issue16651

الثقافة CULTURE 17 Issue 16651 - العدد Sunday - 2024/6/30 األحد ًيقول كأنما في دماغي جزآن «أحدهما علم في خدمة المؤسسة واآلخر ناقد لها» نعوم تشومسكي... عدة شخصيات تحمل اسما واحدا قُوبلت األنباء التي تم تداولها عن نقل الـــبـــروفـــيـــســـور إفــــــرام نـــعـــوم تــشــومــســكــي إلــى املستشفى فـي سـاوبـاولـو (الــبــرازيــل)، بينما كــــان يــتــعــافــى مـــن إصـــابـــتـــه بـجـلـطـة دمــاغــيّــة شـديـدة أُصـيـب بها الـعـام املـاضـي، بسيل من املــــقــــاالت الــصــحــافــيــة الــعــاجــلــة الـــتـــي تــحــاول تـــقـــديـــم ســـيـــرة ذاتــــيــــة لـــهـــذا املـــفـــكّـــر والـــلـــغـــوي والناشط السياسي اليهودي األميركيّ. لـــكـــن الــحــقــيــقــة أن كـــثـــيـــرًا مـــمـــا كُـــتـــب فـي الصحف واملواقع اإللكترونية قصر عن رسم صـــــورة وافـــيـــة لـــهـــذه الــشــخــصــيّــة، لــيــس فقط بسبب تـعـدّد فـضـاءات انشغاله بـن النشاط السياسيّ، والبحث األكـاديـمـي، والكتابة في الــســيــاســة والــــحــــروب واإلعـــــــام، ولـــكـــن أيـضـا لصعوبة تفسير مواقفه أحيانا في واحد من هذه الفضاءات باملقارنة مع التوقّعات منه في الـفـضـاء اآلخـــر، وألن كثيرين - مـن منطلقات متباينة – منَحوه مكانة خاصة رفيعة أكبر من حياة البشر في مجاالت علميّة، وفكرية، وسياسيّة عـدّة، حتى ليظن املرء أنّه يقرأ عن عدّة شخصيات تحمل اسما واحدًا؛ حيث هو األكاديمي النجم الذي قضى سحابة عمره في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، أقـرب الجامعات األميركية إلــى البنتاغون (وزارة الــدّفــاع األمـيـركـيـة)، ولكنه فـي ذات اآلن أبـرز املـثـقـفـن األمـيـركـيـن الـنـاقـديـن لـإمـبـريـالـيـة، ولــخــطــاب الــســلــطــة، ولــلـــحـــرب، والــرأســمـالـيـة الـنـيـولـيـبـرالـيـة، وهـــو أمـــر أقـــر بــه تشومسكي نفسه فقال: «كأن في دماغي جزأين؛ أحدهما علم محض في خدمة املؤسسة، واآلخر نشاط ســيــاســي نـــاقـــد لـــــه»، مـعـتـرفـا بــــأن ال تـــواصُـــل ممكنا بــن تشومسكي الـعــالِــم وتشومسكي الناشط السياسي. ولـــعـــل مَــــــرد هــــذا االنـــفـــصـــام بـــن عـديـد الـشـخـصـيـات العميقة والــثــريــة لتشومسكي متأت من تجارب حياة مديدة متعدّدة املراحل 1928 بـــــدأت مـــن بـنـسـلـفـانـيـا، حــيــث وُلـــــد فـــي لعائلة مهاجرة مـن اليهود األشـكـنـاز (والــده أوكـــــرانـــــيّ، ووالــــدتــــه بـــيـــاروســـيّـــة بـمـقـايـيـس اليوم). كــان والـــده باحثا وأكـاديـمـيـا فـي العلوم العبرانية، يعمل لساعات طويلة بأجر قليل، بــيــنــمــا تُــــــــدرّس والــــدتــــه لــلــصــغــار فــــي كـنـيـس يهودي، لكن تأثير عمّه الناشط اليساري عليه كـان أعمق فيما يبدو؛ إذ كثيرًا ما تــردّد على مجلسه عندما يجتمع عنده ناشطو اليسار الــيــهــود مـــن الـطـبـقـة الـعـامـلـة ملـنـاقـشـة األمـــور املُــلـحّــة فـي ذلــك الـوقـت، فكان يستمع ويتأثر، ويتشكّل وعيه السياسي األوّلي، فكانت إحدى اللحظات املبكرة التي علِقت بذاكرته من تلك الفترة مشهد رجال األمن وهم ينهالون ضربا على النساء املُضرِبات عن العمل خارج مصنع للنسيج خــال فـتـرة الـكـسـاد الكبير، فانتهى إلى تبنّي وجهات نظر اليسار الفوضوي. كــــــان تـــشـــومـــســـكـــي الـــصـــغـــيـــر مــحــظــوظــا ألنـه أُرســـل لتلقّي علومه األسـاسـيّــة بمدرسة رائــدة تأسّست على مبادئ املصلح التربوي والـــفـــيـــلـــســـوف الـــبـــراغـــمـــاتـــي األمـــيـــركـــي جـــون ديـــــــوي، وســـعـــت لــجــعــل الــتــعــلــيــم تــجــريــبــيــا، واملـــعـــرفـــة اكــتــشــافــا بـــــدال مـــن الــتــلــقــن، فــأبــدع وتــفــتّــحــت مــــداركــــه، فــقُــبــل وهــــو ملّــــا يـــــزال في السادسة عشرة من عمره بجامعة بنسلفانيا املرموقة لدراسة الفلسفة واملنطق واللغات. كان تشومسكي وقتها قريبا من األفكار الـصـهـيـونـيـة الــطــوبــاويــة الــتــي انــتــشــرت بي الـــيـــســـاريـــن الــــيــــهــــود، وكـــــــاد يــــتــــرك دراســــتــــه الجامعية للتطوع فـي كيبوتس يــهـودي في األراضــــي الفلسطينية، لكنّه لـم يحب أجــواء الــحــمــاســة الـــقـــومـــيّـــة هـــنـــاك، ودفـــعـــه إعــجــابــه حينئذ بـالـلـغـوي وعــالــم الــريــاضــيــات زيليج هاريس إلى االنصراف بكليّته إلى اللسانيات، لــــيــــحــــصّــــل فــــيــــهــــا درجــــــــــــات الــــبــــكــــالــــوريــــوس واملاجستير، ويـحـوز بعدها على الـدكـتـوراه بأطروحة أصبحت أساس أول كتبه املنشورة .»1957 - «الهياكل النحويّة مــــن هـــــذا الـــكـــتـــاب تـــحـــديـــدًا بـــــــدأت، وفـــق أنصار تشومسكي في فضاء اللغويات، ثورة معرفية؛ إذ قبله كانت اللغة والكلم مفهومَي عـلـى نــطــاق واســــع عـلـى أنـهـمـا ســلــوك بشري مكتسَب، حيث كانت املدرسة السلوكيّة التي أطـلـقـهـا الـــروســـي الـحـائـز عـلـى جــائــزة نـوبـل، إيــــفــــان بـــافـــلـــوف، ســــائــــدة خـــــال األربــعــيــنـــات والخمسينات من القرن املاضي، وجعل منها الــبــروفــيــســور بــــورهــــوس فـــريـــدريـــك سـكـيـنـر، الــكــاهــن األكـــبـــر ملــخــتــبــرات جــامــعــة هـــارفـــارد، الــنــمــوذج الـقـيـاسـي املـهـيـمـن فــي عـلـم النفس بالواليات املتحدة. وعَــــدّت السلوكية أن أدمـغـة البشر تبدأ صــفــحــة بــيــضــاء ثـــم تـــتـــطـــوّر وفــــق املـعـطـيـات الــبــيــئــيــة، ولـــذلـــك فــــإن تـعـلـيـم الــلــغــة لـأطـفـال يـتـم بــخــطــوات صـغـيـرة مـــتـــدرّجـــة، وبتطبيق مبدأ الـثـواب والعقاب، فـإن هم أصـابـوا يجب الثناء عليهم، وإن وقـعـوا فـي الخطأ ينبغي تصحيحهم. مضى تشومسكي في كتابه إلى تحدّي هــــذا الـــتـــصـــور، مــشــيــرًا إلــــى الـــســـرعـــة املــثــيــرة للدهشة التي يتعلّم بها الصغار الكلم بمجرد االســـتـــمـــاع إلــــى الــبــالــغــن واألطــــفــــال اآلخــريــن وتقليدهم، وعَـــد محاولة سكينر غــزو مجال اللغة تطبيقا اختزاليا سخيفا للفتراضات السلوكية، وأن دراســاتــه فـي هــذا املـجـال ذات أهــمــيــة ضــئــيــلــة، أو حــتــى مـــعـــدومـــة، عـنـدمـا يتعلّق األمـر باللغة والـقـدرات العقلية العليا لـلـبـشـر، وبــشــكــل حـــاســـم جـــــادل تـشـومـسـكـي، دون االستناد إلى أبحاث مختبرية، إلى أننا كما لـو كنا «مصمَّمي خصيصا بطريقة أو بأخرى» الكتساب اللغة. كــــانــــت املــــــدرســــــة الـــســـلـــوكـــيّـــة قـــــد بـــــدأت بالترنّح بعدما فشلت في تقديم حلول عمليّة إلســـنـــاد املـــــاءة الـنـفـسـيّــة لـعـمـلـيـات الـجـيـش األميركي خـال الـحـرب العاملية الثانية، لكن تشومسكي كان كمن دفع بها إلى حافة القبر. فــــي تـــلـــك املـــرحـــلـــة بــــــدأ الـــبـــنـــتـــاغـــون فـي تجميع جهود خبراء املعلوماتية والكمبيوتر وعلماء النفس وخبراء اللسانيات ومُصنّعي األسلحة من أجل بناء منصة لـ«دمج املشغّلي الـبـشـريـن فــي تـصـامـيـم أدوات الــقــتــال»، كـان حلم وزارة الدفاع األميركية وقتها صنع «آلة لغوية» تكون بمثابة واجهة تعامُل بي القادة العسكريي متخِذي القرار وأنظمة أسلحتهم، بــــحــــيــــث يُــــــصــــــدر هــــــــــؤالء الـــــــقـــــــادة أوامــــــرهــــــم بإنجليزيتهم الـيـومـيـة، فتنطلق الـصـواريـخ والقذائف بناء على ذلك. لـــقـــد حــــــان وقــــــت تـــشـــومـــســـكـــي الـــــــذي تـم تقديم أفكاره على أنها موضوعية، وضمنيا مـــنـــاسِـــبـــة لـــــأغـــــراض الـــعـــســـكـــريّـــة املــــأمــــولــــة، ولــذلــك اسـتُــقـطـب، رغـــم تـوجـهـاتـه الفوضوية الــظــاهــرة، إلـــى مـنـصـب أكــاديــمــي مــرمــوق في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وحصل ألبـحـاثـه على دعــم سخي ومُــعـلَــن مـن املجمع الـصـنـاعـي الـعـسـكـري رغـــم األجـــــواء املـكـارثـيّــة التي كانت سائدة حينها، التي كانت تُشيع مناخا من الشكوك بكل اليساريي. لم يَنب تشومسكي ما يمكن القول إنّه كان ذا فائدة في تصميم أجهزة القيادة والتحكم الصاروخيّة مثلً، ولم يَنب جهاز كمبيوتر أو نـظـام ذكـــاء اصـطـنـاعـيّ، وحـتـى نـمـوذجـه في التعامل مع الدّماغ البشري ككمبيوتر رقمي مبرمَج مسبقا تجاوَزه سريعا علم األعصاب، لــكــنــه قــــــدّم تــــصــــوّرًا مــنــاســبــا لــلــغــة فــــي فــتــرة تــطــور الـعـسـكـريـتـاريـا الـعـلـمـيّــة فــي الــواليــات املـتـحـدة خـــال الـخـمـسـيـنـات والـسـتـيـنـات من الــقــرن املـــاضـــي، حــن كـــان مــن املـنـاسـب فصل اللسانيات عن السياسة واملجتمع، وتكريس مشهد فصل العلم عن النظرية السياسية. هــــــذا الـــفـــصـــل الــــنــــظــــري الـــعـــمـــيـــق سـمـح لـــلـــمـــؤســـســـة الـــعـــســـكـــريـــة األمــــيــــركــــيــــة بــتــقــبّــل تـشـومـسـكـي الــســيــاســي فـــي قــلــب األكــاديــمــيــا املـعـسـكـرة، وفــي ذات اآلن سمح لتشومسكي املوظف في معهد تطوير األسلحة بأن يتحوّل إلـــى الــنــاقــد، األهــــم عـاملـيـا ربــمــا، للمبريالية األميركية. كــــانــــت حــــــرب فـــيـــتـــنـــام نـــقـــطـــة مـفـصـلـيـة فــي حـيـاتـه كـنـاشـط سـيـاسـي، فــأصــدر كتابه الشهير عن مسؤولية املثقف، ووقف بصرامة ضد الحرب، وشارك في االحتجاجات ضدّها، مــع أنّـــه لــم يـتـرك الـعـمـل فــي ماساتشوستس لـلـتـكـنـولـوجـيـا، وأصــبــح الحــقــا أســتــاذ شـرف مدى الحياة هناك، كما عُي أستاذًا في فلسفة العدالة االجتماعية بجامعة أريزونا. وقد كتب بعدها أكثر من مائة كتاب في مسائل السياسة، اشترك في العديد منها مع مثقفي يـسـاريـن مـن مختلف أرجـــاء العالم، أربعة منها عن مسألة فلسطي، وإن كان فيها أمرًا 1967 ال يرى في الدولة العبرية قبل حرب ينبغي الشك بأحقيّة وجوده. أمـا كتابه األخير فقد وضعه باملشاركة مع ناثان روبنسون بعنوان «أسطورة املثالية األميركية... كيف تُعرّض السياسة الخارجية األمريكية العالم للخطر». لـتـشـومـسـكـي الـــيـــوم تــــراث فـــي فــضــاءات كــثــيــرة يـمـكـن فـــي كـــل مـنـهـا انـــتـــقـــاده ونـقـضـه وتـــــــجـــــــاوزه، لـــكـــن الـــــرجـــــل تـــــحـــــوّل بــمــجــمــوع شــخــصــيــاتــه إلـــــى ظــــاهــــرة أكـــبـــر مــــن الــحــيــاة بالفعل، فهو كما شامان لجيل من اللغويي الـذيـن تـربـوا على نظرياته وكـسـبـوا عيشهم من وراء تعليمها لغيرهم، ويـراه اليساريون «أســــدًا لـلـيـسـار» يـــزأر فــي قـلـب اإلمـبـراطـوريـة األمـــيـــركـــيـــة، وانـــتـــخـــبـــه قُـــــــراء «بــروســبــيــكــت» املثقف 2005 (املجلّة اليمينية البريطانية) في األوّل في العالم. نعوم تشومسكي ندى حطيط لتشومسكي اليوم تراث في فضاءات كثيرة يمكن في كل منها انتقاده ونقضه وتجاوزه ليلى المطوع تربك مسلمات القارئ في روايتها الجديدة أن تكون واقعا في األسر بين ماءيْن لـم أحـسـب، وأنـــا أقـلـب الصفحات األولـــى مـن روايــة ليلى املـطـوّع «املنسيون بي مـاءيْــن»، الـصـادرة عن «دار )، أنـنـي سـأقـضـي أيـامـا 2024( رشـــم» للنشر والــتــوزيــع حـافـلـة بـالـدهـشـة واملـتـعـة والـــذهـــول، وأنــــا مــأســور بهذا ، وهــو األســـر الـــذي ال يشتهي 430 الـكـتـاب، بصفحاته الـــــ املرء التحرّر منه... تماما كالحب، كالصداقة، كالكتابة. لـــم أحــســب ذلـــك ألن لـيـلـى املـــطـــوّع كـاتـبـة بحرينية تنتمي إلى الجيل الجديد من كتّاب الرواية الذين ما زالوا يتحسسون طريق اإلبـــداع للوصول إلـى موضع التميّز والــفــرادة. لقد سبق للكاتبة أن أصـــدرت روايتها األولـى ثـم توقفت 2012 والـوحـيـدة «قلبي ليس للبيع» فـي عـام سنوات عن الكتابة. إزاء الكتابات الشابة، يتوقع املرء أن يـقـرأ عـمـا عـاديـا أو جـيـدًا، لكن أحيانا يـأتـي عمل شاب ويـخـرّب بقوة وفاعلية مثل هـذا التوقّع األرعـــن. هـذا ما حــدث لـي وأنـــا أحـسـب أنـنـي سـأقـرأ عـمـا عـاديـا ألتفاجأ بوقوعي في شـرَك (وهـو شرك جميل وفاتن) نص قوي، نــاضــج، مــدهـــش، ســـوف يــأســرنــي أيــامــا وأنــــا أنـتـقـل من صفحة إلى أخرى، من شخصية إلى أخرى، من حدث إلى آخر، من صورة بديعة إلى أخرى ال تقل عنها فتنةً. كيف نجحت ليلى املطوّع في فعل ذلك، في أن تجعل ساعات القراءة متخمة بما هو آسر ومذهل، في انتزاعي من بلدة اليقي وقذفي في لج السؤال والغموض. مونتاج بارع الكاتبة هنا تتقن ببراعة عملية التلعب بالقارئ، لـيـس بـاملـفـهـوم الـسـلـبـي، لـكـن بـاملـعـنـى الــدقــيــق لــإثــارة والـتـشـويـق. هـي ال تـسـرد الـحـدث كحكاية تقليدية ذات بـــدايـــة ووســـــط ونـــهـــايـــة، بـــل تــلــجــأ إلــــى تـقـطـيـع الــحــدث وبعثرته، عبر مونتاج بـارع، لكي يتولى القارئ بنفسه تركيب أجـــزاء الحكاية وتوصيلها، واسـتـنـبـاط املغزى واملـــعـــنـــى. وهــــي ال تـعـتـمـد الـــبـــنـــاء الــــســــردي الــتــقــلــيــدي، وإنما تلجأ إلى التشظي واالنتقاالت املفاجئة، معتمدة - كمراجع ومصادر - على كم هائل من الوثائق والكتب التاريخية واألسـاطـيـر القديمة والحكايات واملعتقدات الشعبية واملقابلت املعاصرة والدراسات في علم البيئة واإلنسان وامليثولوجيا. بــن الـوثـائـقـي والـــســـردي، الـواقـعـي والـتـاريـخـي أو األســـطـــوري، الـيـومـي والــســحــري، الـــعـــادي والـشـعـائـري، الـــعـــقـــانـــي والـــغـــيـــبـــي، الـــتـــقـــريـــري والـــغـــرائـــبـــي، املــبــاشــر واملتخيّل، تنقلنا الكاتبة، بمهارة وبراعة، من موضع إلى آخر، فتأخذنا إلى البعيد القديم ثم تعيدنا إلى الحاضر الـقـريـب، لتأخذنا ثـانـيـةً... هـكـذا ذهـابـا وإيــابــا، وتدعنا نتأرجح بي األزمـنـة، بي املاضي والحاضر، مأخوذين بـالـلـغـة الـجـمـيـلـة والـسـلـسـة، بـالـصـور الـنـابـضـة الـحـيّــة، بالسرد الشيّق، بالوصف الباهر، باالنتقاالت الرشيقة، باملخيّلة الخصبة، بالحساسية الشعرية العالية. بـــفـــعـــل ذلـــــــك، الـــكـــاتـــبـــة ال تــــــدع الـــــقـــــارئ فـــــي وضـــع االســتــرخــاء واالطــمــئــنــان، والـثـقـة بــقــدراتــه الـخـاصـة في التقييم والتحليل والحكم، بل تربك مسلّماته وتــرج ما اسـتـقـر عليه مــن فـهـم وإدراك، ليجد نفسه مـرغـمـا على اســتــجــواب أفــكــاره ومـفـاهـيـمـه وتــصــوراتــه بـشـأن رؤيـتـه لـلـتـاريـخ واملـــاضـــي، ولـعـاقـة اإلنــســان ببيئته ومحيطه وعامله، ولدور املعتقدات في تشكيل وعيه. والكاتبة ال تكتفي بهذا وإنما تمعن في إثارة القارئ وتحفيزه، واقتحام املواضع املستقرة في وعيه وإدراكـه بما يستفزّه ويحثّه على البحث واملساءلة والـجـدل، إذ كلما ظن أنه اكتفى ورأى ما يكفي ليستوعب، فاجأته بما هو أكثر إثارة وغموضا. وأنـت تقرأ من األفضل أن تؤجل البحث عن أجوبة ألسـئـلـتـك الـــوفـــيـــرة، وأن تـكـبـح رغــبــتــك املـــعـــتـــادة فـــي فك شفرات النص والحفر في الرموز واملجازات، حتى تنتهي من قــراءة الكتاب كله. بي الصفحة واألخـــرى يمكنك أن تتوقف قليل وتتأمل في ما قرأت، ثم تواصل. لكن تجنّب إطلق األحكام السريعة، التي تعتقد أنها ذكية وحاسمة، بــشــأن مــا تــقــرأه فــي كــل صـفـحـة. ثــق بـالـكـاتـبـة، ستكون دلـيـلـك األمــــن. ســـر معها عـلـى مـهـل وبـــرويّـــة. مــن دونـهـا تضيع. ستأخذك في رحلة طويلة إلى أقاليم لم ترها ولم تختبرها من قبل، وسوف تتمنى أال تنتهي هذه الرحلة. ستأخذك الــروايــة إلــى عـوالـم بعيدة وأخـــرى قريبة عبْر ذاكرة املكان، ذاكرة املاء، ذاكرة النوارس، ذاكرة بشر يتأرجحون بي حاضر يتآكل وماض يزداد غموضا. ســـوف تــرتــاد مـنـاطـق يـحـرص سكانها عـلـى قـــراءة البحر والريح والنجوم والنخيل، وسـوف يطلبون منك أن تتبع املاء والشمس والطيور واألسماك... حتى تصل وال تضيع، حتى يكتشف األشخاص ذواتهم، هوياتهم. طوال الرحلة سيكون البحر حاضرًا بكل تناقضاته وصوره املتباينة املتنوعة. بكل وداعته وجبروته، طيبته ووحشيته، كرمه وجشعه، حنانه وغدره. وللماء، في الرواية، حضوره املتعدّد والكلّي.. وله قدسيته «ال تطأ املاء إال بنيّة صافية». مياه عذبة ومياه مالحة.. يلتقيان لكن ال يختلطان. وأنــــت تـــقـــرأ، تــحــس بـــاملـــاء يـحـيـط بــــك، يتحسسك، يغمر حواسك، يدخل فيك، من فمك وأنفك وأذنيك، لكنه ال يغرقك مثلما يفعل مع من يقطن النص. املاء في كل مكان. تسمع، وأنت تقرأ، خريره، انسيابه، ارتطامه الوديع بك. لكن املاء يعاقب أيضا. إنه يجلد من يرتكب إثما أو خطيئة. يخطف، يخنق. البحر ال أمان له. يلبس جلد األرض ليخدع البشر ويـبـتـلـعـهـم، ثـــم يـخـلـع الــجــلــد. أحــيــانــا يــتــداخــل الـكـائـن والبحر، يتمازجان، يتحدان. وأحيانا يتحوّل الكائن إلى شبيه، أو إلى آخر. وقد يصبح مسخا. طــوال الــروايــة نشهد الـصـراع العنيف بـن عناصر تعايشت آلالف السني حتى وقــع الـشـر وحـــدث الشقاق نـتـيـجـة جــشــع وجـــهـــل وقـــســـوة قــــوى خـــارجـــيـــة، دخـيـلـة. صراع بي بحر يدافع عن وجوده بعد أن تمت محاصرته وتـطـويـقـه، ثــم خنقه بـالـرمـال عـبْــر الــــردم والـــدفـــن، حيث تسبّب ذلك في جفاف العيون والينابيع، وموت الشجر، وهــجــرة الــطــيــور.. وأرض، يـابـسـة، تـريـد الـتـوسّــع أكـثـر، إلقامة املشاريع العمرانية والطرق العامة، فتقرض البحر جزءًا جزءًا حتى تدفنه. عنف وقرابين الـعـنـف مـلـمـح بــــارز فــي الـــروايـــة. يـمـارسـه اإلنــســان فـــي دفـــاعـــه عـــن نـفـسـه وأهـــلـــه ومـــوطـــنـــه، وفــــي مـحـاولـتـه للمتلك ملبيا غريزة الجشع والشهوة والجوع والحاجة والــســلــطــة. وتــمــارســه الـطـبـيـعـة عـنـدمـا تـغـضـب وتهيج ويتلعب بها الناس. الــــروايــــة حــافــلــة بـــالـــقـــرابـــن، األضــــاحــــي، الـبـشـريـة والحيوانية والنباتية... وفي كل قربان عنف... بصورة أو بـأخـرى. ثمة شخوص تظهر وتختفي، بعد أن تترك أثـرًا غائرًا في منت النص، وفي وعي القارئ وذاكـرتـه. إذ حتى في غيابها تظل حاضرة. ولكل شخصية سماتها املتميزة، أبعادها الخاصة، همومها، طموحها، أسرارها: نــاديــا هــي الشخصية املــحــوريــة، املــعــاصــرة، التي تمسك بكل الخيوط، بالشخوص واألحــداث. إنها تشهد حــوادث عديدة مبهمة وال تفسير لها. وهـي تسعى إلى الـكـشـف عــن غـمـوض الــظــواهــر الـغـريـبـة الـتـي تـحـدث من حــولــهــا. تـبـحـث فــي أوراق جــدهــا، وجــدتــهــا الــتــي كانت متيّمة بالنخيل والـيـنـابـيـع، ودافــعــت بـشـراسـة عـن حق البحر فـي الــوجــود. نـاديـا ممسوسة بفكرة مـن سيكتب سيرة املـاء. يوما ما تنفجر فجأة العيون والينابيع في الجزيرة، ويختفي األطفال، ومن بينهم ابنتها. سليمة الحبلى، الثكلى بعد تقديم ابنتها الصغيرة، الـوحـيـدة، قربانا لنبع مــاء آخــذ فـي الــــزوال، وبعد مقتل زوجـهـا بوحشية على يـد الــوالــي. إنـهـا تـاحـق شخصا معيّنا من أشراف أهل الجزيرة وأشجعهم وأشعرهم، هو طرفة بن العبد. من أجل أن يرى جنينها النور وال يموت مثل بقية أوالدها، يتوجب عليها أن تنتظر مقتل طرفة، فتقفز على جسده املحتضر يمينا ويسارًا حتى تتبارك بآخر أنفاسه. وهـذا ما يحدث بالفعل، لكن الوالي يأمر بقتلها فتهرب، ولكي تنجو عليها أن تتبع املاء. إيا ناصر، البذرة الطالعة من رحم ما يعدّه املعبد خطيئة، فيحكمون على أبيه باملوت غرقا، وتنتحر أمه حزنا. رضع إيا من ثدي امرأة مسكونة باألرواح وتعيش مثل البهيمة. يكبر ويبرع في نقش األختام. يرسله املعبد مع آخرين في بعثة للدراسة. أثناء الرحلة يقتل تلميذًا، وصـديـقـه يـتـحـوّل إلـــى وحـــش بــحــري. عـنـدمـا يـخـتـارون حبيبته لتكون قـربـانـا، يـحـاول إنـقـاذهـا فيعصي بذلك تعاليم املعبد. في حكاية أخرى، نجد مراهقا يعشق امرأة ليكتشف أنها مجرد نبع يتجسد في هيئة امـرأة جميلة تختطف الـــرجـــال واألطـــفـــال. هــي تـبـادلـه الـعـشـق وتــريــد امـتـاكـه. عندما توشك على ابتلعه، يتخلص منها. يتزوج ابنة عـمـه. هــي تتمكن مــن اخـتـطـاف ابــنــه. ينتقم منها بدفن العي، بخنقها. غير أنها تنطلق من أسرها وتأخذه معها إلى باطن األرض، في عناق طويل وأبدي. يعقوب، الطويل والقوي، يكرّس نفسه لآللهة. يعمل في الدير خادما للرب. طموحه أن يتقدّس ويسير على املــاء. يعشق امـــرأة وهبت نفسها للدير، فقد جــاءت إلى هـنـا لـتـكـفّــر عــن ذنـبـهـا، إذ أغــرقــت أبــنــاءهــا الـصـغـار في الـبـحـر نـــذرًا لـــه. هــي تــبــادل يـعـقـوب الـعـشـق. تحبل منه. وعـنـدمـا يـحـن املــخــاض ال تـجـد الـقـابـلـة فــي الــرحــم غير املاء. فيما يعومان ليلً، يغافله البحر ويغرقها. يغضب يعقوب ويمارس شعائر طرد البحر. عقابا له على فعلته، يدفنونه في الرمل لكي يغرقه البحر. درويش، البارع في نقش أبيات الشعر واآليات على الحجر واألجـسـاد والــجــدران وشـواهـد القبور، ال يشعر باالنتماء إلــى املـكـان والــنــاس. يسمونه عـاشـق أو عابد الحجر. في النهاية يذهب صاغرًا إلى البحر ليبتلعه. ومع مهنا ننتقل إلى فترة الغوص. هو ابن غواص. ينتزعه النوخذة وهو صغير من أمه ليسدّد ديون أبيه، الـــــذي تـسـبـب الـــنـــوخـــذة فـــي مـــوتـــه. يـكـبـر مـهـنـا ويـصـيـر غواصا. في هذا الفصل، تكشف الكاتبة عن معرفة غزيرة وعميقة بعالم البحر، في مستوييه السطحي والعمقي. فــي الـــواقـــع، نلمس هـــذه املـعـرفـة العميقة فــي كــل فصول الكتاب. نــاحــظ أن أغــلــب الـشـخـوص تـتـأرجـح بــن الــبــراءة والخطيئة، الخوف والـجـسـارة، العفة والشبق، الوداعة والعنف، املقدّس واملدنّس، الوالدة واملوت. تنتهي الـــروايـــة بــرؤيــا غـريـبـة، مخيفة، إذ يتحوّل سكان الجزر إلى بحر.. باألحرى، إلى موجة واحدة عالية تلتهم كل شـيء. بهذا النص الفاتن، تخلق ليلى املطوّع أسـطـورتـهـا الـخـاصـة، معلنة بثقة أنـهـا واحــــدة مــن أهـم كتّاب الرواية العربية. * كاتب وناقد بحريني *أمين صالح

RkJQdWJsaXNoZXIy MjA1OTI0OQ==