issue16610

الثقافة CULTURE 18 Issue 16610 - العدد Monday - 2024/5/20 الاثنين الواقع في قبضة الفانتازيا والخرافة «الوجه الآخر للظل» لرشيد الضعيف أذكـــــر أنـــنــي وزمـــائـــي دعـــونـــا الــــروائــــي رشـيـد الضعيف لإلـقـاء محاضرة عـن تجربته ككاتب في أحد مؤتمرات «الجمعية الأوروبـيـة لـأدب العربي سنوات أو نحو ذلك. ألقى حديثاً 10 الحديث»، منذ شـائـقـ عــن الـسـخـريـة والـفـكـاهـة فــي الأدب العربي الكلسيكي، على نحو مـا نجد فـي الـجـاحـظ على سـبـيــل المــــثــــال، وأعــــــرب عـــن أســـفـــه أن هــــذا الـتـقـلـيـد الــعــريــق فــي الأدب الــعــربــي قــد انـحـسـر مــن المشهد الـــحـــديـــث، وأن الــكــتــابــة الأدبــــيــــة قـــد أصــبــحــت في عصرنا هذا تقتصر على الجدية والجهامة والنكد. كانت التفاتة ألمعية منه وقعت موقعاً حسناً لديّ ولــدى جمهور الـزمـاء المـشـاركـن فـي المـؤتـمـر. كان رشيد الضعيف يتحدث بالطبع من واقـع تجربته كروائي تلعب السخرية والنقد الاجتماعي الـاذع وإيــصــال الـرسـالـة عــن طـريـق الإضــحــاك المتعاطف دوراً أسـاسـيـ فــي روايـــاتـــه. وكــأنــه فــي محاضرته كـان يحاول استقصاء الأصــول التاريخية لمنهجه في الكتابة الروائية، محدداً موقعه كسليل محدث لتقليد عريق، ومؤكداً أن السخرية والضحك هما فــن فــي غـايـة «الــجــديــة»، وأن لـــأدب سـبـيـاً فيهما إلـى قلوب الناس وعقولهم لا يقل شأناً عن سبيل العبوس والتجهم. جـــــــاءت مــــحــــاضــــرة رشــــيــــد الـــضـــعـــيـــف وقــتــهــا مصداقاً لمـا كنت قـرأتـه واستمعت بـه مـن روايـاتـه، مـــثـــل «أوكـــــــــى مـــــع الــــســــامــــة» و«تـــصـــطـــفـــل مــيــريــل ســتــريــب» و«هـــــرة ســيــكــيــريــدا» وغـــيـــرهـــا. إلا أنـنـي فُوجئت بـروايـة «الأمـيـرة والخاتم» المنشورة سنة التي عرجت على طريق لم يسبق أن سلكها 2020 الـكـاتـب مــن قـبـل، حـتـى كـــدت أشـــك فــي أنـــه كاتبها. أعترف بأنني لم أقـوَ على إكمالها، وقلت لنفسي: لـعـلـهـا شـطـحـة مـمـا يـعـتـري الــكــتــاب يــعــود بعدها الضعيف إلى سابق عهده وجميل مألوفه. لكن ها أنــا أجــد نفسي أمـــام روايــتــه الأخــيــرة الــصــادرة في ، «الوجه الآخر للظل»، وأجد أنه قد ضل طريق 2022 العودة، وما زال ماضياً على ما أراه «سكة الندامة». هــذه المـــرة صممت على قـــراءة الــروايــة بصفحاتها المئتي والسبع حتى آخر كلمة، فلم يعد من الممكن صرفها كنغمة شـاذة في أعمال الكاتب، ما دام قد واصل الكتابة والنشر في المقام نفسه. لـسـت مـتـأكـداً أيـــن أصـنـف روايــــة مـثـل «الـوجـه الآخــــر لـلـظـل». هــي تنتمي لـعـالـم الــفــانـتــازيـا، ذلـك العالم الخيالي، البعيد من الواقع، الـذي يستخدم مــفــردات الــواقــع كما نـعـرفـه، لكنه يعيد صياغتها عــلــى نــحــو غــيــر واقـــعـــي، ويــضــيــف إلــيــهــا مـــفـــردات لا وجــود لها فـي الـواقـع المعيش. فـي الفانتازيا لا يُــعــول عـلـى المـنـطـق الــواقــعــي، وإنــمــا نـجـد أنفسنا فـي مواجهة خـــوارق وأعاجيب مما يُـــزري بقواني العِلية والقواني الطبيعية كما نعرفها في عالمنا المحسوس. اطلعنا على شيء من ذلك في «ألف ليلة وليلة». لكن يبدو أن رشيد الضعيف نظر فرأى إلى أين وصلت «ألف ليلة»، وقرر لنفسه أن يشطح أبعد مما شطح خيالها الشعبي الخصب، وأن يمعن في الابتعاد عن الواقع، فيقيم عالماً موازياً يكاد يخلو من أي من مألوفاتنا اليومية. نـحـن هـنـا فــي حــضــرة عــالــم شـخـوصـه المـلـوك والملكات والـــوزراء والحكماء. في حضرة ممالك لا أقـول من العصر القديم. فهي ليست من أي عصر. لا مـــعـــالـــم لـــهـــا تـــصـــل إلـــيـــهـــا بـــــأي عـــصـــر تـــاريـــخـــي. هـــي تــقــوم وســـط الـــصـــحـــراء. قـــد تــكــون فـيـهـا مـبـانٍ وشـوارع وحدائق، لكن ليس لأي من هذه الظواهر حـضـور مـحـسـوس. هــي مـجـرد ديـــكـــورات لـخـوارق الأحداث. المشهد الروائي شديد التجريد. والأحداث والأفــــعــــال الــبــشــريــة تـمـلـيـهـا الـــنـــبـــوءات والأحـــــام وتـفـاسـيـر الأحـــــام. الـجـن فـاعـل فــي الأحـــــداث بقدر ما البشر فاعلون. الأفاعي تتكلم وتخطط وتُجند أو تتطوع فـي خدمة المـلـك. الملكة تَـحْـمَـل مـن غيمة عابرة في السماء بالتزامن مع حشرة تزورها في الـــفـــراش، فتستدعي غـضـب المـلـك - زوجــهــا - الــذي لم يمسسها. تضطر للهرب وحيدة إلـى الصحراء المـوحـشـة حـيـث تـضـع ولـيـدهـا المـعـجـزة. أهـــو حبلٌ يــحــاكــي الــحــبــل الــشــهــيــر بـــا دنـــــس؟ لا نـــعـــرف ولا نستطيع أن نجزم بشيء؛ فالنص لا يقودنا بشكل مؤكد في ذلك الاتجاه. ولا مناص من أن يخطر في بالنا ذلـك الخاطر، خصوصاً أن الملكة تحيط بها أجـــواء الـبـراءة والقدسية، وتـبـدو دومــ فـي حماية قـوى خارقة، فالسحب تظللها من قيظ الصحراء، والنسور تنقضمن علٍ لتنقذها من أخطار وحوش البادية، والنار إذا ما اشتعلت حولها، لا تكون إلا برداً وسلماً. هذا إلى جانب أن طفلها وليد الغيمة أيضاً تحيط به الظواهر الخرافية الخارقة، ورغم أنـــهـــا يـضـيـع مـنـهـا فـــي الـــصـــحـــراء المـــوحـــشـــة، فـإنـه يـنـجـو بــمــعــجــزات لا حــصــر لــهــا مـــن كـــل الأخـــطـــار، ويجد حليب الـرضّـع وطعام الناشئة والمــاء الـزلال فـا يجوع ولا يعطش أبـــداً، ولا تنزل بـه نـازلـة من النوازل. مــا كــل هــــذا؟ مــا الــــذي يفعله رشــيــد الضعيف بالضبط؟ يقرأ المــرء فصلً بعد فصل، بحثاً وراء المـعـنـى، وراء الـغـايـة، لـكـن يبقى الغليل بــا رواء. ولا نملك إلا أن نواصل القراءة. خارقة بعد خارقة. أعجوبة بعد أعجوبة. تكراراً بعد تكرار. دائماً على المنوال ذاته. يتواصل السرد في فصول جد قصيرة، وفـــي لـغـة شـعـريـة جـمـيـلـة، لكنها بسيطة بساطة الحكاية الشعبية. لغة تـشـارف عتبات الصوفية. لـغـة تـتـأمـل فـــي الـطـبـيـعـة وتـــقـــرأ الـحـكـمـة الـظـاهـرة والحكمة الخفية فيما تصف بي الفينة والفينة. يــعــثــر جـــنـــود المـــلـــك عـــلـــى المـــلـــكـــة الــــهــــاربــــة فـي الصحراء بعد سنوات لا ندري عددها، ويأتون بها إلى الملك أسيرة ذليلة؛ فهي في عينه وعي الشعب خائنة ساقطة، فتُسام ألوان العذاب ويُحكم عليها بـالمـوت حـرقـ ، إلا أن الـخـوارق تحميها مـن كـل ألـم، والــنـــار لا تصيبها بـعـطـب. مــن جـهـة أخــــرى، يبلغ الطفل التائه في الصحراء منذ مولده، الذي سُمي «عَـــدْيـــا»، إلـــى أعــتــاب الــشــبــاب، ويـصـل إلـــى المدينة المملكة ويلتقي بـ«أبيه» الملك، الـذي هو ليس أباه، فـهـو ولـيـد غيمة سـمـاويـة كـمـا علمنا فــي الـبـدايـة. لـكـنـه يـخـاطـب المــلــك بــــ«أبـــتـــي» بـــنـــاءً عـلـى نصيحة أمـه التي كـان قد التقاها بي ألسنة اللهب التي لا تؤذيه ولا تؤذيها وسط دهشة الغوغاء المحتشدين ورعبهم مما يـــرون. فــإن كــان عديا ابــن الغيم، وإن كانت الملكة لم يمسسها الملك، فكيف اتفق أن الفتى الآن يدعو الملك أبتي، وأن أمه قالت له أن يفعل ذلك؟ ليس هناك تفسير يقدمه النص. ولا أدري إن كان الـكـاتـب يتوقع أن يـأتـي التفسير مـن عند الـقـارئ. وليس عندي شخصياً مِن تفسير سوى الإحالة مرة أخرى على القصة الدينية المشهورة عن الحبل بل دنـس. هل هـذه محاولة من رشيد الضعيف لطرح تلك القصة فـي شكل أمثولة؟ ربـمـا. لكنها «ربما» تتمسك بصفتها الاحتمالية الصرف، وببعدها عن أي جزم أو يقي. تـنـتـهـي الــــروايــــة بــمــوت المــلــكــة وتــصــالــح الأب والابـــــن، مــا قــد يــبــدو للحظة أمــــراً طـيـبـ ؛ فـقـد أدّت الملكة رسالتها واهـتـدى المـلـك الـضـال وانـضـم إليه ابنه القدسي، لكن الروائي لا يتركنا في معية هذا الــوهــم، فالفصل الأخــيــر مــن الـــروايـــة يـكـاد ينافس رؤيــــا يـوحـنـا الــاهــوتــي فـــي الإنــجــيــل بـمـا يحويه مــن تخيلت خــارقــة. فما إن تـوقـف قلب الملكة عن النبض، حتى «اضطربت السماء، فاصطدم النجم بالنجم، وجُنت النجومُ سرايا بل اتجاه، وانقلبت الشمس إلـى مغيبها بلمحة بصر، وعمت الظلمة الـكـونَ كل الـكـون، وانطفأت النجوم، واحـتـار القمر كيف يسعى (...) وفي هذا الليل البهيم، وفي هذه الــظــلــمــة الــقــاتــلــة، انــخــضــت الـــبـــحـــار، وفـــاضـــت عن شواطئها (...) وخرجت حيوانات البحر من البحر، ورادت أرض الـبـشـر (...)، والـتـهـمـت الــنــاس الـذيـن - 204 تـــأخـــروا عــن الـلـجـوء إلـــى المـــخـــابـــئ...». (ص )، ويتحول جسد الملكة والزوجة والـوالـدة إلى 205 «قطعة من ضـوء في هـذه العتمة الكونية القاتلة» )206( . يسجد له الملك والابن لا أملك في النهاية إلا أن أتساءل: ما الذي حدث لرشيد الضعيف؟ أفتقد بشدة الناقدَ الاجتماعي الـسـاخـر فــي تـاريـخـه الـــروائـــي الـطـويــل. وأتــســاءل: ســـنـــة) الــــــذي يـعـطـي 78( أهـــــو الـــتـــقـــدم فــــي الـــعـــمـــر الــكــاتــب رخــصــة أن يـكـتـب مـــا يـحـلـو لـــه وأن يهجر طـرقـه المـألـوفـة؟ أهــو الضيق بالواقعية والمـيـل إلى الأمثولة الجامعة الشاملة الـرامـزة في غير تعيي ولا تحديد؟ أهو الضجر من المعنى والميل إلى نص هيولي منفتح وغير متشكل ولا معنوي؟ قد تكون الإجابة من هذا أو لا شيء من هذا. * أستاذ فخري للأدب العربي الحديث في جامعة إكستر * رشيد العناني رؤية نقدية للرواية والتحولات التيطرأتعلى مؤلفها، وجعلته ينتقل من الكتابة الواقعية الساخرة المرحة إلى كتابة الفانتازيا إطلالة على إصدارات جيل كيبل وأمين معلوف عرسالكتاب في «معرضالرباط» قـبـل الـــدخـــول إلـيـه تستقبلك حـدائـق الحسن الثاني الغنّاء الفسيحة الأرجـــاء. إنــهــا مـــن أجــمــل الــحــدائــق والــبــســاتــن في العالم وأكثرها اتساعاً وانشراحاً. أحياناً تشعر وأنـــت تتجول فـي جنباتها وكأنك في جنة عدن. ثم بعدئذ تدخل إلى المعرض لــكــي تــتــجــول بـــن الأجــنــحــة ودور الـنـشـر العربية والأجنبية. وهل هناك متعة أكبر مــن هـــذه المـتـعـة؟ رفـــوف الـكـتـب تحيط بك من كل الجهات. أول شـيء فعلته هو أني مـــررت عـلـى «دار المــــدى» لـكـي آخـــذ نسخة من كتابي «العرب بي الأنوار والظلمات». بـعـدئـذ تـوجـهـت مـبـاشـرة إلـــى دور النشر الفرنسية لكي أرى ما هي آخر الإصدارات والمستجدات. كان أولها كتاب جيل كيبل المـعـنـون على سبيل الاسـتـهـزاء «نـبـي في وطــــنــــه». والمـــقـــصـــود الـــعـــكـــس: أي لا نبي في وطنه، كما يقول المثل الشهير. فجيل كــيــبــل الـــــذي كــــرس حــيــاتــه كــلــهــا لـــدراســـة موضوع الحركات الأصولية وأنتج على مــدار أربـعـن عاماً أكثر مـن عشرين كتاباً مهماً، لم يحظَ بالاهتمام الكافي من قبل بلده ولا من قبل الجامعات الفرنسية، بل رفضوا أطروحاته ووقفوا في وجهها سداً منيعاً. وقد فعلوا ذلك باسم الآيديولوجيا: الــعــالــم ثـالـثـيـة بـــالأمـــس، والآيـديـولـوجـيـا الإســـامـــويـــة - الـــيـــســـارويـــة الــــيــــوم. دائــمــ تــــقــــف الآيــــديــــولــــوجــــيــــا بــــكــــل شـــعـــاراتـــهـــا الديماغوجية في وجه العلم النير والفكر الـحـر. مـــاذا فعل جيل كيبل؟ مـا خطيئته الـتـي لا تُغتفر؟ لقد طبق على الأصولية الإسـامـيـة المنهجية نفسها الـتـي طبقها فلسفة الأنـوار في أوروبـا على الأصولية المسيحية. فهل ينبغي أن نعاقبه على ذلك أو نشكره؟ جيل كيبل هـو وريـــث فولتير وديـــــــدرو والمـــوســـوعـــيـــن وارنــــســــت ريــنــان وفيكتور هيغو ومكسيم رودنـسـون وكل عباقرة فرنسا وأنـوارهـا. ولكن لا ينبغي أن يتشاكى كيبل ويتباكى أكثر مما يجب عــلــى حــظــه ونــصــيــبــه. تُـــرجـــمـــت مـؤلـفـاتـه لمـخـتـلـف لــغــات الــعــالــم وأصــبــحــت مـراجـع أسـاسـيـة للباحثي وأســاتــذة الجامعات. والــواقــع أنــه عــرف كيف يفكك مـن الـداخـل عقيدة الحركات الإخوانية الأصولية بكل تـمـكـن واقـــتـــدار. وقــــدم بــذلــك خــدمــة كبرى لقضية التنوير الـعـربـي. فهل هــذا قليل؟ هذا كثير وأكثر. لم يضع جيل كيبل وقته ســــدى. إنـــه كــتــاب مـمـتـع جــــداً؛ لأنـــه يشبه نهاية المطاف وحصاد العمر. وككل كتب الــذكــريــات والمـــذكـــرات لــه سـحـره الـخـاص، ويُـقـرأ بكل استمتاع دون توقف مـن أولـه إلى آخره. أنـتـقـل لـكـتـاب أمـــن مـعـلـوف الـجـديـد بعنوان: «متاهة التائهي» أو الحائرين أو الضائعي الضالي، سَمّه ما شئت. وفيه يروي لنا المؤلف قصة الصراع بي الغرب وخصومه على مدار القرون الماضية. الشيء الممتع في كتاب أمي معلوف هو أنه يبدأ بالتحدث عن صعود اليابان في عهد سللة الميجي: أي الحكم المستنير. 1868 في السادس من أبريل (نيسان) عام أقسم إمبراطور اليابان على الكلم التالي: عادات الماضي السيئة ينبغي أن نهجرها ونتخلى عنها كلياً. كل شيء سوف يرتكز مـنـذ الآن فـصـاعـداً عـلـى قــوانــن الطبيعة الدقيقة والعادلة. العلم سوف نبحث عنه في العالم كله. بدءاً من تلك اللحظة انطلقت النهضة اليابانية بسرعة صاروخية إلى حد أنها أدهـــشـــت الــبــشــريــة بـــأســـرهـــا. فـــــأول مــرة اسـتـطـاعـت أمـــة شـرقـيـة أن تكسر احتكار الــغــرب لـلـسـيـطـرة عـلـى الـعـلـم والـحـضـارة والــتــكــنــولــوجــيــا. مـــن المـــعـــلـــوم أن هيمنة الــــغــــرب عـــلـــى الـــعـــالـــم كـــانـــت قــــد أصـبـحـت كـامـلـة شـامـلـة مـنـذ الـــقـــرن الـــســـادس عشر وحــتــى الـــقـــرن الــتــاســع عــشــر والــعــشــريــن. وكــــانــــت هــيــمــنــة شـــبـــه مــطــلــقــة عـــلـــى كــافــة الأصعدة والمستويات: من علمية وفلسفية وحضارية وتكنولوجية. ويـعـود الفضل في ذلك إلى عصر التنوير الكبير في القرن الــثــامــن عـشـر وظـــهـــور الـــثـــورة الصناعية الإنــجــلــيــزيــة الـــتـــي كـــانـــت أكـــبـــر حــــدث في تاريخ البشرية كما يقول أميمعلوف. فقد ازدهرت عندئذ العلوم والتقنيات والأفكار بشكل هائل لا مثيل له في أوروبا الغربية أولاً، ثم أميركا الشمالية ثانياً. وهـذا هو الغرب بالمعنى الواسع للكلمة: إنه أوروبا زائد أميركا. وأميركا هي بنت أوروبا كما كان يقول الجنرال ديغول. وأدى ذلك إلى تشكيل أكبر حـضـارة فـي تـاريـخ البشرية عـلـى يــد الـــثــورة الإنـجـلـيـزيـة المـجـيـدة عـام ، ثم 1776 ، والـــثـــورة الأمـيـركـيـة عـــام 1688 بـــالأخـــص الـــثـــورة الـفـرنـسـيـة الــكــبــرى عـام . كل ذلك أدى إلى انتصار قيم عصر 1789 الأنـــــــــوار عـــلـــى قـــيـــم الـــظـــامـــيـــة المـسـيـحـيـة والأصـــولـــيـــة الــكــاثــولــيــكــيــة الـــبـــابـــويـــة. ثم جــــاءت الــيــابــان فــي أواخــــر الــقــرن الـتـاسـع عــشـــر لـــكـــي تــلــحــق بـــالـــغـــرب وتـــنـــضـــم إلـــى ركـب الحضارة والتقدم والـرقـي. وينبغي التوقف هنا قليلً عند كلمات الإمبراطور الياباني المستنير المدعو بالميجي. فهذه الكلمات القلئل هي التي أشعلت نهضة الـيـابـان ودشنتها. مـــاذا تعني فـي نهاية المطاف؟ ثلثة أشياء أساسية: أولاً ضرورة القطيعة مع الماضي الأصولي القديم بغية تحقيق النهضة المرجوة. ثانياً البحث عن الـعـلـم فــي شـتـى أنــحــاء الـعـالـم المتحضر: أي في إنجلترا وألمانيا وفرنسا وأميركا على وجــه الـخـصـوص. ثالثاً أن القطيعة مـــع المــاضــي الــكــســول والــظــامــي لا تعني ذوبان الشخصية اليابانية وانحللها في الـغـرب، وإنـمـا تعني أن التنوير بواسطة العلم والفلسفة والتكنولوجيا هو الطريق الـوحـيـد لـكـي تـخـرج الــيــابــان مــن تخلفها المزمن والطويل. فــــي نـــهـــايـــة المــــطــــاف يـــقـــول لـــنـــا أمـــن مـعـلـوف مـــا فـــحـــواه: لـقـد علمتني فلسفة الـــــتـــــاريـــــخ أن كـــــل أولـــــئـــــك الـــــذيـــــن يـــبـــنـــون وجـــودهـــم عـلـى كـــره الــغــرب بشكل مسبق وقـــاطـــع، ســرعــان مــا يـقـعـون فــي مستنقع الأصــــولــــيــــة والـــبـــربـــريـــة والـــتـــخـــلـــف. وفـــي نـهـايـة المــطــاف فـإنـهـم لا يـعـاقـبـون الـغـرب ذاته، وإنما يعاقبون أنفسهم. ولكن هذا لا يعني أن كـل أفـكـار الـغـرب وأنـمـاط حياته وقيمه كانت دائماً مفيدة للبشرية. فالحق أنـنـا نـجـد فيها الـخـيـر والــشــر، الإيـجـابـي والـسـلـبـي. ولـذلـك لا ينبغي رفــض الغرب بــشــكــل مــطــلــق ولا قــبـــولـــه بــشــكــل مـطـلـق. وعلى كـل أمـة أن تأخذ مـن أفـكـار الحداثة ما يناسبها وتطرح ما تبقى غير مأسوف عليه. بـالـطـبـع لا يـنـسـى أمــــن مــعــلــوف أنــه لبناني الأصـل، وأن التراجيديا اللبنانية تـــضـــغـــط عـــلـــيـــه وتـــــؤلمـــــه. ولـــكـــنـــهـــا لـيـسـت لبنانية فقط، وإنما عربية شاملة أيضاً. وهـي ناتجة بشكل أساسي عن التعصب الديني الأعـمـى. فالإنسان عندنا محكوم بأصوله الطائفية أو المذهبية غصباً عنه. وهـــــذه مـشـكـلــة أســـاســـيـــة تـــعـــوق انــطــاقــة الـــنـــهـــضـــة الـــعـــربـــيـــة. وبـــالـــتـــالـــي فـــمـــا هـو الـحـل؟ الـحـل هـو فـي انتصار التنوير في الــعــالــم الــعــربــي كـمـا انـتـصـر فــي الــيــابــان. ينبغي أن تنتصر أنـــوار العلم والفلسفة عـلـى ظـلـمـات الـجـهـل والـتـعـصـب وعــبــادة الأسـاف. ينبغي أن ننتصر على أنفسنا: أي عــلــى مــاضــويــة المــــاضــــي. الــيــابــانــيــون لــــم يـــــتـــــرددوا لـــحـــظـــة واحــــــــدة فــــي إحـــــداث القطيعة مع ماضيهم التكراري الاجتراري بـــغـــيـــة الانــــــطــــــاق، فـــلـــمـــاذا نــــتــــردد نــحــن؟ ولكن حــذارِ: هـذا لا يعني القطيعة مع كل الماضي، وإنما فقط مع العناصر الظلمية الارتـــكـــاســـيـــة مــــن هـــــذا المــــاضــــي الـــتـــراثـــي. فهناك صفحات مضيئة رائعة في تراثنا الـعـربـي الإســامــي، وهـنـاك ذخـائـر العرب ومكارم الأخلق التي تحمينا من السقوط في مزالق الحضارة الغربية وانحرافاتها الإباحية التي أصبحت تقلق العالم. أخـــيـــراً، فــالــســؤال المـــطـــروح هـــو: لمــاذا نـــجـــح الـــتـــنـــويـــر الـــيـــابـــانـــي نـــجـــاحـــ بـــاهـــراً وفشل التنوير العربي فشلً ذريعاً؟ لماذا بـعـد كــل تـلـك النهضة الـتـنـويـريـة الـرائـعـة التي شهدناها في القرن التاسع عشر كما اليابانيي، فوجئنا بهذه الموجة الظلمية الــعــارمــة الــتــي اكـتـسـحـت فـــي طـريـقـهـا كل شيء ولا تزال؟ ربما لأن الأصولية المطلقة مـــتـــجـــذرة فــــي أعــــمــــاق أعـــمـــاقـــنـــا أكـــثـــر مـن اليابانيي بكثير. ولـذلـك يصعب تـجـاوزهـا. وربـمـا لأن الأحـــقـــاد الـطـائـفـيـة المــتــراكــمــة والمـتـفـاقـمـة عندنا لا تحتاج إلــى أكـثـر مـن عــود ثقاب لكي تنفجر وتشتعل. وهذا ما هو حاصل حـــالـــيـــ . وهـــــذا الــخــطــر غــيــر مـــوجـــود عند الـيـابـانـيـن لحسن حـظـهـم؛ لأن عقيدتهم ليست قائمة على مفهوم الفرقة الناجية واحـــــتـــــكـــــار الـــحـــقـــيـــقـــة الإلــــهــــيــــة المـــطـــلـــقـــة. وبـالـتـالـي، فـا يـوجـد عندهم شــيء اسمه تكفير ونبذ وإقـصـاء وذبــح على الهوية. بالنسبة لهم ولجميع الحضاريي، فإن كل الناس الطيبي الفاعلي للخير والخادمي للمجتمع والمصلحة العامة هم من الفرقة الناجية أياً تكن أديانهم ومذاهبهم. لهذا الـسـبـب نـقـول إن مـعـركـة الـتـنـويـر العربي الــــقــــادمــــة ســـتـــكـــون شــــاقــــة جــــــداً ومــــريــــرة. وســوف تستغرق عشرين أو ثلثي سنة على أقل تقدير. «نبي في وطنه» لجيل كيبل «متاهة التائهين» للأمين معلوف هاشمصالح عرفكيبل كيف يفكك من الداخل عقيدة الحركات الإخوانية الأصولية بكل تمكن واقتدار

RkJQdWJsaXNoZXIy MTI5OTky