إليز ستيفانيك... هل تكون مرشحة ترمب لمنصب نائب الرئيس الأميركي إثر جنوحها لليمين المتشدد؟

وصفها بـ«القاتلة» بعد إطاحتها رؤساء جامعات كبرى بحجة «معاداة السامية»

عارضت بشدة محاول عزل ترمب الأولى عام 2019 المتصلة بـ«فضيحة» أوكرانيا ودعمت محاولاته لإلغاء الانتخابات الرئاسية عام 2020
عارضت بشدة محاول عزل ترمب الأولى عام 2019 المتصلة بـ«فضيحة» أوكرانيا ودعمت محاولاته لإلغاء الانتخابات الرئاسية عام 2020
TT

إليز ستيفانيك... هل تكون مرشحة ترمب لمنصب نائب الرئيس الأميركي إثر جنوحها لليمين المتشدد؟

عارضت بشدة محاول عزل ترمب الأولى عام 2019 المتصلة بـ«فضيحة» أوكرانيا ودعمت محاولاته لإلغاء الانتخابات الرئاسية عام 2020
عارضت بشدة محاول عزل ترمب الأولى عام 2019 المتصلة بـ«فضيحة» أوكرانيا ودعمت محاولاته لإلغاء الانتخابات الرئاسية عام 2020

مع اقتراب موعد المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري الأميركي، منتصف الشهر المقبل، لتثبيت ترشيح دونالد ترمب لخوض الانتخابات الرئاسية، تزايدت التكهنات والترشيحات عن هوية «نائب الرئيس» الذي سيُدرج اسمه على بطاقات الاقتراع الخريف المقبل. وبينما ينتقد العديد من المراقبين «تأخر» ترمب في تسمية نائبه العتيد، على الرغم من انسحاب كل منافسيه الجمهوريين من السباق منذ مارس (آذار) الماضي، يرى آخرون أنه تأخير «طبيعي» بالنظر إلى شخصيته و«شروطه» التي تقوم على «الولاء» الكامل. ثم أنه بعدما نجح في السيطرة على قاعدة الحزب، وأزاح معارضيه «المعتدلين» في قيادته، استبعد في الوقت نفسه كل الشخصيات المحتملة؛ لضمان ألا تتكرر تجربته «المريرة» مع نائبه السابق مايك بنس، الذي رفض الموافقة على طلبه لإنكار فوز جو بايدن في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.

منذ ديسمبر (كانون الأول) الماضي، اتجهت الأنظار نحو إليز ستيفانيك، النائبة الجمهورية عن ولاية نيويورك، التي وصفها الرئيس السابق دونالد ترمب بـ«القاتلة» (من منطلق الإعجاب بها)، بعدما صعدت أسهمها بشكل كبير إثر استجوابها ثلاثة رؤساء جامعات كبرى في جلسة استماع بالكونغرس بتهمة «معاداة السامية» في الحرم الجامعي؛ وذلك على خلفية الاحتجاجات الطلابية التي اندلعت نصرة للفلسطينيين بسبب الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة. وبالفعل، أدّت جلسات الاستجواب إلى استقالة ليز ماغيل، رئيسة جامعة بنسلفانيا، وكلودين غاي رئيسة جامعة هارفارد.

ولقد حظي الدور الذي لعبته ستيفانيك في جلسة الاستجواب، بتأييد واسع من «اللوبي الإسرائيلي – الأميركي»، ومن إسرائيل ذاتها. وبدلاً من إبداء رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو امتنانه لإدارة بايدن على «الخدمات» الكبيرة التي أسدتها لإسرائيل إبان هذه الحرب، اختار نتنياهو الاحتفاء بستيفانيك ومنحها شرفاً استثنائياً بإلقاء خطاب أمام الكنيست. وفي الكنيست انتقدت النائبة الجمهورية الرئيس الأميركي بشدة، وأثنت على ترمب مع أنه «ليس لها أي موقف في السياسة الخارجية على الإطلاق»، فكانت «الشخص الذي يذل نفسه ليصبح نائباً لترمب»، بحسب صحيفة «النيويورك تايمز».

بطاقة شخصية

وُلدت إليز ماري ستيفانيك في مدينة ألباني، عاصمة ولاية نيويورك، يوم 2 يوليو (تموز) 1984. وهي تدّعي أن والدها كينيث من أصل تشيكي، ووالدتها ميلاني من أصل إيطالي. لكن سجلات الأنساب تظهر أن عائلة والدها جاءت من إقليم غاليسيا الذي يتوزع بين جنوب شرقي بولندا وغربي أوكرانيا.

تزوجت ستيفانيك يوم 19 أغسطس (آب) 2017، من ماثيو ماندا، الذي يعمل في مجال التسويق والاتصالات. وفي ديسمبر 2018، انتقلت وزوجها إلى شويلرفيل، بالقرب من ساراتوغا سبرينغز بشمال شرقي ولاية نيويورك، حيث أنجبا عام 2021 طفلاً واحداً هو صموئيل ألبرتون. واعتباراً من عام 2022، يعمل زوجها مديراً للشؤون العامة في المؤسسة الوطنية لرياضة الرماية، وهي جمعية تجارية لمصنعي الأسلحة النارية.

أما على الصعيد التعليمي، فقد أنهت ستيفانيك تعليمها الثانوي في مدرسة أكاديمية ألباني للبنات، وهي مدرسة خاصة عريقة. ثم التحقت بجامعة هارفارد، حيث تخرّجت بدرجة بكالوريوس في الإدارة العامة عام 2006. وخلال تلك الفترة انتُخبت نائبة لرئيس معهد هارفارد للسياسة في عام 2004، وحصلت من الجامعة على تنويه مشرّف لجائزة القيادة النسائية، وهي جائزة طلابية للقيادة والمساهمة في النهوض بالمرأة. بعد هارفارد، عملت في واشنطن لمدة ست سنوات قبل دخولها عالم السياسة، وحسب قولها فإنها فكّرت لأول مرة بالعمل في الخدمة العامة والسياسة إثر هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001. وللعلم، ضُمّت ستيفانيك إلى اللجنة الاستشارية العليا في معهد هارفارد للسياسة بعد فترة قصيرة من انتخابها، بيد أنها أقيلت من اللجنة عام 2021 إثر اعتراضها على الأصوات الانتخابية لولاية بنسلفانيا بعد اقتحام مبنى الكابيتول.

البدايات السياسية

في مستهل سجلّ تدرّج إليز ستيفانيك السياسي انضمامها إلى إدارة جورج بوش «الابن»، كموظفة في مجلس السياسة الداخلية، وعملت لاحقاً في مكتب جوشوا بولتن، رئيس أركان البيت الأبيض.

وفي عام 2009، أسّست مدوّنة لتعزيز آراء «النساء المحافظات والجمهوريات»، سمّتها على اسم رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت ثاتشر. وأدارت التحضير لمناظرات الحملة الرئاسية التي خسرها المرشح الرئاسي الجمهوري - يومذاك - ميت رومني ونائبه بول ريان عام 2012، أمام الرئيس باراك أوباما.

وبعد سنتين، في العام 2014، انتُخبت ستيفانيك وهي لا تزال في سن الثلاثين لأول مرة نائباً في مجلس النواب؛ ما جعلها أصغر امرأة تحظى بعضوية الكونغرس في ذلك الوقت، وأول امرأة تشغل مقعدها عن دائرتها في مجلس النواب.

وهنا تجدر الإشارة، إلى أنه عندما انتُخبت ستيفانيك نائبةً كانت تعتبر جمهورية محافظة معتدلة. إلا أنها مع صعود أسهم دونالد ترمب وفوزه في الانتخابات الرئاسية عام 2016، تحوّلت تدريجياً ولكن بشكل صريح نحو اليمين المتشدد، وانضمت إلى فريقه خلال رئاسته الأولى، وأعادت تصنيف نفسها كواحدة من كبار حلفائه في الكونغرس.

جمهورية ملتزمة

وحقاً، لدى مراجعة مسيرة ستيفانيك فإنها تكشف في بداياتها التزاماً لافتاً بـ«أجندة» الحزب الجمهوري ما قبل «الهيمنة الترمبية»، فهي - على سبيل المثال - عام 2017، ورغم فشل المحاولة، صوّتت ملتزمة بالسياسة الحزبية لإلغاء «قانون الرعاية الصحية» (أوباما كير) من أجل تمرير قانون الرعاية الصحية الأميركية الذي يرعاه الجمهوريون في مجلس النواب.

وفي العام نفسه، عارضت «الأمر التنفيذي» الذي أصدره الرئيس ترمب بفرض حظر مؤقت على السفر والهجرة إلى الولايات المتحدة من مواطني سبع دول ذات غالبية مسلمة، غير أنها رفضت إدانة «سياسة فصل العائلات» التي اتبعتها إدارة ترمب، ونشرت بياناً صحافياً تشيد به، بعدما وقّع ترمب «أمراً تنفيذياً» لتعليق عمليات الفصل واحتجاز العائلات.

ثم في العام 2019، صوّتت ستيفانيك مع 14 جمهورياً وجميع الديمقراطيين في مجلس النواب لتجاوز «حق النقض» الذي استخدمه ترمب على إجراء يلغي إعلان الأخير حالة الطوارئ الوطنية على الحدود الجنوبية. وعارضت التفويضات الفيدرالية الخاصة بلقاح «كوفيد - 19» لأصحاب العمل في القطاع الخاص.

وإلى جانب ما يقرب من 170 عضواً آخر في الكونغرس، وقّعت ستيفانيك على مذكرة للمحكمة العليا تجادل فيها بأن الكونغرس لم يمنح الحكومة سلطة فرض تفويض باللقاح. لكنها في مارس (آذار) 2021، صوّتت مع جميع الجمهوريين في مجلس النواب، ضد «قانون خطة الإنقاذ» الأميركية لعام 2021، وهو مشروع قانون إغاثة بقيمة 1.9 تريليون دولار من فيروس «كوفيد - 19». وبعدما كانت تدعم قانون «داكا» صوتت عام 2021 ضد قانون «دريم» (الحالمين بالجنسية).

أيضاً، صوّتت ستيفانيك مع ثمانية جمهوريين لمصلحة قانون المساواة وقدّمت مشروع قانون «الإنصاف للجميع»، الذي من شأنه حظر التمييز ضد المثليين، مع تضمين استثناءات للمجموعات الدينية والشركات الصغيرة ذات المؤسسات الدينية. إلا أنها عام 2021، عادت فصوّتت ضد «قانون المساواة»، على الرغم من دعمه التشريع نفسه. وعام 2022، صوّتت مع 47 نائباً جمهورياً لمصلحة قانون احترام الزواج، الذي من شأنه أن يقنّن الحق في زواج المثليين في القانون الفيدرالي.

دعم قوي لترمب

عارضت ستيفانيك بشدة محاول عزل ترمب الأولى عام 2019، المتصلة بـ«فضيحة» ترمب وأوكرانيا، ودعمت محاولاته لإلغاء الانتخابات الرئاسية عام 2020، معترضة على الأصوات الانتخابية في ولاية بنسلفانيا.

وبعد تورّط أنصار ترمب في الهجوم على مبنى الكابيتول عام 2021، وتشكيل مجلس النواب الذي كان يسيطر عليه الديمقراطيون، لجنة للتحقيق في الهجوم، أكدت وقوفها مع ترمب عبر تصويتها وجميع القادة الجمهوريين الآخرين في مجلس النواب ضد إنشاء اللجنة. لكن 35 عضواً جمهورياً صوّتوا مع جميع الديمقراطيين البالغ عددهم 217 عضواً على إنشائها. وبعدما بدأت اللجنة تحقيقاتها في الهجوم، قالت ستيفانيك إن رئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي، هي المسؤولة عنه.

ستيفانيك بدلاً من تشيني

في مايو (أيار) عام 2021، انتُخبت ستيفانيك رئيسة للمؤتمر الجمهوري بمجلس النواب، بعد إقالة النائبة ليز تشيني بسبب معارضة الأخيرة لترمب، وبذا صارت ثالث أرفع مسؤول جمهوري، على الرغم من سنّها البالغ في ذلك الوقت 37 سنة. وإبّان ظهورها في برنامج إذاعي مع ستيف بانون، كبير الاستراتيجيين السابق لترمب، أكدت ستيفانيك على «حاجة الحزب الجمهوري إلى الالتفاف» حول الرئيس السابق. وحين تحدّى النائب تشيب روي ترشيح ستيفانيك لأخذ منصب تشيني، ندّد ترمب به، وأكد تأييده لها. ومن ثم، في أعقاب فوزها، شكرته قائلة: «الرئيس ترمب هو القائد الذي يتطلع إليه الناخبون الجمهوريون». وهنا علّق جاك كولينز، أستاذ العلوم السياسية في كلية سيينا، بالقول إن تسليمها منصبها الجديد يشير إلى أن قادة الحزب يريدون أن تكون جزءاً من «الجيل المقبل من القادة الجمهوريين».

وبالفعل، بعد أسبوعين فقط من انتخاب ستيفانيك رئيسةً للمؤتمر الجمهوري، ذكرت صحيفة «بوليتيكو»، أنها كانت مسؤولة عن نشر قصص سلبية عن جيم بانكس، الذي كان من المنافسين المحتملين لهذا المنصب، ومساعده باكلي كارلسون، نجل مقدم البرامج الشهير السابق لمحطة «فوكس نيوز»، تاكر كارلسون. وقوبل هذا باستياء من قِبل حلفاء دونالد ترمب «الابن»، الذين أبلغوا ستيفانيك أن هجماتها على ابن كارلسون تجاوزت الحدود. ولكن بعد الانتخابات النيابية عام 2022، أعيد انتخابها رئيسةً للمؤتمر الجمهوري، متغلبة على بايرون دونالدز.


مقالات ذات صلة

هل اقتربت أميركا من تغيير هوية «الجيل» الذي يحكم واشنطن؟

حصاد الأسبوع لقطة من مناظرة الثلاثاء الرئاسية (رويترز)

هل اقتربت أميركا من تغيير هوية «الجيل» الذي يحكم واشنطن؟

يُجمِع خبراء المناظرات الرئاسية الأميركية على أن الانتصارات فيها لا تُترجم بالضرورة فوزاً في الانتخابات، والمرشحون الذين يتألقون في المناظرات لا يفوزون دائماً

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع يقدّم بارنييه نفسه على أنه رجل ينتمي إلى اليمين لكن ليس اليمين البورجوازي القومي المتعصّب بل اليمين الاجتماعي

ميشال بارنييه رئيس الحكومة الفرنسية الجديد... هل يكون الرجل المعجزة الذي ينقذ عهد ماكرون؟

بعد 25 سنة أمضاها ميشال بارنييه في بروكسل (1999 – 2021) مفوضاً أوروبياً متنقلاً في مناصب عديدة، منها مسؤول عن السوق الأوروبية الداخلية ونائب لرئيس المفوضية،

ميشال أبونجم (باريس)
حصاد الأسبوع الرئيس الموريتاني ولد الغزواني يستقبل رئيس الوزراء الإسباني سانتشيز ورئيسة المفوضية الأوروبية فون در لاين في نواكشوط 
(آ فب)

إسبانيا تحاول التحكّم بهاجس التعامل مع المهاجرين

عندما فازت إسبانيا بكأس الأمم الأوروبية لكرة القدم، أواسط يوليو (تموز) الفائت، كان النجم الأبرز في الفريق الوطني الأمين جمال، وهو لاعب من أب مغربي وصل قبل 19

شوقي الريّس (مدريد)
حصاد الأسبوع الرئيس عبد المجيد تبّون (رويترز)

فوز منتظر للرئيس عبد المجيد تبّون في انتخابات الرئاسة الجزائرية

يتوجه الجزائريون اليوم إلى مراكز الاقتراع لاختيار رئيس جديد. وهذه هي ثاني استحقاقات رئاسية بعد الحراك الذي طال سنتين تقريباً، وشهد خروج ملايين الجزائريين إلى

أنيسة مخالدي (باريس)
حصاد الأسبوع  تأتي رئاسة تراوري في فترةٍ تواجه خلالها بوركينا فاسو تحديات أمنية وإقليمية بعدما فقدت السيطرة على نحو 40 في المائة من مساحتها، للجماعات المسلّحة

إبراهيم تراوري... رئيس بوركينا فاسو وقائد حربها الشرسة ضد «الإرهاب»

رغم تعهّد النقيب إبراهيم تراوري، رئيس بوركينا فاسو، بألا يبقى في السلطة، فإنه مدّد فترة الحكم الانتقالي خمس سنوات إضافية، راهناً إجراء الانتخابات التي كان من

فتحية الدخاخني (القاهرة)

ميشال بارنييه رئيس الحكومة الفرنسية الجديد... هل يكون الرجل المعجزة الذي ينقذ عهد ماكرون؟

يقدّم بارنييه نفسه على أنه رجل ينتمي إلى اليمين لكن ليس اليمين البورجوازي القومي المتعصّب بل اليمين الاجتماعي
يقدّم بارنييه نفسه على أنه رجل ينتمي إلى اليمين لكن ليس اليمين البورجوازي القومي المتعصّب بل اليمين الاجتماعي
TT

ميشال بارنييه رئيس الحكومة الفرنسية الجديد... هل يكون الرجل المعجزة الذي ينقذ عهد ماكرون؟

يقدّم بارنييه نفسه على أنه رجل ينتمي إلى اليمين لكن ليس اليمين البورجوازي القومي المتعصّب بل اليمين الاجتماعي
يقدّم بارنييه نفسه على أنه رجل ينتمي إلى اليمين لكن ليس اليمين البورجوازي القومي المتعصّب بل اليمين الاجتماعي

بعد 25 سنة أمضاها ميشال بارنييه في بروكسل (1999 – 2021) مفوضاً أوروبياً متنقلاً في مناصب عديدة، منها مسؤول عن السوق الأوروبية الداخلية ونائب لرئيس المفوضية، ثم مفاوض عن الاتحاد الأوروبي مع بريطانيا إبان عملية «البريكست» (الخروج من الاتحاد) البالغة التعقيد التي طالت 6 سنوات، كان حلم بارنييه مزدوجاً: أن يتوّج مسيرته الأوروبية بأن ينتخب رئيساً للمفوضية، حيث يحل محل الألمانية أورسولا فون دير لاين، التي فازت بولاية ثانية العام الحالي، أو أن ينتخب رئيساً للجمهورية الفرنسية. غير أن حلمه المزدوج خاب مرتين. في المرة الأولى، قال لـ«الشرق الأوسط»، خلال محادثة جانبية بمناسبة اجتماعية حصلت في قصر الإليزيه، إنه «لا يتمتع بدعم من السلطات الفرنسية»، مشيراً بذلك إلى الرئيس إيمانويل ماكرون. وحلّت الخيبة الثانية عام 2021 عندما كان بارنييه يسعى للترشح عن اليمين الجمهوري الفرنسي التقليدي لرئاسة الجمهورية. لكن أعضاء الحزب فضّلوا عليه فاليري بيكريس، رئيسة منطقة باريس (إيل دو فرانس)، التي خرجت من الدورة الأولى بحصولها على 4.78 % فقط من أصوات الناخبين، وهي أسوأ نتيجة حصل عليها مرشح يميني منذ إطلاق الجنرال شارل ديغول «الجمهورية الخامسة» عام 1958.

بعد خيبتي رئاسة المفوضية الأوروبية ورئاسة الجمهورية الفرنسية، ومسيرة سياسي تربو على 50 سنة، وجد ميشال بارنييه (73 سنة) رئيس الحكومة الفرنسية الجديد نفسه سياسياً متقاعداً.

وحقاً، لم يكن الرجل يتوقع أن يُستدعى لترؤس الحكومة بعد الانتخابات البرلمانية التي شهدت تصدّر «الجبهة الشعبية الجديدة» التي تضم أحزاب اليسار و«الخضر»، وحصول اليمين المتطرف ممثلاً بحزب «التجمع الوطني» الذي تتزعمه مارين لوبن، على مجموعة نيابية كبرى، وخصوصاً تراجع معسكر الرئيس إيمانويل ماكرون.

الديغولي القديم

خلال الأيام الأخيرة التي أعقبت تعيينه في مهمته الجديدة، حلا لبارنييه أن يُذكّر بانطلاق التزامه السياسي عندما كان يافعاً - في سن الرابعة عشرة - متأثراً بدعوات الجنرال شارل ديغول، بطل فرنسا الحرة، وفكره وسياسته.

كذلك، يقدّم بارنييه نفسه على أنه رجل ينتمي إلى اليمين، لكن ليس اليمين البورجوازي القومي المتعصّب، بل اليمين الاجتماعي. ويؤكد تأثره بوالدته دونيز دوران، حيث حرص في أول تصريحاته، بعد تسميته، على التذكير بالتزامها السياسي اليساري، وحدبها الاجتماعي (مساعدة الضعفاء) وأنها لقّنته احترام الآخر والحوار والتسامح.

لقد كان لافتاً خلال عملية التسلم والتسليم، أن بارنييه ردّ على رئيس الوزراء المودّع غبريال أتال، الذي ألمح الى أنه «أصغر» رئيس للحكومة عرفته فرنسا (35 سنة)، بأن هذه الصفة «لا تدوم طويلاً». وذكّره بأنه شخصياً كان أصغر نائب دخل الندوة البرلمانية، وهو في سن الـ27 سنة.

والمفارقة هنا أن ماكرون عيّن في ولايته الثانية، التي بدأت ربيع عام 2022، أصغر رئيس حكومة (أتال)... والآن أيضاً أكبرهم سناً بشخص بارنييه. ثم إن الأخير كان تقلّد مناصب محلية، عندما كان على المقاعد الجامعية. وبعد تعيينه، ركزت الوسائل الإعلامية الفرنسية والأجنبية على مُراكمته خبراته السياسية وتمرّسه في المفاوضات المعقّدة، التي قيّض له أن يخوضها عندما شغل عدة مناصب وزارية في عهدي الرئيسين اليمينيين جاك شيراك (1995 ــ 2007) ونيكولا ساركوزي (2007 ــ 2012). وكان أبرزها اثنان: وزارة الخارجية، ولاحقاً وزارة الزراعة.

بارنييه... الدرّة النادرة

ما كان لميشال بارنييه أن يغدو رئيساً للحكومة لو جاءت نتائج الانتخابات الأخيرة مختلفة. فخلال السنوات السبع التي أمضاها ماكرون في قصر الإليزيه، عيّن 4 رؤساء حكومات، خامسهم بارنييه، إذ سبقه إدوار فيليب وجان كاستيكس وإليزابيت بورن وغبريال أتال، وكلهم كانوا منتمين إلى تياره السياسي، مع أن الأخيرين ما كانا متمتعين بالأكثرية المطلقة في البرلمان.

أما في حالة بارنييه، فإن الأمور جاءت مختلفة تماماً بسبب تشكّل 3 مجموعات نيابية. هي: «الجبهة الشعبية الجديدة» اليسارية ومجموعة الوسط الداعمة لماكرون و«التجمع الوطني» اليميني المتطرف. والحال أن أياً منها يرفض التعاون مع الآخرين.

رهان ماكرون الفاشل

رهان الرئيس الفرنسي كان على تفكيك تحالف اليسار عبر سحب الحزب الاشتراكي منه وتشكيل «جبهة جمهورية» تمتد من اليسار الاشتراكي (المعتدل) وصولاً إلى اليمين التقليدي (المعتدل)، وتكون كتلته المكوّنة من 166 نائباً بمثابة بيضة القبان، إلا أن هذا الرهان فشل.

وبعدما استبعد ماكرون نهائياً لوسي كاستيه، مرشحة اليسار و«الخضر»، بحجة أن أي حكومة ترأسها ستسقط في البرلمان لدى أول اختبار، بينما المطلوب «المحافظة على الاستقرار المؤسساتي»، جرّب مرشحاً اشتراكياً هو برنار كازنوف، وآخر هو كزافييه برتراند من حزب «اليمين الجمهوري» الحاصل على 47 نائباً، ثم تييري بوديه، رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي بصفته منبثقاً عن المجتمع المدني.

لكن الثلاثة سقطوا في امتحان الديمومة لأسباب سياسية وشخصية مختلفة يطول الخوض في تفسيرها.

الهدية المسمومة

كان ماكرون، الذي تنتهي ولايته الثانية في عام 2027، يبحث عن الرجل المنقذ لعهده من جهة، ولفرنسا من جهة ثانية، من الأزمة السياسية التي أفضت إليها الانتخابات التي أفرزت نتائجها وضعاً سياسياً بالغ التعقيد.

فهو من جهة، اعترف أخيراً بأن معسكره خسر الانتخابات. لكنه، في المقابل، لا يريد رئيساً للحكومة يفكّك ما سعى لبنائه خلال السنوات المنصرمة، متمسكاً باستمرار انتهاج سياسة ليبرالية اقتصادية مشجعة لاستقطاب الاستثمارات، ولا تتراجع عن الإصلاحات والقوانين التي أدخلها، ومنها تعديل سن التقاعد وقانون العمل والرعاية الاجتماعية، فضلاً عن قانون الهجرات.

أما الأهم من هذا وذاك، فهو أن ماكرون كان يبحث عن شخصية لا تواجه رفضاً تلقائياً، لكنها تستطيع التحاور مع الجميع بحيث لا تطرح الثقة به منذ لحظة تشكيل حكومته، فضلاً عن احترام صلاحيات الرئاسة التي يكفلها الدستور. ولأنه رئيس الحكومة العتيد لن يكون بالضرورة من معسكره، أراده ماكرون أن يكون ليناً و«دبلوماسياً» بحيث يسهل معه «التعايش» على رأس السلطة التنفيذية.

في عددها ليوم الأربعاء الماضي، كشفت صحيفة «لوموند» تفاصيل ما جرى، وما دفع ماكرون إلى تسمية بارنييه. إذ أفادت أن ألكسيس كوهلر، أمين عام الرئاسة، هو من زكّى ترشيح بارنييه، وكان صلة الوصل بينه وبين ماكرون قبل أن يستدعيه الأخير لأول لقاء معه في قصر الإليزيه.

لوبن وملف الهجرة

بيد أن العامل الحاسم الذي ثبّت اختيار بارنييه كان قبول مارين لوبن، زعيمة اليمين المتطرف، به رئيساً للحكومة. ذلك أنها ترى أنه لا خلافات شخصية بينه وبين حزبها من جهة، ولأن لديه، من جهة أخرى، مواقف تراها متجانسة ومتقاربة من مواقفها في مسائل يعدّها اليمين المتطرّف حيوية. ومن هذه المسائل: ملف الهجرة، وضرورة السيطرة على حدود البلاد الخارجية، وتأكيده احترام الجميع وانفتاحه على تعديل قانون التقاعد، وليس إلغاؤه، واستعداده للبحث في قانون انتخابي جديد يعتمد النسبية... الأمر الذي يلائم «التجمع الوطني» بعكس قانون الدائرة الصغرى ذي الدورتين المعمول به راهناً. ولو اعتمدت النسبية لكانت لوبن قد حصلت على الأكثرية المطلقة.

بناءً على هذه المعطيات، وعدت لوبن بألا يحجب «التجمع» الثقة عن بارنييه، بعكس جبهة اليسار. وللعلم، لو صوّت اليسار واليمين المتطرف معاً على سحب الثقة من رئيس الحكومة الجديد، فإنه سيسقط حكماً باعتبار أن لديهما 337 نائباً، أي بزيادة 48 نائباً عن العدد المطلوب لإسقاط الحكومة.

في المقابل، هذا الاختيار من ماكرون حوّل لوبن إلى «صانعة رؤساء الحكومات» الذين سيكونون كالخاتم في إصبعها، بحيث تكون قادرة على إسقاطه عندما ترى أن سياسة بارنييه لا تلائمها ولا تجاري مصالح حزبها. ومن هنا، جاء هجوم اليسار و«الخضر» على ماكرون واتهامه بـ«التواطؤ» مع لوبن.

تساؤلات مشروعة

هل سيكون بارنييه قادراً على الصمود رئيساً للحكومة؟

في حديثه المطوّل للقناة الأولى في التلفزيون الفرنسي، عرض بارنييه «فلسفة» حكمه الموعود وانفتاحه على الجميع، فهو يريد أن يدشن «عصراً جديداً» في طريقة الحكم، حيث «رئيس الجمهورية يرأس، والحكومة تحكم». والأهم من ذلك أنه نوّه بـ«القدرة على التفاوض، وجعل الناس يعملون معاً، ودأبه على احترام الجميع والإصغاء لما يقولونه».

وفي رسالة مباشرة إلى اليمين المتطرف، أكد أنه «سيحترم» الـ11 مليوناً الذين صوّتوا له في الدورة الأولى، رغم تأكيده أنه «لا شيء مشترك يجمعه باليمين المتطرف على صعيد الطروحات أو الآيديولوجيا». وإذ استبعد دخول وزراء من هذا الحزب في حكومته، أبدى استعداده للبحث في القانون الانتخابي، قائلاً: «لا خطوط حمراء» تمنعه من ذلك، غير أنه لم يلتزم بأي شيء محدد.

بالتالي، يريد بارنييه حكومة من مختلف الألوان، بما في ذلك اليسار. ولذا كثّف مشاوراته مع قادة الأحزاب والمجموعات البرلمانية. لكنه يواجه مجموعة تحديات لا تنحصر بالجوانب السياسية، بل أبرزها اقتصادي مالي. إذ يتعيّن على الحكومة أن ترفع إلى مكتب المجلس النيابي مشروع الميزانية لعام 2024، وأن تعمل على خفض العجز الذي وصل راهناً إلى 5.6 في المائة، بينما المعيار الأوروبي يتوقف عند عتبة 3 في المائة.

هذا، وسبق للاتحاد فتح تحقيق رسمي بخصوص مالية فرنسا، التي إن أرادت احترام المعايير، فعليها العثور على 110 مليارات يورو إضافية حتى عام 2027. وبالتوازي، تواجه فرنسا مشكلة ديونها التي تتجاوز 3000 مليار يورو، وخدمة الديون تطأ بقوة على ميزانيتها.

الملفان الصعبان

وعليه، ثمة ملفان يهددان بإسقاط بارنييه: الأول ميزانية الدولة، والثاني اقتراح إلغاء قانون التقاعد الذي أقره البرلمان العام الماضي بصعوبة بالغة رغم تعبئة نقابية وسياسية واسعة طالت شهوراً. والواقع أن اليمين المتطرف قدّم رسمياً اقتراح قانون لمكتب المجلس بهذا الشأن، علماً أن إسقاط قانون التقاعد هو أيضاً مطلب يساري بامتياز. وبالمناسبة، بارنييه ليس من أنصار المحافظة على القانون الذي يرفع سن التقاعد إلى 64 سنة فقط، بل سبق له اقتراح 65 سنة.

وبجانب التحديات الإضافية، التي سيواجهها رئيس الحكومة الجديد، ثمة ملفات الهجرة، والقدرة الشرائية، والخدمات العامة (كالمدارس والصحة)، وقبل ذلك كله إشعار المواطن أن صوته لم يذهب سدى، وأن تغييراً حصل في وجوه المسؤولين وفي السياسة المتبعة.

من هنا، تبدو الهدية التي قدّمها ماكرون لبارنييه «مسمّمة»، فهل ستساعد الأخير خبرته السياسية وكياسته على شغل منصبه الجيد، وتحقيق شيء ما من الوعود؟

الجواب في الآتي من الأيام.

فرنسا: سيناريوهات سياسية للمستقبل

ما زالت انتخابات الرئاسة الفرنسية بعيدة، إذ لن يحين أوانها إلا مع ربيع عام 2027. ولكن منذ اليوم، السكاكين السياسية مشحوذة، وأول المبادرين كان إدوار فيليب، رئيس الوزراء السابق ورئيس حزب «هورايزون» (آفاق) المنتمي إلى «المعسكر الرئاسي»، إلى جانب حزب الرئيس إيمانويل ماكرون «النهضة» أو «معاً من أجل الجمهورية» وحزب «الحركة الديمقراطية» الوسطي، الذي يرأسه السياسي المخضرم فرنسوا بايرو، أول الداعمين لماكرون، الذي يدين له بفوزه الأول في الانتخابات الرئاسية في عام 2017، بيد أن التركيبة السياسية اليوم، في ظل غياب أكثرية نيابية تدعم الحكومة، التي يجهد ميشال بارنييه لتشكيلها، تجعل كل السيناريوهات ممكنة، بما في ذلك لجوء ماكرون إلى حل المجلس النيابي مرة جديدة بحلول يونيو (حزيران) المقبل، أي بعد مرور سنة كاملة على حلّه للمرة الأولى، وهو ما ينص عليه الدستور. إقدام ماكرون على خطوة كهذه مرجح، لأن الأمر كان بيد الرئيس الفرنسي، الذي مارس حكماً عامودياً خلال 7 سنوات، حيث الحلّ والربط في القضايا، كبيرها وصغيرها. لكن الأمور تغيّرت اليوم بفعل هزيمة معسكره في الانتخابات النيابية الأخيرة واضطراره إلى تسمية رئيس للحكومة من خارج معسكره، وتحديداً من اليمين التقليدي، الممثل بحزب «اليمين الجمهوري» الذي لم ينفك، خلال السنوات السبع المنقضية، عن التنديد بسياسات حكوماته المتعاقبة. بيد أن مواقفه تغيّرت بعدما سُمي أحد أعضائه، ميشال بارنييه، لرئاسة الحكومة. وسارع الأخير إلى رسم «خارطة طريق» لكيفية تعامله مع رئيس للجمهورية ينزع للسيطرة، بتأكيده أن «الرئيس يرأس والحكومة تحكم».إحدى قواعد السياسة أن «الكلام شيء والممارسة شيء آخر». لذا، يرى محللون أن ماكرون لن يتردد بحلّ المجلس النيابي إذا وجد أن الأمور لا تسير لصالحه، وأن «إرثه» السياسي والاقتصادي مهدد. لكنّ ثمة خطراً آخر قد يكون محدقاً به، وعنوانه «هشاشة» الحكومة التي يجهد بارنييه لتشكيلها، والتي يمكن أن تسقط في البرلمان بسحب الثقة منها إذا رأى اليمين المتطرف أن مصلحته تكمن في سقوطها، أو أنها تنتهك «الخطوط الحمراء» التي رسمها. وليس سراً أن اليسار و«الخضر»، في إطار «الجبهة الشعبية الجديدة» عازمون عند أول فرصة على طرح الثقة بها، لأنهم يرون أساساً أن السلطة سرقت منهم، وأن بارنييه لا يتمتع بالشرعية لممارستها كونه يجيء من صفوف حزب حلّ في المرتبة الرابعة في الانتخابات الأخيرة، وليس له إلا 47 نائباً في البرلمان الجديد.إذا تحقق هذا السيناريو، فإن الأزمة السياسية ستتفاقم، لأن المعطيات الأساسية للتركيبة السياسية لن تتغير. وبالتالي سيجد الرئيس ماكرون نفسه أمام حائط مسدود، بحيث لن يكون من مخرج أمامه سوى الاستقالة، مع أنه أكد غير مرة أنه باقٍ في منصبه حتى آخر يوم من ولايته الثانية، ولن يتخلى عن مسؤولياته في أي ظرف كان. احتمال الاستقالة يبرر مسارعة إدوار فيليب، الذي استقبل ماكرون الخميس في إطار الاحتفال بتحرير مدينة لو هافر، بشمال البلاد، من الاحتلال النازي، إلى الإعلان رسمياً عن ترشحه للرئاسة، سواءً في أوانها العادي (عام 2027) أو إذا قُدّم موعدها بسبب استقالة ماكرون. وليس فيليب الوحيد الذي يتحضر لهذا الاحتمال. فرئيس الحكومة السابق غبريال أتال يرنو بدوره إلى احتلال هذا المنصب، وكان يراهن على مواصلة ممارسة السلطة لفترة أطول بحيث تكون الرافعة لتحقيق طموحاته الرئاسية، ولذا ظهرت شبه القطيعة مع ماكرون والأجواء الجليدية التي تطبع علاقاتهما. ويرأس أتال راهناً المجموعة النيابية المشكلة من الحزب الرئاسي. وبالطبع، ثمة مرشحون ثابتون، مثل جان لوك ميلونشون زعيم حزب «فرنسا الأبية» اليساري، ومارين لوبن زعيمة «التجمع الوطني» اليميني المتطرف، وكلاهما يترشحان للمرة الرابعة. ثم هناك لوران فوكييز وكزافييه برتراند، الأول رئيس حزب «اليمين الجمهوري»، والثاني أحد أعضائه، وكاد يصل إلى رئاسة الحكومة، لولا الفيتو الذي رفعته لوبن بوجهه.