issue16652

وُلـد قسطنطني كفافيس في مصر سنة ألسرة يونانية استقرت في اإلسكندرية 1863 فـــي أوائــــــل الـــقـــرن الـــتـــاســـع عـــشـــر، وأثــــــرت من الـــتـــجـــارة قــبــل أن تـنـضـب مــــواردهــــا ويـتـبـدد إرثـهـا بعد وفــاة األب. عـاش كفافيس حياته كلها في اإلسكندرية (فيما عدا بضع سنوات مـــن طـفـولـتـه قــضــاهــا فـــي لـــنـــدن حــتــى عـــادت بــه أســرتــه فــي ســن الـتـاسـعـة)، وعـمـل موظفًا بـسـيـطـ لــــدى الــحــكــومــة املـــصـــريـــة فـــي وزارة األشـــغـــال الــعــامــة حــتــى تــقــاعــده ووفـــاتـــه عن ، حـيـث دُفـــن في 1933 سبعني عـامـ فــي سـنـة اإلسكندرية، واليوم يحمل الشارع الذي عاش فيه اسمه وتحولت شقته إلى متحف. إال أن شيئًا مـن حـيـاة مصر أو ثقافتها أو ناسها لم يكد يتسلل إلـى شعره رغـم هـذه املعايشة الطويلة. عـاش عمره كامال في اإلسكندرية، إال أنــه عــاش أجنبيًا، يـونـانـيـ، منغلقًا على التاريخ اليوناني والروماني القديم واإلرث األدبـــــــي واألســـــطـــــوري لــتــلــك الـــثـــقـــافـــة، ورغــــم أن الـــتـــاريـــخ الـــيـــونـــانـــي والــــتــــاريــــخ املـــصـــري وحضارتيهما امـتـزجـا فـي مـراحـل عــدة منذ اإلســـكـــنـــدر األكـــبـــر الـــــذي أســــس اإلســكــنــدريــة 323( ومــنــذ حــكــم الــبــطــاملــة الــــذي تــلــى مــوتــه ق.م.)، إال أن هذا االمتزاج القديم واالحتضان املـصـري للثقافة الهيلينية لـقـرون طويلة لم يتسلل إلـــى الــواعــيــة الـشـعـريـة لـذلـك الشاعر اليوناني املحدث. لعل هذا لم يكن بالشيء الغريب تمامًا في مدينة كوزموبوليتانية مثل اإلسكندرية كانت في أواخر القرن التاسع عشر والنصف األول من القرن العشرين تموج تحت االحتالل البريطاني بشتى األجناس واللغات واألديان مــن أقــطــار أوروبـــــا، وقـــد يـنـعـزل بعضها عن الــبــعــض، وإن اشـــتـــرك الـجـمـيـع فـــي االنـــعـــزال املتعالي عن املصريني. ربما ال يُستغرب هذا كله فـي وســط كوزموبوليتاني كولونيالي، لــكــنــي أســتــغــربــه مـــن نــفــس شــــاعــــرة، دارســــة للتاريخ والحضارة، املفروض فيها االنفعال بـمـا حــولــهــا، وأن تـصـل الــحــاضــر بـاملـاضـي. لذلك اندهشت دهشة شديدة حني استجبت مــــؤخــــرًا لـــفـــضـــول مـــعـــرفـــي قـــديـــم لــــم يُـــتـــح لـي إشباعه من قبل، فضول نحو استكشاف هذا الـشـاعـر الـيـونـانـي «املــصــري» اإلسـكـنـدرانـي، الذي ظننت أنني أستطيع أن أعده ابن بلدي على نحو ما. فحصلت على ديوانه الشعري الـكـامـل مترجمًا إلــى اإلنجليزية لألكاديمي ، فــقــرأتــه من Daniel Mendelsohn األمــريــكــي الــــغــــ ف إلـــــى الــــغــــ ف مــــع املـــقـــدمـــة املـسـهـبـة لـلـمـتـرجـم املـتـخـصـص وشـــروحـــه وهـوامـشـه التي فاقت في طولها مجمل قصائد كفافيس، الــــــذي يــقــصــر إنـــتـــاجـــه الـــشـــعـــري الـــكـــامـــل عـن ثالثمائة قصيدة قصيرة، أغلبها ال يتجاوز الصفحة الواحدة. أقبلت على الــقــراءة بمزيد الشغف كما يحدث لي كلما شرعت في استكشاف كاتب أو شــاعــر جــديــد عـــلــيَّ، خـصـوصـ إن كـــان ذا مكانة تاريخية وشهرة واسعة وإجالل نقدي. إال أني كنت كلما أمعنت في التوغل في عامله الشعري، تناقص شغفي وتعاظمت دهشتي أنــي ال أجــد فـي ذلــك االســـم الكبير شيئًا مما كـــنـــت أتــــوقــــعــــه. أُحــــبــــطــــت وخــــــاب أمـــلـــي ولـــن يمنعني من التنويه بذلك املقام العالي الذي رفعه إليه مؤرخو األدب اليوناني ودارسوه. كـــاد الـــديـــوان يخلو مــن قـصـيـدة واحـــدة يـــمـــكـــن أن تـــلـــصـــق بــــــالــــــذاكــــــرة الـــــفـــــرديـــــة أو الــجــمــاعــيــة، كــمــا الـــحـــال دائـــمـــ مـــع الــشــعــراء العظام، بل لم أجد أبياتًا مفردة تقبس حكمة كـــبـــرى أو فـــكـــرة مـــتـــفـــردة تــظــل تــــــراود الــذهــن وتقفز إلى الواعية إذا ما استدعتها التجربة املُعاشة، ناهيك عن أن شعره يكاد يخلو من الــصــور واألخــيــلــة واالســـتـــعـــارات الـتـي تثري التجربة البشرية، وتقيم الصلة بني عوالم من اإلدراك مـا كنا نتصور وجـــود الصلة بينها حتى يكشف عنها لنا شاعر ذو حس مرهف. فـكـيـف يـكـتـب كـفـافـيـس الــشــعــر؟ شـعـره قائم على السرد األجــرد ملواقف أو شخوص تــاريــخــيــة أو أســـطـــوريـــة، إبــــان لـحـظـة لحظة فارقة. ومن أين يستقي ذلك؟ كله من التاريخ اإلغــريــقــي والـــرومـــانـــي الـقـديـم ومـــن أسـاطـيـر هـاتـ الـحـضـارتـ . هـــذا شـاعـر كـــان يعيش في عالم يموج باالضطرابات الكبرى وعاصر الـــحـــرب الـعـاملـيـة األولـــــى كـمـا عــاصــر صـعـود الــفــاشــيــة والـــنـــازيـــة والـبــلــشــفـيــة فـــي أوروبـــــا وعـاش حتى مشارف الحرب العاملية الثانية وكــان يعيش فـي مصر الخاضعة الستعمار التي هزَّت البالد 1919 بغيض، وعاصر ثورة إلخ إلخ. فأين كان يعيش شاعرنا؟ ليس في هــذا الـعـالـم. كــان يعيش فـي عـالـم خــاص به، عــالــم مـــن صـنـعـه، عــالــم اسـتـخـرجـه مـــن كتب الـتـاريـخ الـكـ سـيـكـي، عـالـم يـعـود أشخاصه وحــــوادثــــه وقــصــصــه الــتـاريــخـيــة والــخــرافــيــة إلـــى مـــا يــزيــد عـلـى ألــفــي عــــام، وإذا بــالــغ في الـحـداثـة فـلـن يــجــاوز لفتة هـنـا أو هـنـاك إلـى العصور الوسيطة في أوروبا. وكيف يتناول هـــذه املــــادة؟ عــن طـريـق الــســرد األجــــرد. يأتي بــحــدث أو شـخـصـيـة تـاريـخـيـة فـــي كـثـيـر من األحـيـان لم يسمع بها أحـد، فيستدعيها في قصيدة من عشرة أو عشرين بيتًا مليئة بذكر أمــاكــن وشــخــوص مـغـرقـة فــي اإلغـــــراب، ومـن هنا الهوامش الغزيرة التي وضعها املترجم لكل قصائد الديوان تقريبًا، فنجد قصيدة ال تتجاوز أبياتها الصفحة الواحدة قد يُكرّس لـــهـــا هـــامـــشـــ فــــي عـــــدة صـــفـــحـــات، لـــيـــس لــفــك مـا فيها مـن رمـــوز وكـشـف مـا فيها مـن تأمل وعِـــبَـــر ولــكــن فـقـط لــشــرح الـسـيـاق الـتـاريـخـي أو األسطوري والتعريف باألماكن واألسماء املـذكـورة. فهل تكافئك القصيدة بعد كل ذلك الـعـنـاء بـشـيء يصالحك مـع الـحـيـاة، بحكمة تعينك على احتمال الوجود؟ ال شيء من ذلك، بل يذهب عناؤك في األغلب بغير تعويض. فــي كــل مــا قــــرأت مــن شـعـر وشـــعـــراء من ثــقــافــات مـخـتـلـفـة ومــــن عـــصـــور مـخـتـلـفـة، لم أعـــثـــر عـــلـــى شـــاعـــر غـــيـــر كــفــافــيــس ال يـنـفـعـل بــالــحــيــاة املُـــعـــاشـــة، بــــاألحــــداث الـــواقـــعـــة من حوله، بالتاريخ الحي والدامي، بل يضع على عينيه عصابة تحجب عنه كل ذلك ال يخلعها إال ليقرأ فـي كتب وأضـابـيـر عتيقة وحينئذ فقط يتحرك فيه شـــيء. ولـكـن إحـقـاقـ للحق كـــان ثـمـة مــوضــوع واحـــد كـتـب فـيـه كفافيس مـن واقـــع التجربة الحياتية، ذلــك هـو الغزل الـذكـوري. كـان الشاعر مِثْليًّا وديـوانـه يحفل بــعــدد ال بـــأس بـــه مـــن قـصـائـد الـــغـــزل املـثـلـي، ومــــن تـسـجـيـل تـــجـــاربـــه الــجــنــســيــة. فـــي بــدء حياته كان يلجأ إلى التورية مستغال التباس الضمائر، ولكنه الحقًا أسقط هـذا التحفظ. على أن غزله الحسي هذا كان أيضًا يخلو من الخيال ويميل إلى السردية التقريرية، وحني تقرأ الديوان كامال يدهشك أن القصائد التي تـفـصـل بـيـنـهـا ســـنـــوات أو عــقــود تــــدور كلها فــي نـفـس املــجــال الـلـغـوي والـــوصـــف الحسي املــبــاشــر، مــا يجعلني أقــــول إن كـفـافـيـس في املــــجــــال الـــوحـــيـــد مــــن شـــعـــره الــــــذي قـــــام عـلـى الخبرة الحياتية املباشرة لم ينجح في ضح الــحــيــاة فـيـه تــمــامــ ، كـمـا لـــم يـنـجـح فـــي ضخ الـحـيـاة فــي شـعـره الـتـاريـخـي الـكُــتُــبـي. تـأمَّــل هذه األبيات التقريرية «أن أكون مرات عديدة على قرب حميم/ من تلك العيون وتلك الشفاه الشبقة/ من ذلك الجسد املـراود لألحالم/ أن .)311 أكون مرات عديدة على قرب حميم» (ص ولنتأمل في منظور كفافيس، إذ يكتب عـــن الــــغــــزوات الـصـلـيـبـيـة لـــ راضـــي املـقـدسـة الـــتـــي تـــوالـــت عــلــى امـــتـــداد قـــرنـــ مـــن أواخــــر القرن الحادي عشر حتى أواخر القرن الثالث عــــشــــر: «اآلن وقــــــد وقــــفــــوا أمـــــــام أورشـــلـــيـــم/ غــادرتــهــم الـحـمـيّــة والـــشـــره واملـــطـــامـــع/ ومـن أرواحــهــم تسلل هـاربـ على عجل كبرياؤهم الفروسي (...) اآلن وقد وقفوا أمام أورشليم/ الـصـلـيـبـيـون الــشــجــعــان الـــذيـــن ال يُــقــهــرون/ املتأججون حماسة في كل زحف وكل هجوم/ هـــم اآلن خـــائـــفـــون مـــتـــوجـــســـون/ ال يـــقـــدرون على الـتـقـدُّم ويـرتـعـبـون كـاألطـفـال الصغار/ وكاألطفال الصغار يبكون، جميعهم يبكون/ )274 إذ يــنــظــرون ألســـــوار أورشـــلـــيـــم». (ص هــو مـنـظـور غــايــة فــي الــســذاجــة يـبُــطـن نفس الكولونيالية املتقنِّعة بـالـديـن الـتـي وسمت الحمالت الصليبية نفسها. القصيدة تمجد الـــغـــازيـــن وتـــصـــورهـــم تـــصـــويـــرًا رومــانــســيــ مــفــرطــ فـــي ســذاجــتــه أو نــفــاقــه، إذا يـتـحـول الفرسان الغازون السافكون للدماء الباحثون عن الغنائم واألسالب إلى أطفال أبرياء تسيل من عيونهم دمــوع الــورع الديني أمــام أبـواب بيت املقدس. ال يتسع املـجـال للمزيد مـن االستشهاد واالقتباس من ديوان كفافيس، لكني ال أود أن أختم مقالتي بــدون أن أقــول إنـه حينما يجد املجاز املناسب للحالة الشعورية ويستخدم الخيال عوضًا عن السرد والتقرير، فإنه قادر على الوصول والتأثير وملس الشعور بغنائية جميلة، لكني - وأسفاه - لم أحص في ديوانه قصيدة أو نحوها مما ترك 20 الكامل سـوى في أثرًا ومما يطيب للنفس أن تعود إليه من وقــت آلخـــر. هـا هـي واحـــدة مـن تلك القصائد بعنوان «النوافذ»: «في هذه الغرف الظليلة/ حيث أقضي أيامي املقبضة، أذرع املكان جيئة وذهابًا/ لعلي أجد النوافذ/ ذلك أن فتح نافذة فيه بعض التسرية/ لكنه ليس هناك نوافذ/ أو أنــــي ال أســتــطــيــع أن أجــــدهــــا/ وربـــمـــا من األفضل أ أجدها/ فقد يكون في الضوء قهر جديدٌ/ ومن يعلم أي أشياء جديدة قد يكشف عــنــهــا»، هـنـا فـــي قـصـيـدة قـصـيـرة مـحـكـمـة ال تتجاوز األبيات الثمانية، يتسلل بنا كفافيس في يسر شديد إلى عالم خصوصي شخصي، تسوده الظلمة والكآبة، عالم موحش منغلق على الخارج فهو بال نوافذ بمعنييها الحرفي واملــعــنــوي، لـكـن مــن نـاحـيـة أخــــرى فـــإن قاطن هذا العالم يخاف الضوء، وما قد يكشف عنه من أهـوال غير مألوفة، فيستسلم لسجنه في ظلمته ووحشته األليفة. الثقافة CULTURE 18 Issue 16652 - العدد Monday - 2024/7/1 االثنني لوعة الوطن المفقود وعنف المنفى في «رماية ليلية» اليمني أحمد الزين يتأمل تاريخا مخادعا تميّز عمل أحمد زيـن في روايـاتـه الخمس بجهد كيفي يتطلّع إلى اإلتقان املُرتجَى، برهن على أن الرواية مـن الــــراوي، وأنـهـا مـن دون اجـتـهـاده املـتـراكـم حكايات مألوفة املحتوى فقيرة األشكال، جاء تميّزه من منظور روائــي بصير، يستولد الشكل من موضوعه، ويشتق األخـــيـــر مـــن تـــاريـــخ يـمـنـي مـعـيـش زامَــــلــــه األمـــــل فــتــرة، وصــدمــه إخــفــاق غـيـر منتظر فــي فـتـرة الحــقــة، التبس بالفجيعة. قـرأ، حـال كل روائــي بصير، تطوّر اليمن من زمن االستقالل الوطني إلى تداعيه وسيطرة أسياد الظالم، ألزمَته تلك القراءة، املستمَدة من وطن يستيقظ ويكبو اقتفاء ما كان منتظرًا، وحاصَره عثار متقادم ومتجدّد عـايـنـه، بــجــرأة يُــداخـلـهـا الـشـجـن فــي روايـــتـــه «ستيمر بـــويـــنـــت»، وأضـــــــاء وجــــوهــــه بــنــظــر دامــــــع فــــي «فــاكــهــة الغربان»، قبل أن يرثي وطنًا افتُقد ولن يعود كما كان، فـي عمله األخـيـر «رمــايــة ليلية» (مـنـشـورات املتوسط .)2024 حـمـل أحـمـد زيـــن أوجــــاع يمني اغــتــرب عـمـا كــان، واغـتـرب بـــدوره وهـو يكتب، عـن «وطـنـه الـقـديـم»، دفـع، فــي حــالــ ، بــاالغــتــراب إلـــى حــــدوده الــقــصــوى؛ ذلـــك أن االغتراب، في حاالته املألوفة، يتلوه «تحقّق اإلنسان»، عـلـى مَــبـعَــدة مــن اغــتــراب يمني يلتهم فـيـه الـحـطـام ما تبقى واقــفــ، ســأل ملتاعًا كيف تـكـون روائــيــ فـي زمن يذهب فيه اليمن إلى غرق أخير. وصفت/ سردت رواية «رماية ليلية»، الساخرة العنوان، تكامل الفقد وبؤس النسيان، حيث الباحث عما فقد يفقد ذاته وهو ينتظر عـودة املفقود، معتقدًا أنه عثر على ذاتـه وعلى املفقود مـعـ ، كـمـا لــو كـــان قــد قـايـض «الـيـمـن الـسـعـيـد» بمنفى بائس الجوهر، تتوالى أيامه مرتاحة، أو هكذا تبدو، قبل أن يسقط في خالء من أشواك ونفايات. عاين زين، في رواياته األربع األولى، تاريخًا مقيّدًا تُقلق حركته سلطة «تؤبّد ذاتها»، وتصيّر االستقالل إلـى ألغاز متوالية، تُــراكـم جشعها، وتُطلق النار على أحــــ م الـيـمـنـيـ ، عـــاد فــي روايـــتـــه «رمـــايـــة لـيـلـيـة» إلـى «القادة املسوخ» الذين توهّموا أنفسهم قادة، ذات مرة، وحـمـلـوا خــواءهــم املحتجب إلـــى املـنـفـى، فــبــدوا عُـــراة، وظهر فقرهم أكثر عريًا، تأمّل الروائي تاريخًا مخادعًا فتّتَه جشع سلطوي يُحسن الـخـداع، إلـى حـ ، يسخر منه التاريخ، الذي يكسر عنق القادة املسوخ املأخوذين بأرباح صغيرة، داخل الوطن املفقود وخارجه. رسم زين لوعة الوطن املفقود، وعنف املنفى، في صـــورة جمعت بـ ذكــريــات صنعاء الـبـعـيـدة، وجــراح كرامة وطنية، والبكاء على أطـ ل وطـن لم يَعُد وطنًا، أطلق صوتًا متشكّيًا مختنق الشكوى، أوكل إلى اللغة تـبـيـان الــفــرق بــ الــوطــن كـمـا يمكن أن يــكــون، وأرض مقلقة يبيعها مرتزقة إلـى مشتر يكره اليمن، ويعبث بيمنيني قصّروا عن وعي الوطن والتاريخ والسياسة والسلطة، لكأن اليمن مسرح مهجور ترتع في أرجائه مخلوقات عجيبة غريبة تُحسِن الخراب وتعتبر املسرح عدوًا جاء به الكفرة، مخلوقات تتأبّط الكالم، وتحرص على الكالم الفخيم بديال عن الفعل الوطني والكرامة الذاتية املهدورة. استهل الـروائـي الكتابة بقول الشاعر اآليرلندي ييتس: «ال أكره الذين أقاتلهم، وال أحب من أحرسهم»، مايَز الشاعر املتمرد، الذي تُذكّر قصائده بالفلسطيني مـحـمـود درويـــــش، بـــ عـــدو مـقـاتـل جــديــر بــاالحــتــرام، ومسؤول متداعي الكرامة يحتاج إلى حراسة. تناول أحمد زين في روايته عدوًا بصيغة الجمع، أعداء يمنيني أقرب إلى املرتزقة، بينهم «سفير أو وزير سابق فارّ، صعب عليه افتقاد الرفاه الذي غمره فجأة، وجنرال عجوز حياته كلها حـروب خاسرة، ولـم يعدم بعد الصفاقة ليتكلم عن خطة حربية منتصرة»، حشر بني هؤالء شيخ قبيلة لم يتبق له من نصير، تخلّى عنه الذين يحترمون أنفسهم، يـردّد في سـرّه: «عز القبيلي .)34 : بالده...» (ص أشاعت الرواية من صفحتها األولى فضاء ناصع السواد، حدّه األول ألم نازف وفزع مما جاء وسيجيء، وحـــدّه اآلخــر مــوات يُكمله منفى يستدعي موتى أُجّــل دفنهم، استجاروا بإخفاق أخير ال يُجير أحدًا، وبأمان مؤجّلة كلما اقتربت زادت بُعدًا. تبدأ الرواية بكلمات قابضة: «سرعان ما أطبقت يداك على عنقي»، ما يبتدئ بالشروع باملوت يُستكمل بـمـا ينتسب إلــيــه: «املــعــانــاة، الــتــمــزّق، الـــصـــراخ، الـــدم، االختناق...»، مناخ كابوسي ينفتح على يأس صريح ونـظـرات تائهة: «غـيـوم تنزف دخـانـ، وجـــوارح ترتفع فــي تحليق كــســول تــحــط عـلـى بـقـايـا حــيــوانــات نافقة وصــيــحــات قـبـيـحـة تــنــم عـــن ســـأم ونـــبـــاح ضـجـر لكلب وأكــثــر...»، لكأن اللغة ضاقت بتشقّق الوضع اليمني، وقــصّــرت عــن وصــفــه، والـتـمـسـت صـبـرًا يحتضن مــا ال يمكن احتضانه، أو لكأن رواية املوات املهني تع السرد شخصية مسيطِرة تفيض على الشخصيات املحتملة. أنـتـجـت روايــــة «رمــايــة لـيـلـيّــة» خطابها املـتـأسـي، متوسّلة مستويَني؛ أحدهما: تقليدي خادع البساطة، قوامه شخصيات مـحـدودة تُــرى وال تَــرى، إذ املتداعي املـــــهـــــزوم ال يـــمـــكـــن الـــقـــبـــض عـــلـــى جـــــوهـــــره املـــتـــنـــاثـــر، وثانيهما: رمــى بالتقليدي جانبًا، وانتهى إلــى بنية روائـيـة معقّدة من اإلشـــارات والـصـور واللغة الطليقة، ومــجــازات تحايث حكايات ناقصة، وجُــمـ معترضة ووقــــائــــع صــــارخــــة خـــانـــهـــا الــــصــــوت، واكـــتـــفـــت بـتـنـهّــد مخنوق، وشخصيات تحترف الكالم وال تقول شيئًا. ال تُــقـصـد شـخـصـيـات أحــمــد زيــــن، فـــي مـسـتـواهـا األول، لذاتها، بل ملا تشهد عليه في منفى مشتّت األفق، شخصيات مرايا تعكس مـــآلـــهـــا الـــــذاتـــــي، وتـــعـــكـــس أكـــثـــر «بــــقــــايــــا» الـــذيـــن أوصــــلــــوهــــا إلــــيــــه، فـــــاألولـــــى، وهـــــي األكــــثــــر وضــــوحــــ ، مذيعة تشهد على «مسؤول» يستغرقه السفر، تالزمه «سـكـرتـيـرة» تــــردّد حــركــاتــه، تـقـاسـمـه بـ غـة االخــتــراع الــــكــــذوب؛ إذ «صـــنـــعـــاء فـــي مـــتـــنـــاول الـــيـــد بــعــد أيـــــام»، تستهلك املذيعة املفترضة فراغها، ويستهلكها فراغها بعد أن هربت من صنعاء. أما الشخصية الثانية، وهي أقل حضورًا، فتتذكر أبــــ رســخــت فـــي صــــدره صــــورة بـطـلـه املـــصـــري األثــيــر، الـذي حلم بعروبة منتصرة، تكمل شهادة الشخصية الـسـابـقـة، تــراقــب كـرنـفـال األرواح املــيّــتــة، وتـرتـكـن إلـى أنوثتها الطاغية، لـ»تحتقر»«مسؤولني كبارًا» انصرفوا إلى استهالك بـذيء، وأحـ م اختصرت اليمن في سلع غالية األثمان تافهة االستعمال. أنتج السرد امللتف على ذاته شخصيات من ظالل، أضـــاع قـوامـهـا، واكـتـفـت بـاالسـتـهـ ك والــكــ م، وجسّر بينها بمتواليات مـن حكايات باكية، تمتد مـن امــرأة يمنية شجاعة افـتـقـدت الـقـيـادة ووســائــل الـقـتـال، إلى يمني يرفع علم بلده بيد مبتورة، وآخـر يعطي روحه إلى رفيق غادرته الــروح، بعد اليمن املوحَّد يأتي يمن مبدَّد األوصال، معفَّر بالذل والهوان. رأى أحـــمـــد زيــــن الـــحـــاضـــر الــيــمــنــي ومــــا سـيـأتـي بعالقات فنية، تتساند وتتكامل وتقترح وتنتهي، دون أن تنتهي، باجتهاد لغوي حافل باألسئلة، فـ«الحال»، أو الــجــمــلــة الـــحـــالـــيـــة، مــبــتــدأ الـــكـــ م ال تـــصـــف؛ إذ في الوصف حركة، تنفتح على حطام ال ضــرورة لوصفه، واألفعال املستقبلية، أو صيغ االستقبال، ال تشير إلى مستقبل لـن يـأتـي إال على صـــورة حـاضـرة، إنـمـا تقرّر الـعـجـز عـــن الـفـعـل وتــصــويــب الـــحـــال. والــخــبــر يسبق املبتدأ الــذي غــدا مـن متاع املـاضـي، واإلخــفــاق الشامل كامل الـحـضـور، يستغرق يمنيني سقطوا فـي متاهة، يـصـنـع صــنــعــاء تـــقـــوّضـــت، وأحــــجــــارًا حـــالـــت ألــوانــهــا، وأناشيد يمنية سقطت في الطريق. يـــكـــتـــفـــي الـــــســـــرد الـــــــروائـــــــي بــــالــــشــــظــــايــــا، أكــــانــــت شخصيات أم حكايات، فمن العبث حضور السليم في فضاء من حطام، ومـن العبث أكثر األخـذ بسرد خطّي قوامه بشر يعرفون مصيرهم؛ لـذا تأتي الشخصيات مشظّاة، ويكون مسارها مرصوفًا بالشظايا، يستولده منفى، ويصادر حركته منفى الحق، يخفق في أرجائه إخـفـاق شامل يُنهى عـن الـحـركـة، ال تتبقى إال الذكرى الـتـي تسكن الشخصيات وأفـعـالـهـا، ذكـريـات مستقرة عـــن يــمــن لـــن يـــعـــود، بــعــيــدًا عـــن الـــتـــذكـــر الـــــذي يــ زمــه فـعـل محتمل، ولـعـل سـقـوط الشخصيات فــي ذكـريـات مستقرة؛ مـا يختصرها فـي أقنعة مـتـنـاظـرة، تتبادل جــمــ نــاقــصــة، تــتــذكّــر وال تـحـلـم، وتـنـتـقـل مـــن تلعثم كسيح إلى وعود مؤجّلة. تتضمن «رمـــايـــة لـيـلـيّــة»، فــي كـثـافـتـهـا املـدهـشـة، أبعادًا تاريخية وسياسية وأيديولوجية واجتماعية، تُـــنـــصـــت إلــــــى الــــتــــاريــــخ الــــقــــريــــب، وأصــــــــــوات الــقــبــائــل واملظاهرات الحاملة السابقة. عـمـل زيـــن عـلـى تجسيد «عــلــم جــمــال الــخــســارة»، الذي أنجز عمال لغويًا متفردًا، قدّم شهادة عن الخسران الـــكـــامـــل، شـــهـــادة تـــرثـــي وطـــنـــ كـــــان، وتـسـتـبـقـي آثــــاره املـتـبـقـيـة فـــي لـغـة تـــــدوم، كـــأن املــصــائــب الــكــبــرى تـأتـي، أحـــيـــانــ ، بـــشـــهـــادات أدبـــيـــة كــبــرى تـضـيـف إلــــى اإلبــــداع األدبــــي الـعـربـي أبـــعـــادًا غـيـر مـسـبـوقـة، وتــصــرخ عاليًا بأنها «تحترم األعـــداء الـذيـن يـدافـعـون عـن قضاياهم، وتحتقر موتى يحرسون موتى أعلى رتـبـةً، ساقوهم إلى املوت واملنفى». برهن أحمد زين على أن الوقائع الوطنية الكبرى، التي تالزمها الـخـسـارة، تستولد وقـائـع أدبـيـة كبرى، تــرد على الـخـسـران الوطني بــاإلبــداع األدبـــي، وال تعد بشيء، في عمل روائــي هامس التوثيق مبدع الكتابة ترجم زين مأساة اليمنيني داخل اليمن وخارجه، وأومأ إلى واقع عربي منخول العظام، تتصادى فيه أصوات عرفت الخراب الشامل وتحذّر منه. *ناقد وباحث فلسطيني. *فيصل درّاج برهن أحمد زين على أن الوقائع الوطنية الكبرى التي تالزمها الخسارة تستولد وقائع أدبية كبرى شعره قائم على السرد األجرد لمواقف أو شخوص تاريخية أو أسطورية كفافيس ولد وعاش ودفن في مصر إال أن شيئا منها لم يتسلل إلى شعره قسطنطين كفافيس... مكانة شعرية «مُبالغ فيها» رشيد العناني

RkJQdWJsaXNoZXIy MjA1OTI0OQ==