issue16667

الثقافة CULTURE 18 Issue 16667 - العدد Tuesday - 2024/7/16 الثالثاء «أسفل مانهاتن»... استكشاف قاع نيويورك في مغامرة فريدة عـــن دار «الـــعـــربـــي» بــالــقــاهــرة، صــدر كــتــاب «أســفــل مـانـهـاتـن - الـحـيـاة الـسـريـة ملدينة نـيـويـورك»، للمستكشف ومتسلق الــجــبــال إيـرلـيـنـج كــايــج الــــذي تـخـلـى هـذه املرة عن مناطحة قمم الجبال وقرر الهبوط إلى شبكة أنفاق املترو واملجاري ليكتشف الوجه اآلخر لواحدة من أشهر مدن العالم. إنها مغامرة فريدة من نوعها يخوضها كاج برفقة املصور واملؤرخ ستيف دانكن؛ إذ قـــــرر االثــــنــــان رصـــــد عـــالـــم كـــامـــل مـــــواز لـعـاملـنـا وإن كـــان خـفـيـا ومــحــجــوبــا، لكنه مليء بالحكايات اإلنسانية لبشر جعلوا من تلك األماكن الضيقة املظلمة التي تفوح بروائح كريهة موطنا بديال لهم. يتضمن الـكـتـاب مـسـيـرة استثنائية وســــــــــــــــــــــــــــط الــــــــــــــظــــــــــــــ م واألصـــــــــــــوات الـــبـــعـــيـــدة الـــــقـــــادمـــــة لــــلــــســــيــــارات مــــــــــــن أعــــــــــلــــــــــى بــــــطــــــول نــــيــــويــــورك مــــن مـحـطـة «برونكس» إلى محطة حـــــي «مــــانــــهــــاتــــن»، ثـم مـــحـــطـــتـــهـــمـــا األخـــــيـــــرة «املـــحـــيـــط األطـــلـــســـي». ومـــــــن خـــــــ ل الــــوصــــف األدبــــــــــــــــــــــــــي والـــــــــحـــــــــس الـــــروائـــــي فــــي تـقـنـيـات الكتابة املشبع بالرؤى والـــتـــأمـــ ت الـفـلـسـفـيـة يـــنـــفـــتـــح أمــــــــام الــــــــراوي واملصور عالم كامل لم يتم استكشافه من قبل، يؤكد إيرلينج أنه تجسيد بديع ملا يصفه بـ«الجمال السلبي» الـــــذي يــتــكــون مـــن غـــيـــاب الـــلـــون والـــضـــوء والنظام الطبيعي. يصادف املؤلف خالل رحـلـتـه تـحـت األرض أشـخـاصـا يعيشون حـــيـــواتـــهـــم كــلــهــا فــــي األســــفــــل، مـنـقـطـعـن عـــن عــاملــنــا مـكـتـفـن بــكــل مـــا يــجــدونــه في طـريـقـهـم، راضــــن عــن حـيـاتـهـم بـعـيـدًا عن صخب الحياة فــوق األرض، ومـدركـن ملا يحيط بهم من مخاطر. يُــذكــر أن إيـرلـيـنـج كــايــج عــــ وة على أنــــــه مــســتــكــشــف ومـــتـــســـلـــق لـــلـــجـــبـــال هـو أيـضـا كـاتـب ونـاشـر ومــحــام نـرويـجـي من . وهو أول من وصل إلى 1963 مواليد عام الـقـطـب الـشـمـالـي والــجــنــوبــي وقــمــة جبل إفـــرســـت ســـيـــرًا عــلــى األقــــــــدام. بــــدأ حـيـاتـه العملية بالعمل في املحاماة وكان شغوفا باملغامرات واألدب، فدرس الفلسفة وأسس دار «كايج فوالرج» للنشر في أوسلو، وبدأ في نشر كتب املغامرات التي سجل فيها رحــ تــه ومــغــامــراتــه. ويـعـد كـتـاب «أسـفـل مــانــهــاتــن» مـــن أشــهــر كـتـب كـــاج وأكـثـرهـا مـــبـــيـــعـــا وقـــــــــــــراءة. كـــتـــبـــت عــــنــــه صــحــيــفــة «الـغـارديـان»، مؤكدة أنه من أفضل عشرة كـــتـــب فــــي الـــعـــالـــم، كـــمـــا وصـــفـــت صـحـيـفـة «نــيــويــورك تـايـمـز» كـايـج بـأنـه رجـــل رائــع ومغامر، فيلسوف أو ربما حتى عالم. ومن أجواء الكتاب نقرأ: «فور نزولي الحفرة، أعدت غطاء البالوعة إلى مكانه فـوق رأســي وأصـــدر الغطاء صـوت رني وبعدها أحــاط الظالم الـدامـس بنا. كان بإمكاني سماع صوت خرير ماء الصرف على بعد خمسة أو ستة أقـــدام أسفلنا. أخـــرجـــت مــصــبــاحــي الــــيــــدوي مـــن جيب حزامي وقمت بتشغيله وأكملت نزولي. كان املمر ضيقا ووقف ستيف ينتظرني فـــــــي األســــــــفــــــــل، ســـمـــح الـنـفـق بـالـكـاد بـوجـود شــخــصــن فـــيـــه، وكـــان مصنوعا من األسمنت ويـبـلـغ ارتــفــاعــه ثـ ثـة أقـــــدام وعـــرضـــه كــذلــك. كـــانـــت درجـــــة الـــحـــرارة أكــــــــثــــــــر دفــــــــئــــــــا بـــــعـــــدة درجــــــــــات عـــــن املـــعـــتـــاد بــســبــب مـــيـــاه الــصــرف مع كثافة الهواء ونفاذ الرائحة النتنة. لم أعد أرى ســـتـــيـــف أمــــامــــي؛ إذ انــــحــــنــــى وانـــطـــلـــق فــي طـريـقـه إلـــى شــارع الـــــقـــــنـــــاة، لــــطــــاملــــا حــلــم ستيف باكتشاف هذا الجزء من املدينة. قمت بتشغيل مقياس الهواء املثبت على جـيـبـي األيــمــن فـظـهـر الـقـيـاس أنـــه صفر لألكسجي. 9. 20 للغازات السامة و كـــانـــت بـيـئـة مــثــالــيــة، جـثـمـت وبــــدأت رحلتي إلــى األمـــام بظهر منحن وأذرعـــي أمامي لكي أقلل من املساحة التي يشغلها جسدي قدر اإلمكان. كان التقدم إلى األمام صعبا وواجهت صـعـوبـة فــي الـتـنـفـس. تحركنا بـبـطء في اتـــجـــاه تـــدفـــق مـــيـــاه الـــصـــرف نـفــســهـا. في تلك الساعة املتأخرة من الليل كان معظم مـا يتم التخلص منه هـو مياه الغساالت واألحـواض وليس فضالت املرحاض. قال ستيف: - إنـه وقـت مثالي الستكشاف قنوات الصرف. كـان صـوت قطرات مياه الصرف واندفاعها رتيبا، فضال عن ضجيج املرور فوقنا في شارع جرين. القاهرة: «الشرق األوسط» الخطاب الغربي السائد أهمل مصطلح «اليوناني المُتمصِّر» كفافي: اسكب عاطفتك المصرية في لغة أجنبية لعل إعادة افتتاح منزل قسطنطي كفافي 29 - وُلد لوالدين يونانيي في اإلسكندرية في أبريل 29 ورحـل في 1863 أبريل (نيسان) عـام - فـــي ثـــوبـــه الـــجـــديـــد بــاإلســكــنــدريــة 1933 عــــام فـي مايو (أيـــار) مـن هـذا الـعـام مناسبة لزيارة نصوصه مـجـددًا وإن لـم نكن يـومـا فـي حاجة إلى ذريعة لكي نتآنس به. وقد جرت العادة في النقد الناطق باإلنجليزية بــأن يتم التعريف بـكـفـافـي بـصـفـتـه يــونــانــيــا ســكــنــدريــا وإهــمــال مصطلح «اإلجيپتيوت» أي اليوناني املُتمصِّر الــذي كـان هـو مـن صكَّه بحسب معاصريه من النقاد اليونانيي ومنهم ميماس كواليتس. ومـــــــا هـــــــذا الــــتــــغــــاضــــي عـــــن تـــجـــلـــيـــات هـــويـــتـــه «اإلجيپتيوت» إال شــذرة مـن الخطاب الغربي الــســائــد عـــن الــكــوزمــوبــولــيــتــانــيــة الـسـكـنـدريـة الــــذي يـعـلـي مـــن شــــأن كـــل مـــا هـــو أوروبــــــي في املــديــنــة، كـمـا حـاجـجـت فــي كـتـابـي الـــذي صـدر عــن دار نـشـر جامعة 2013 بـاإلنـجـلـيـزيـة عـــام فـــــوردهـــــام، والــــــذي صـــــدرت تــرجــمــتــه الـعـربـيـة عـــن «املـــركـــز الــقــومــي لـلـتـرجـمـة» تــحــت عــنــوان «الــكــوزمــوبــولــيــتــانــيــة الــســكــنــدريــة: أرشـــيـــف» بترجمة عبد املقصود عبد الكريم وبمراجعتي العام املاضي وأستقيه في هذا املقال. لـــــيـــــس مـــــــن شـــــــك فـــــــي أن اإلســـــكـــــنـــــدريـــــة الــحــديــثـة كــانــت ومــــا زالــــت تــزخــر بـمـمـارسـات كوزموبوليتانية تشهد عليها مثال النصوص السيرذاتية ليوسف شـاهـن وإدوار الـخـراط. إال أن ما أطرحه هو أن الخطاب األوروبـــي عن الـكـوزمـوبـولـيـتـانـيـة الـسـكـنـدريـة مــتــواطــئ مع االســتــعــمــار بـتـقـديـمـه لــإســكــنــدريــة الـحـديـثـة شـــبـــه الــكــولــونــيــالــيــة - وذلــــــك بــالــتــركــيــز عـلـى الــجــالــيــة الــيــونــانــيــة - بـوصـفـهـا تـعـيـد إنــتــاج العصر الذهبي للمدينة الهلينستية مع الحط مـن شـأن كـل مـا هـو مصري - عـربـي. ومـن هنا يــكــرس الـنـقـد األنــجــلــوفــونــي هـــذا الــثــ ثــي من األدبـــــــاء: كــفــافــي وإ. م. فـــورســـتـــر وولــــورانــــس داريـــــل، بـاعـتـبـارهـم عــيــون األدب الـسـكـنـدري، ويــؤول نصوصهم على أنها متفقة ومتوافقة مع هـذا الخطاب، وهـي ليست كذلك بحال من األحوال. ومن ثم تُدرَج نصوص كفافي في ذلك الخطاب ذي املركزية األوروبــيــة كهمزة وصل بي اإلسكندرية الحديثة واملدينة الهلينستية، ويـــــصـــــور شــــعــــره بــــأنــــه ال يُــــعــــنــــى بــــالــــعــــرب - اإلســـكـــنـــدريـــة مــنــذ الــفــتــح الـــعـــربـــي حــتــى حكم محمد عـلـي - واملـصـريـن فــي الـفـتـرة الحديثة على اعتبارهم برابرة. إال أن نـــصـــوص كـــفـــافـــي، شـــعـــرًا ونـــثـــرًا، تناقض جذريا هذه القراءات االختزالية. بينما تــنــم بــعــض نــصــوصــه عـــن نـــظـــرة اسـتـشـراقـيـة مبنية على ثنائيات متقابلة أتناولها بإسهاب فـــي كـــتـــابـــي، أرى أيـــضـــا أن أعـــمـــالـــه الـشـعـريـة والـنـثـريـة تــطــرح كــذلــك هــويــات مــتــعــددة، غير ثـــابـــتـــة ومـــنـــفـــتـــحـــة عـــلـــى بــعــضــهــا بـــعـــضـــا فـي مـــتـــصـــل تــتــجــلــى فـــيـــه حــســاســيــة يـــونـــانـــي مـن الــشــتـــات. لـضـيـق املـــســـاحــة؛ أقــتـصــر هــنـا على ثالثة نصوص يتضح فيها تماهي كفافي مع املصريي بصفته يونانيا متمصرًا. فـــــي قــــصــــيــــدة «عـــــــن أمــــونــــيــــس مـــــــات فــي » نلتقي 610 الــتــاســعــة والـــعـــشـــريـــن، فـــي عــــام مجموعة شبان سكندريي قد يكونون مثليي يـتـوسـلـون إلـــى شـاعـر اسـمـه رافـايـيـل أن يبذل أقـــصـــى مــــا فــــي وســـعـــه لــيــصــقــل املـــرثـــيـــة الــتــي سيكتبها لشاهد قبر الشاعر املتوفى. يحيلنا ، إلى نهايات الحكم البيزنطي 610 التاريخ، عام في مصر بضعة عقود قبل الفتح العربي، كما يـشـيـر اســــم أمــونــيــس إلــــى شــــاب قــبـطــي، مثله مثل رافاييل من الصفوة املصرية التي تكتب باليونانية، اللغة األدبية السائدة. الالفت، أن مجموعة الشبان - وذلـك بعد مرور ما يقرب على ألف عام بعد فتح اإلسكندر ملصر - غير مُتأغرقي؛ فهم يناشدون رافاييل: «إغريقيتك جميلة وموسيقية دائـمـا. / لكننا بحاجة اآلن إلى كل مهارتك/ ففي لغة أجنبية سوف ينتقل حزننا وحبنا، / اسكب عاطفتك املـــصـــريـــة فــــي لـــغـــة أجـــنـــبـــيـــة... بــحــيــث يـكـشـف اإليــقــاع وكـــل جملة أن إسـكـنـدرانـيـا يكتب عن إسـكـنـدرانـي» (فــي ترجمة بشير السباعي في «آه يا لون بشرة من ياسمي»!). مـــــن املـــــدهـــــش أن تـــشـــيـــر الـــقـــصـــيـــدة إلـــى اليونانية مرتي بـ«لغة أجنبية» كما يـرد في األصـــل الـيـونـانـي. كفافي إذن ينظر إلــى لغته األم مـن خــ ل أعــن مـن يظلون خـــارج مجالها ويــخــلــق مــتــصــ يــربــطــهــم، مــــــرورًا بــالــشــعــراء املـــصـــريـــن املـــتـــأغـــرقـــن، بـــالـــشـــاعـــر الــيــونـــانــي املـتـمـصـر. والـقـصـيـدة فــي رأيــــي «عـــن إمكانية نــصــيــة عــبــر ثـــقـــافـــيـــة... مــصــريــة - يــونــانــيــة». ومـن هنا تجعل القصيدة اإلسكندرية - ليس الشعر اليوناني - فضاء أمثل إلبداع كتابة عبر ثقافية. 2 ،1906 يونيو 27« كتب كفافي قصيدة ، أي أن حادثة دنشواي 1908 بعد الظهر» عام ظــلــت تـشــغـلـه ألكـــثـــر مــــن عـــــام ونـــصـــف الـــعـــام. والقصيدة تصف لحظة شنق يوسف حسي سليم (وقـــد كتب الشاعر اسـمـه فـي مخطوطة لــلــنــص) وهــــو اصـــغـــر الــــرجــــال األربــــعــــة الــذيــن أعــدمــهــم الـبـريـطـانـيـون وتـتـمـحـور حـــول أسـى أمه وانهيارها. «حِي جَاء املسيحيُّون بالشَّاب الــــبــــريء ذي الـــسَّـــبـــعَـــة عـــشـــر عـــامـــا لِــيَــشــنُــقُــوه، زَحَــفَــت أُمُّــــه، الـقَــرِيـبَــة مــن املِــشْــنَــقَــة، / وَارْتَـــمَـــت عـــلـــى األرض» (فـــــي تـــرجـــمـــة رفـــعـــت ســـــ م فـي «قـــســـطـــنـــطـــن كـــڤـــافـــيـــس األعــــــمــــــال الـــشـــعـــريـــة الكاملة»). اختيار كفافي مفردة «املسيحيون» في رأي رجاء النقاش، في كتابه «ثالثون عاما مع الشعر والشعراء»، «يقصد... السخرية من اإلنجليز، فاملسيحية تعني الرحمة والتسامح واملحبة، ولكن اإلنجليز تصرفوا في دنشواي بـمـنـتـهـى الــقــســوة والـــوحـــشـــيـــة». ونــلــمــس في املـــــفـــــردة أيـــضـــا - إذ تــعــكــس نـــظـــرة الـــقـــرويـــن املـسـلـمـن إلـــى الـبـريـطـانـيـن - الـتـمـاهـي نفسه الــــذي رأيـــنـــاه فـــي عـــبـــارة الـــ«لــغــة أجـنـبـيـة» في قصيدة «عن أمونيس». أتــــفــــق مـــــع ســــتــــراتــــيــــس تـــســـيـــركـــاس، الـــروائـــي والــنــاقــد الــيــونــانــي املـتـمـصـر، في » تستلهم 1906 يــونــيــو 27« تــرجــيــحــه أن املــواويــل الشعبية عـن دنــشــواي - وتـــرد في أحـــد هـــذه املـــواويـــل دونـــه پيير كـاكـيـا لفظة «الــنــصــارى» إشــــارة إلـــى اإلنـجـلـيـز - وليس القصائد التي كتبت عن الحدث بالفصحى. لـــــــذا؛ وبـــعـــكـــس تــــرجــــمــــات الـــقـــصـــيـــدة الــتــي اســـتـــخـــدمـــت الــفــصــحــى لـــعـــديـــد األم، آثــــرت أن أتـــرجـــم األبـــيـــات إلــــى الــعــامــيــة املــصــريــة: «ســـبـــعـــتـــاشـــر ســـنـــة بــــس عــيــشــتــهــومــلــي يـا ضـنـايـا»، ثــم، بعد شنقه فـي ذروة لوعتها «سبعتاشر يوم بس... سبعتاشر يوم بس اتهنيت بـيـك فيهم يــا ضـنـايـا». وأرجّــــح أن كفافي كان يعرف شيئا من العامية املصرية، فـــمـــثـــ فــــي قــصــيــدتــه «شـــــم الـــنـــســـيـــم» - عـن مظاهر االحتفال في اإلسكندرية في املكس والقباري ومحرم بك واملحمودية - ترد كلمة «مغني» مكتوبة بالحروف اليونانية. جانب من متحف كفافي في اإلسكندرية هالة حليم الفن إبداع ال اكتشاف ليسوا بالقلة من يـرون أن الفلسفة يجب أن تكون خادمة للعلم، وأن عليها أن تصمت ما عـدا طـرح األسئلة عليه لكي يجيب هو عنها. نحن نتحدث عن أناس من أذكى أذكياء العالم من أمثال ويـ رد كواين ولودفيغ فتغنشتاين وفالسفة الوضعية عموما. ومع ذلك، فاألقرب أنـــهـــم مــخــطــئــون فـــي هــــذا الـــتـــقــريــر؛ ألن الـعـلـم بـطـبـعـه جــزئــي يــحــتــاج إلــــى مـــن يـمـلـك الــرؤيــة الكلية الشاملة التي ترى اللوحة كاملة، وهذا ال يــوجــد إال عـنـد الـفـيـلـسـوف املــثــالــي. كـــم من عـالِــم يُــشـار إليه بالبنان، لكنه مـا إن يتجاوز تخصصه املعملي أو النظري ويتفلسف، حتى يـأتـي بــــاآلراء الـغـريـبـة والــتــصــورات الـقـاصـرة. وهــــذا يصيبنا بـصـدمـة؛ ألنــنــا نتخيل أن من ســـار عـلـى نـهـج الـتـجـربـة العلمية ال يـمـكـن أن يخطئ. ونحن مخطئون في هذا. يـبـدو أن هـنـاك نـوعـا مــن الـغـلـو والتأليه لــلــعـــلـــم فـــــي أزمــــنــــتــــنــــا، وهـــــنـــــاك انـــــدفـــــاع كـبـيـر لـتـقـديـس جــديــد ملــا يسميه هـايـدغـر وغــادامــر «طريقة التفكير الحسابي» املبني على األرقام والـريـضـنـة. هـو عظيم فـي اكـتـشـاف الطبيعة، لكنه ليس بصالح للتعاطي مع اإلنسان. ولـــعـــل أكـــثـــر الـــنـــاس غـــلـــوًّا فـــي الــعــلــم هم أولئك الذين لم يقرأوا تاريخه جيدًا وكيف بدأ صغيرًا ممزوجا بالخرافات، كخرافة القيثارة الفيثاغورية التي زعم أن اآللهة تعزف عليها. ثــم تـضـخـم بـعـد الـــثـــورة الـعـلـمـيـة الــتــي انتهت بموت نيوتن، ثم كيف انتهى األمر إلى النسبية كما يطرحها توماس كون الرافض فكرة تطور العلم املطرد. لعله مـن الحسن أن نتفلسف قليال على ثنائية الـعـلـم والــفــن، وأن نسلط الــضــوء على الـفـن وأن نتحسس مــا يعنيه. الـحـيـاة ليست كلها علما، بل ما أقل مساحة العلم، الطبيعي، موضوع الحديث، في حياتنا، إذا ميزنا بينه والــتــكــنــولــوجــيــا. فــالــتــكــنــولــوجــيــا هـــي اآلالت واألنظمة والوسائل التي تهدف إلى التجميع والـتـخـزيـن ونـقـل الـطـاقـة واملـعـلـومـات وليست العلم نفسه، وإنما هي التي تمد العلم باملعدّات التجريبية. فــي عـاملـنـا الــعــربــي، هــنــاك عـــدد قـلـيـل من املـخـتـصـن الـــذيـــن يـكـتـبـون عـــن ثـنـائـيـة الـعـلـم والـــفـــن. الــفــن عــلــى درجـــــة عــالــيــة مـــن األهــمــيــة، خــصــوصــا، عــنــدمــا نـنـتـبـه إلــــى عـمـيـق تـأثـيـره على اإلنسان، وعلى درجة احتياجنا إليه. لعل السبب في هذا هو أننا ما زلنا ال نحترم الفن حقا كما يستحق. مـع موافقتي على أن الفن إنما هو للمتعة املجردة، إال أن هذه املتعة في حـاجـة إلــى تقدير أكـبـر. ال يليق أبـــدًا أن ننظر إلــى الفنان على أنــه مـجـرد شخص نستأجره ليسلينا بعض الوقت. ما أريــد أن أسلّط عليه الضوء اليوم هو أن ثمة مزية للفن على العلم، قد ال تلتفت إليها الـنـظـرات العجلى؛ فالعالم الطبيعي يكتشف حـقـائـق مـوضـوعـيـة مـــوجـــودة مــن قـبـلـه. إن لم يكتشفها علماء عصرنا فسيكتشفها علماء العصور املقبلة. الحديد يتمدد بالحرارة، ولن أقول املعادن كلها تتمدد بالحرارة؛ ألننا لسنا على يقي من أال نكتشف معدنا ال يتمدد أبدًا. هذه حقيقة موضوعية، من ضمن املوضوعات الــــواقــــعــــيــــة الــــتــــي تـــتـــمـــيـــز بـــصـــفـــات وعــــ قــــات موجودة خارج اإلنسان ومستقلة عنه. مع أنه من املمكن أن نتحدث عن موضوعية انعكاس الواقع عند البشر، أي يمكن أن نتكلم عن وجود مــضــمــون مــوضــوعــي فـــي الـــذهـــن الـــبـــشـــري، ما دام أن هـذا املضمون هو انعكاس موضوعات العالم الخارجي. أما الفن، فال يوجد فيه حقيقة موضوعية على اإلطالق، هو شيء ذاتي باملرة، وهو يُخلق من ال شيء، وهو ال يكتشف شيئا كان موجودًا قبله. عمل مــــوزارت كله إبـــداع على غير مثال ســابــق، وال يــوجــد فـيـه اكـتـشـاف لـكـنـوز كانت مدفونة؛ فالكنز هو عبقريته فقط، ولو لم يولد موزارت لحُرمنا لألبد من اثني وعشرين عمال أوبراليا وواحدة وأربعي سيمفونية لم يسمع الـعـالـم مثلها قـــط. لــو لــم يـوجـد مــــوزارت فهذا معناه أن فنه سيكتسب صفة الـعـدم. العدم ال اسم وال صفة له سوى أنه عـدم، لم ولن يدخل عالم الوجود. لـــو لـــم يــولــد فـرنـسـيـس فــــورد كـــوبـــوال ملا أمكن على اإلطــ ق تحويل روايــة ماريو بوزو «العرّاب» إلى هذه التحفة الفنية الخالدة التي تصنف على أنـهـا أفـضـل عمل فني سينمائي فـي كـل تـاريـخ السينما. ولــو لـم يـولـد مـارلـون براندو لبقي املمثلون ربما على طريقة التمثيل املسرحي القديمة التي تجبر املمثل على القيام بكثير من الحركات الجسدية التي تبدو اليوم مضحكة. تكمن عبقرية براندو في أنه صاحب فـــكـــرة «عـــيـــش الــــــدور» بـمـعـنـى أن يـنـسـى ذاتـــه الحقيقية ويتقمص الشخصية فعال في شهور التصوير، فيخلد للنوم باكرًا إن كان يتقمص شخصية رجـــل عــجــوز، ويــزيــد وزنـــه إن كانت الشخصية لـرجـل سـمـن ويـعـيـش فــي السجن لـفـتـرة إن كـــان يمثل دور سـجـن. هـــذه الفكرة اإلبـداعـيـة انتقلت إلـى أجـيـال مـن الفناني ولم تكن لتصبح حقيقة لــوال بــرانــدو. لــوال هـؤالء العظماء - أعني كـل فنان مميز فـي كـل حقل - ألصبح ثمة قصور في التصوير الفني للعالم. أمر آخر قد يكون من املناسب قوله هنا، لكي يحافظ الفن على طبيعته املطلقة اإلبداعية الذاتية التي ال عالقة لها باكتشاف املعارف، ال بد من إبعاده عن اآليديولوجيات. إن كان له من أهــداف فهي أهــداف الفنان الخاصة ومـا يريد إيصاله من رسائل. الفن لم يوجد لكي يتقدم بدالالت معرفية وال لتطوير برامج تربوية وال حـتـى أن يـخـدم الـحـاجـات العملية للمجتمع، فـالـفـنـان، أوال وأخـــيـــرًا، وُجــــد لـكـي يــكــون حُـــرًّا فـي مجتمعه، ال أن يـكـون رسـالـيـا مـن أي نوع كــان. الفن شـيء روحـانـي أو قل هو تعبير عن الـــروح واإلرادة واإللــهــام والـشـعـور، وقــد يعبر عـن الـ شـعـور واالنـفـعـاالت النفسية الخاصة للفنان الفرد. هكذا هو وهكذا يحسن أن يبقى. مارلون براندو في فيلم «العراب» خالد الغنامي الخطاب األوروبي عن «الكوزموبوليتانية السكندرية» متواطئ مع االستعمار

RkJQdWJsaXNoZXIy MjA1OTI0OQ==