اكتشاف مدفن لعجلة وآله موسيقية في السعودية تعيد كتابة تاريخ الجزيرة العربية

وجدت في حرّات المهد والبقوم وحرّات أخرى بين مدينتي مكة المكرمة والمدينة المنورة

العلامة الصورية في الكتابات المسمارية الرافدية لرمز المدفن النجمي أو العجلة (الباحثان)
العلامة الصورية في الكتابات المسمارية الرافدية لرمز المدفن النجمي أو العجلة (الباحثان)
TT

اكتشاف مدفن لعجلة وآله موسيقية في السعودية تعيد كتابة تاريخ الجزيرة العربية

العلامة الصورية في الكتابات المسمارية الرافدية لرمز المدفن النجمي أو العجلة (الباحثان)
العلامة الصورية في الكتابات المسمارية الرافدية لرمز المدفن النجمي أو العجلة (الباحثان)

تواصل السعودية جهود البحث والتنقيب عن الكنوز الآثارية التاريخية التي تحتفظ بها، والتي يقود اكتشافها إلى تجديد النظر في كتابة تاريخ المنطقة، وإعادة الاعتبار لدور الجزيرة العربية في الحضارة الإنسانية، انطلاقاً من موقعها الجغرافي الذي أهّلها للعب دور تاريخي، بقيت آثاره محفوظة في باطن الأرض أو محفورة على الشواهد الصخرية.

وتُقدم المدافن الأثرية التي يتم اكتشافها بين حين وآخر في مختلف مناطق المملكة فرصة ثمينة لبناء سردية جديدة عن التاريخ الحضاري لأراضي الجزيرة العربية، ويزيد البحث الميداني والدأب على اكتشاف التفاصيل في إغناء تلك الاكتشافات وإثراء نتائجها العلمية، وهي المهمة التي يتولاها الباحث الميداني والأنثروبولوجي السعودي الدكتور عيد اليحيى، وعالم الآثار الدكتور قصي التركي، والتي أسفرت عن اكتشاف أنماط مبتكرة في المدافن الأثرية ترتبط بالدور الحضاري للجزيرة العربية، وركزا جهودهما مؤخراً على «مدفن العَجَلة» الذي يكثر في حرّات المهد والبقوم وحرّات أخرى بين مدينتي مكة المكرمة والمدينة المنورة، وأيضاً على مدفن الآلة الموسيقية الذي قاد إليه أحد الهواة، وتنفرد به مدينة «تربة» التابعة لمنطقة مكة المكرمة.

أنماط عن الحياة والسماء وما بعد الموت

ويتطلب البحث والتقصي عن أبنية المدافن في السعودية وقتاً طويلاً وعملاً مضنياً، بسبب الأعداد الهائلة من المدافن، والاختلاف في تصاميمها وأغراضها وانتشارها على مساحات واسعة، يتعذر الوصول إلى بعضها بسبب وعورة الطرق وصعوبة التضاريس. ويسعى الباحثان اليحيى والتركي من خلال دراساتهما المتعاقبة إلى اكتشاف الأنماط المذهلة لتلك المدافن، والتي يرتبط أغلبها بطبيعة الحياة والسماء وعالم ما بعد الموت، وتأصيل الدور الحضاري لإنسان السعودية في وضع اللبنات الأولى لقيام الحضارة في العالم.

نموذج لواحد من آلاف المدافن من نمر العجلة يكثر في حرات المهد والبقوم وأخرى بين مكة والمدينة (الشرق الأوسط)

مدفن العَجَلة

آثر الباحثان تسمية واحد من أنماط المدافن بمدفن «العَجَلة» اعتماداً على تصميمه وشكله الذي يشبه العجلة، أو «المدفن النجمي»، نظراً للشبه الواضح مع النجمة الرباعية، لا سيما عند مقارنته مع ما يتطابق مع رمزه الصوري في المرحلة الصورية من الكتابة المسمارية ومعنى لفظة نجم أو كوكب. وقام الباحثان بجولة ميدانية في عدد من المواقع التي ضمّت آلاف المدافن في مناطق محددة من حرات المملكة، ورصد الأنثروبولوجي والمختص في حضارة الجزيرة العربية الدكتور عيد اليحيى مئات الآلاف منها في مناطق مختلفة من السعودية، ومن بين تلك النماذج التي تم اكتشافها نمط مدفن العجلة الذي يكثر في حرات المهد والبقوم، وحرّات أخرى بين مكة المكرمة والمدينة المنورة.

ويوصف مدفن العجلة بكونه مدفناً دائرياً يشبه تماماً العجلة الدائرية التي تتوسطها ركائز، ولوحظ أن غرفة الدفن تقع في إحدى الجهات الأربع من العجلة، ويعتقد أنه تم إعداد المدفن لأربعة أشخاص، بيد أنه لم يدفن فيه إلا شخص واحد، والذي يظهر في الصورة الملتقطة من الأعلى كنقطة سوداء في الزاوية الشمالية الشرقية من العجلة.

العلامة الصورية في الكتابات المسمارية الرافدية لرمز المدفن النجمي أو العجلة (الباحثان)

رحلة الدلالة من الجزيرة العربية

وتتصل دهشة الاكتشاف بالتفسير والدلالة اللغوية والمعنى والشكل والتصميم لهذا النمط من المدافن، وهو ما وجده الدكتور قصي التركي الذي تتبع في إنتاجاته المتعددة الصلات الحضارية بين العراق والخليج العربي خلال تاريخ ما قبل الميلاد، وهو دليل آخر ينضم إلى أدلة كثيرة تشير إلى أن أصول سكان حضارة بلاد الرافدين تعود إلى الجزيرة العربية، حيث بنوا في حرات عديدة وبالآلاف مدافن حجرية، أخذت هذا التصميم للعجلة أو النجمة التي تحيط بها دائرة، واعتبروه مدفناً مهماً يرتبط بالكون والسماء والنجوم والكواكب ومنها كواكب عطارد والمريخ وزحل.

وحسب الباحثين، يُفهم من هذا التفسير أنه عندما استقر المهاجرون من الجزيرة العربية في بلاد الرافدين، أخذوا معهم شكل المدفن وأسقطوه على اختراعهم المعرفي المتمثل بالكتابة، فكانت الصورة الكتابية عبارة عن نجمة داخل عجلة، وتكرر هذا النمط مع نماذج لا حصر لها في حرات المهد والبقوم، وحرّات أخرى بين مكة والمدينة.

مدفن الآلة الموسيقية في محافظة تربة من تصوير سعد السبيعي الذي قاد إلى الاكتشاف (الشرق الأوسط)

صدفة تقود إلى نمط فريد للمدافن الأثرية

وقادت الصدفة أحد الهواة لاكتشاف نمط فريد ومدهش من المدافن الأثرية، وذلك عندما وجد «سعد السبيعي» تشكيلاً مثيراً للانتباه في حرة «بني هلال» جنوب غربي السعودية. وقدم هذا الاكتشاف نموذجاً لنمط تنفرد به مدينة تربة، التابعة لمنطقة مكة المكرمة، يوحي شكله إلى ما يشبه آلة موسيقية، لها عمود طويل، وأسفل الدائرة البيضاوية الشكل مجموعة من المثلثات الحجرية عددها 17 مدفناً، تشبه الأوتار.

وبشكل دقيق، وموجز، فإن قطر الدائرة البيضاوية شمال - جنوب 50م، شرق غرب 40م، وطول المذيل نحو 100م، وعرضه يصل إلى 2م، وبارتفاع يصل إلى 1.50م، أما المدافن الأخرى المرتبطة بالمدفن الرئيسي، فبنيت عند بداية المذيل من جهة الدائرة البيضاوية، وتأخذ شكل مثلث، وبعرض 2م وطول يتراوح بين 4م إلى 5م، وتأتي قاعدة المدفن المثلث مرتفعة في البداية، ثم يميل المثلث إلى الانحناء ناحية رأس المدفن، ويقع في وسط أعلى الدائرة البيضاوية مكان القبر الرئيسي للشخصية الأكثر أهمية، والتي بني من أجلها المدفن.

وتقود أعمال اكتشاف المدافن الفريدة على الأراضي السعودية إلى تغيير الكثير من المعلومات حول تاريخ الجزيرة العربية بشكل عام، وتاريخ السعودية وحضارتها على وجه الخصوص. ويواصل الباحث السعودي الدكتور عيد اليحيى وعالم الآثار الدكتور قصي التركي جهودهما لإنجاز العديد من الدراسات والمشاريع الميدانية والعلمية، للفت الانتباه لما تكتنزه المناطق السعودية من حضارات وإرث يعود لآلاف السنين، وينتظر جهوداً مضاعفة لاكتشافه وتسليط الضوء على تفاصيله، وإظهار المكانة الحضارية للسعودية باعتبارها الموطن الأول للبشرية.


مقالات ذات صلة

إعفاء السعوديين من التأشيرة القصيرة إلى طاجيكستان وأذربيجان

الخليج وزيرا الخارجية السعودي والطاجيكستاني عقب توقيع على مذكرة التفاهم (واس)

إعفاء السعوديين من التأشيرة القصيرة إلى طاجيكستان وأذربيجان

واصل الأمير فيصل بن فرحان وزير الخارجية السعودي في مدينة نيويورك الأميركية عقد مباحثات ثنائية مع مسؤولي عدد من الدول، ناقشت سبل تعزيز التعاون المشترك.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
الخليج جانب من توقيع اتفاقيتي التعاون المشترك بين مركز الملك سلمان للإغاثة ومكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (واس)

اتفاقات دعم سعودي إنساني لمنظمات دولية في 3 دول

أبرمت السعودية، ممثلة في مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية، اتفاقيات تعاون مشترك مع منظمات دولية لدعم العمل الإنساني في سوريا والسودان وأوكرانيا.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
يوميات الشرق الناقد المسرحي القطري الدكتور حسن رشيد (الشرق الأوسط)

المسرحي د. حسن رشيد لـ«الشرق الأوسط»: الرياض حاضنة الإبداع... والحضور القطري تكريمٌ للثقافة

تحلُّ دولة قطر «ضيف شرف» معرض الرياض الدولي للكتاب 2024 الذي تنظّمه هيئة الأدب والنشر والترجمة السعودية، تحت شعار «الرياض تقرأ»، وتستمر فعالياته حتى 5 أكتوبر …

ميرزا الخويلدي (الرياض)
الخليج وزير الخارجية السعودي يتحدث خلال جلسة لمجلس الأمن بشأن غزة في نيويورك (الأمم المتحدة)

السعودية تدعو لشراكة جادة تحقق السلام في المنطقة

أكد وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان أن بلاده تؤمن بأن تنفيذ حل الدولتين هو الأساس لتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة.

جبير الأنصاري (الرياض)
الخليج وزير الخارجية السعودي يتحدث خلال جلسة مفتوحة لمجلس الأمن حول القيادة في السلام بنيويورك (واس)

وزير الخارجية السعودي: الدولة الفلسطينية حق أصيل لا نتيجة نهائية

أكد الأمير فيصل بن فرحان، وزير الخارجية السعودي، أن «الدولة الفلسطينية حق أصيل وليست نتيجة نهائية»، مشدداً على صعوبة تقييم الوضع في الشرق الأوسط الآن.

جبير الأنصاري (الرياض)

عيّنات توثّق التاريخ البركاني للجانب البعيد من القمر

رسم توضيحي للمسبار «تشانغ إيه - 5» الصيني (شبكة تلفزيون الصين الدولية)
رسم توضيحي للمسبار «تشانغ إيه - 5» الصيني (شبكة تلفزيون الصين الدولية)
TT

عيّنات توثّق التاريخ البركاني للجانب البعيد من القمر

رسم توضيحي للمسبار «تشانغ إيه - 5» الصيني (شبكة تلفزيون الصين الدولية)
رسم توضيحي للمسبار «تشانغ إيه - 5» الصيني (شبكة تلفزيون الصين الدولية)

أعلن فريق من العلماء الصينيين عن تحليل ودراسة عينات قمرية، جُمعت بواسطة مهمة «تشانغ إيه - 6»، وهي أول عينات تحلَّل من الجانب البعيد للقمر.

وأوضح الباحثون في المرصد الفلكي الوطني التابع للأكاديمية الصينية للعلوم في بكين، أن هذا يُعدّ إنجازاً كبيراً في مجال علوم استكشاف القمر والقدرات التقنية، وقد نُشرت الدراسة، الجمعة، في دورية «National Science Review».

تاريخياً، جُمعت عينات القمر من خلال مهمات عديدة، بما في ذلك 6 مهمات لبرنامج «أبولو» الأميركي، و3 مهمات سوفيتية من مركبة «لونا»، ومهمة «تشانغ إيه - 5» الصينية، وبلغ إجمالي العينات التي جُمعت نحو 382.9812 كيلوجراماً، وقد وفّرت هذه العينات معلومات قيّمة حول تاريخ تكوين القمر وتطوّره.

وتُعدّ العينات القمرية العائدة أساسية لبحوث علم الكواكب؛ إذ توفر بيانات مختبرية رئيسية لربط الملاحظات الاستشعارية المدارية في الواقع الميداني على السطح.

وساهمت هذه العيّنات في تطوير فرضيات، مثل نشأة القمر نتيجة تصادُم كبير مع الأرض البدائية، ومحيط الصهّارة القمرية، والقصف الشديد المتأخّر. وحتى الآن جُمعت هذه العينات من الجانب القريب للقمر، ولم يُكتشَف الجانب البعيد إلا حديثاً.

ولا يمكن لعينات الجانب القريب وحدها، دون جمع عينات كافية من سطح القمر بأكمله، خصوصاً من الجانب البعيد، أن تعكس التنوع الجيولوجي الكامل للقمر، وهذا القصور يعوق فهمنا لنشأة القمر وتطوّره.

وتمكّن علماء الفضاء في الصين من الحصول على عينات الجانب البعيد اللازمة عندما جمعت مهمة «تشانغ إيه - 6» نحو 1935.3 غراماً من العينات القمرية من حوض القطب الجنوبي - آيتكين، في 25 يونيو (حزيران) 2024.

وجُمعت العينات من سطح القمر باستخدام تقنيات الحفر والتجريف، وحلَّل الفريق الخصائص الفيزيائية والمعدنية والبتروغرافية والجيوكيميائية للعينات.

وأظهرت التحليلات أن العينات التي جُمِعت تعكس مزيجاً من المواد «البازلتية المحلية»، والمواد «غير القمرية» الغريبة، وفق نتائج الدراسة.

وتتكوّن شظايا الصخور في عينات «تشانغ إيه - 6» بشكل أساسي من البازلت، والصخور البركانية، والركام، أما المعادن الأساسية للتربة القمرية فهي الفلسبار، والبيروكسين، والإلمينيت، مع وجود ضئيل للأوليفين.

وتتكوّن التربة القمرية في عينات «تشانغ إيه - 6» بشكل رئيسي من خليط من البازلت المحلي والمواد المقذوفة غير البازلتية.

ووفق الباحثين، تُوثق البازلتات المحلية في العينات التاريخَ البركاني للجانب البعيد للقمر، في حين قد توفر الشظايا غير البازلتية رؤى مهمة عن القشرة المرتفعة القمرية، وذوبان تصادُم حوض القطب الجنوبي - آيتكين، وربما الوشاح العميق للقمر، مما يجعل هذه العينات ذات أهمية كبيرة للأبحاث العلمية.

ويعتقد العلماء أن حوض القطب الجنوبي - آيتكين تَشكَّل قبل 4.2 إلى 4.3 مليار سنة خلال فترة ما قبل النكتارية، نسبةً إلى بحر نكتار، أو بحر الرحيق الواقع في الجزء الجنوبي الغربي من الجانب القريب للقمر.