فـــي مجلة «الـثـقـافـة» بعنوان «جناية الأدب الجاهلي على الأدب العربي». أما الأديب الأثير عنده الــــذي يـشـبـهـه خـلـقـ وطــبــاعــ فــهــو مـحـمـود تـــيـــمـــور، وكـــثـــيـــراً مـــا كــــان يـجـتـمـع بـتـوفـيـق الـحـكـيـم ســــواء فـــي مـقـهـاهـمـا المــفــضــل على البحر بالإسكندرية فـي أشهر الصيف، أو في اجتماع كل خميس بمقر «لجنة الـتأليف والـــتـــرجـــمـــة والـــنـــشـــر»؛ حــيــث كـــانـــت تلتقي نخبة من مفكري مصر وأدبائها وعلمائها ورجــال التربية فيها. كـان أحمد أمـن يأذن لابنه وهو بعدُ صبيّ في المرحلة الابتدائية بـحـضـور تـلـك الـــنـــدوات. ويــذكــر حـسـن أنـه كلما استفسر مـن توفيق الحكيم عـن كتب يـقـرأهـا أو آداب ينصح بـــأن يـغـتـرف منها، كان ينصحه بأن يركز على الآداب الغربية، ولا بأس من النظر بي الفَينة والأخـرى في «العقد الفريد» أو «الأغاني»، طالباً منه وهو يضحك أن يكتم هــذه النصيحة عــن والــده حتى لا يغضب منه. القاهرة:رشا أحمد توفيق الحكيم طه حسين

RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky