وليام بيرنز أول دبلوماسي أميركي محترف يتولى إدارة وكالة الاستخبارات المركزية

أول دبلوماسي أميركي محترف يتولى إدارة وكالة الاستخبارات المركزية

حرب غزة تفرض خيارات معقدة على أميركا وتشكيك في نجاح جهود بيرنز في حل الصراع
حرب غزة تفرض خيارات معقدة على أميركا وتشكيك في نجاح جهود بيرنز في حل الصراع
TT

وليام بيرنز أول دبلوماسي أميركي محترف يتولى إدارة وكالة الاستخبارات المركزية

حرب غزة تفرض خيارات معقدة على أميركا وتشكيك في نجاح جهود بيرنز في حل الصراع
حرب غزة تفرض خيارات معقدة على أميركا وتشكيك في نجاح جهود بيرنز في حل الصراع

بينما تُراوح مؤشرات «بورصة» المفاوضات الجارية لوضع حدّ للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة - وعلى الفلسطينيين عموماً - صعوداً وهبوطاً بعد هجوم حركة «حماس» في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، برز الدور اللافت الذي يلعبه ويليام بيرنز، مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية «السي آي إيه» في تلك المفاوضات، وزياراته وجولاته المكوكية مع الأطراف المعنية في هذا الصراع، لكن على الرغم من أن المفاوضات إبّان «الحروب» الإسرائيلية الفلسطينية السابقة غالباً ما كانت تدار من قِبل قادة أجهزة الاستخبارات، فإن مشاركة بيرنز الحالية تُعد مختلفة عن مشاركات أسلافه الذين كانت وظيفتهم جمع المعلومات الاستخبارية بشكل منفصل عن السياسة والنفوذ السياسي، أما بيرنز فهو أول مسؤول في «السي آي إيه» جاء من أرفع المواقع الدبلوماسية الأميركية المحترفة، ذلك أن مسيرته شهدت خوضه أدواراً رئيسة في المفاوضات التي أُجريت بدايات القرن الحالي في إطار ما سمي «خريطة الطريق» لإنشاء «الدولة الفلسطينية المستقلة» عام 2002، خلال عهد الرئيس الأسبق جورج بوش «الابن».

يقول البعض في واشنطن إن الدبلوماسيين الأميركيين غالباً ما يتمتعون بخلفية استخباراتية «ضرورية»، بمعزل عن انتماءاتهم السياسية والحزبية، ويُجبرهم موقعهم الدبلوماسي على التزام «الحيادية» في تمثيل دولتهم.

لعل هذا الأمر أكثر ما ينطبق على ويليام بيرنز، الذي يحفل تاريخ خدمته الخارجية بتجربة واسعة النطاق، سواءً مع منطقة الشرق الأوسط أم مع روسيا. وعندما أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي تربطه به علاقة طويلة، يوم 11 يناير (كانون الثاني) 2021، أنه يعتزم ترشيحه لمنصب مدير «السي آي إيه» (وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية)، قال إن بيرنز يشاركه اعتقاده «بأن الاستخبارات يجب أن تكون غير سياسية، وأن محترفي الاستخبارات المتفانين الذين يخدمون أمتنا، يستحقون امتناننا واحترامنا».

وبالفعل، لقي ترشيح بيرنز الاستحسان في جلسة تأكيد تعيينه بمجلس الشيوخ، في 24 فبراير (شباط) 2021، بعد خضوعه للتدقيق في لجنة الاستخبارات، ليحصل على الموافقة بإجماع الحزبين الديمقراطي والجمهوري، يوم 18 مارس (آذار)، وتأديته اليمين الدستورية مديراً لوكالة الاستخبارات المركزية في اليوم التالي. وفي يوليو (تموز) 2023، رقّى بايدن بيرنز في إدارته، في إجراء رمزي إلى حد كبير.

والواقع أن مهارات الرجل، وقدراته الدبلوماسية، وآراءه السياسية، فضلاً عن التحولات التي طرأت عليها، لتتكيف مع مصالح بلاده الاستراتيجية، كانت حاضرة لتقييم أهليته لشَغل منصب رئاسة واحدة من أكبر أجهزة الاستخبارات في العالم. ثم إنه يُعدّ أحد أكثر الدبلوماسيين الأميركيين تفاعلاً وانخراطاً مع مختلف الإدارات الأميركية، الجمهورية والديمقراطية.

بطاقة شخصية

وُلد ويليام جوزيف بيرنز لعائلة عسكرية في قاعدة فورت ليبرتي «فورت براغ سابقاً» بولاية نورث كارولينا، عام 1956. أمه بيغي كاسادي، وأبوه الجنرال وليام فرنسيس بيرنز، الذي كان لواءً في الجيش الأميركي وشغل منصب نائب مساعد وزير الخارجية لشؤون الحد من الأسلحة، ومكتب الشؤون السياسية والعسكرية، ومدير وكالة الحد من الأسلحة ونزع السلاح الأميركية عامي 1988 و1989، في إدارة الرئيس رونالد ريغان، بالإضافة إلى خدمته بصفته أول مبعوث أميركي خاص لمفاوضات نزع السلاح النووي مع دول الاتحاد السوفياتي السابق.

التحق ويليام بيرنز بمدرسة ترينيتي الثانوية في كامب هيل، بولاية بنسلفانيا، حيث كان طالباً متفوقاً، وتخرّج عام 1973، ثم درس التاريخ في جامعة لا سال (الكاثوليكية الخاصة)، وتخرّج فيها بشهادة البكالوريوس بمرتبة الشرف عام 1978، ومن ثم حصل على منحة مارشال للدراسات العليا في كلية سانت جون بجامعة أوكسفورد العريقة ببريطانيا، وهناك نال درجة الماجستير في الفلسفة، ودرجة علمية في العلاقات الدولية، ثم في عام 1985 حصل من أوكسفورد على دكتوراه في الفلسفة عن أطروحته بعنوان «المساعدات الاقتصادية والسياسة الأميركية تجاه مصر 1955 - 1981».

أما بالنسبة لحياته الأسرية فإنه التقى زوجته المستقبلية، الدبلوماسية السابقة ليزا كارتي، عام 1982، عندما كانا يجلسان بجوار بعضهما البعض، خلال تدريبهما على الخدمة في وزارة الخارجية. وتعمل زوجته الآن سفيرة لدى المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة، ولديه ابنتان.

مسيرة الصعود من وزارة الخارجية

بيرنز الذي يتقن اللغات الروسية والعربية والفرنسية، دخل وزارة الخارجية في عام 1982، وتقاعد منها عام 2014، بعد مسيرة دبلوماسية استمرت 33 سنة، وبعدها أصبح رئيساً لـ«مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي»، وهي أقدم مؤسسة فكرية للشؤون الدولية في الولايات المتحدة، حتى استقالته منها عام 2021.

في عام 1994، أُدرج اسم ويليام بيرنز في قائمة مجلة «تايم» التي تضم «50 من القادة الأميركيين الواعدين تحت سن الأربعين»، وفي قائمتها التي تضم «100 من القادة العالميين الشباب». وفي عام 2013، أطلقت عليه مجلة «فورين بوليسي» لقب «دبلوماسي العام».

ثم حصل، عام 2014، على «جائزة رجل الدولة المتميز» من «رابطة مكافحة التشهير» المناصرة لإسرائيل، و«جائزة الإنجاز مدى الحياة» من «معهد الشرق الأوسط» في واشنطن (2014)، و«جائزة أننبرغ للتميز الدبلوماسي» من الأكاديمية الأميركية للدبلوماسية (2015).

وبعدها، في عام 2008 رشحه الرئيس الأسبق جورج بوش «الابن»، وأكد الترشيح مجلس الشيوخ، بصفة «سفير محترف»؛ وهي رتبة تقديرية رفيعة وترقية نادرة في الخدمة الخارجية الأميركية.

ثم إنه كان ثاني دبلوماسي محترف في تاريخ الولايات المتحدة يصبح نائب وزير الخارجية، ذلك أنه قبل توليه منصب نائب وزير الخارجية، عمل بيرنز بين 2008 و2011 وكيلاً لوزير الخارجية للشؤون السياسية، وقبلها كان سفيراً لدى روسيا بين 2005 و2008، ومساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى بين 2001 و2005، ويومذاك خاض المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين على أثر اندلاع «الانتفاضات» في مناطق السلطة الفلسطينية، خلال رئاسة ياسر عرفات - التي كانت الإدارة الأميركية تتعامل معه في حينه - وحكم رئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون.

أيضاً كان بيرنز من عام 1998 إلى عام 2001، سفيراً لدى الأردن، وشملت مناصبه الأخرى في الخدمة الخارجية: السكرتير التنفيذي لوزارة الخارجية والمساعد الخاص لوزيري الخارجية السابقين وارين كريستوفر ومادلين أولبرايت، وأيضاً كان مستشار الشؤون السياسية في سفارة الولايات المتحدة بموسكو، والقائم بأعمال المدير والنائب الرئيس لمدير تخطيط السياسات بوزارة الخارجية، والمساعد الخاص للرئيس الأميركي والمدير الأول لشؤون الشرق الأدنى وجنوب آسيا في مجلس الأمن القومي.

شخصية أساسية في إدارة بايدن

تقول صحيفة «النيويورك تايمز» إن بيرنز سعى، منذ تعيينه في منصبه، «إلى طرد أشباح الإخفاقات الاستخباراتية، بعد تقديراتها من أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل»، وهو يُعد الشخصية الرئيسة في تعزيز دعم إدارة بايدن لأوكرانيا، بعدما جمعت وكالته المعلومات الاستخباراتية بشأن خطط روسيا لغزوها، وأنه اكتسب نفوذاً يتجاوز معظم قادة الاستخبارات السابقين، و«كان تأثير فترة ولايته بعد سنتين من تعيينه كاسحاً بقدر ما كان دقيقاً»، بعد الإحباطات التي تعرضت لها «السي آي إيه»، وتهميشها خلال سنوات حكم دونالد ترمب، الذي قال علناً إنه يميل إلى تصديق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أكثر من تصديق الوكالة.

وحقاً، استعادت «السي آي إيه» هيبتها مع بيرنز الذي كان هو، وليس وزير الخارجية أنتوني بلينكن، الذي أرسله بايدن لمقابلة بوتين في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، وقام بيرنز أيضاً بنحو 30 رحلة إلى الخارج، خلال السنتين اللتين أمضاهما مديراً للوكالة، بينها لقاءات شملت مناقشة سياسات واشنطن مع القادة الأجانب. وكذلك لكونه عضواً في «الدائرة الداخلية» لبايدن، كثيراً ما طلب منه الحضور المنتظم للإحاطة اليومية من مكتب مدير الاستخبارات الوطنية حول الأمن القومي.

تعقيدات المنطقة تفرض نفسها

عن مستجدّات الشرق الأوسط رأى بيرنز أن «الأزمة التي عجّلت بها المذبحة التي ارتكبتها (حماس) في إسرائيل، في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، هي بمثابة تذكير مؤلم بتعقيد الخيارات، التي لا تزال المنطقة تفرضها على الولايات المتحدة». وقال إن «مفتاح أمن إسرائيل والمنطقة هو التعامل مع إيران» التي «يبدو أن (نظامها) مستعدّ للقتال حتى آخِر وكيل إقليمي له، كل ذلك مع توسيع برنامجه النووي، وتمكين العدوان الروسي» على أوكرانيا.

وحول إيران خاصة، يُذكر أن بيرنز قاد، عام 2013، مع جايك سوليفان، مستشار الأمن القومي الحالي، «القناة التفاوضية الثنائية السرّية» مع إيران، والتي أدت إلى الاتفاق المؤقت بين إيران و«مجموعة 5 +1»، ومن ثم «الاتفاق النووي الإيراني». وورد أن بيرنز كان «في مقعد السائق» لفريق التفاوض الأميركي بشأن الاتفاق المؤقت، وكان قد التقى سراً مسؤولين إيرانيين منذ عام 2008، عندما انتدبه الرئيس جورج بوش «الابن» للمهمة. وفي أبريل (نيسان) 2013، أشادت به مقالة نُشرت في مجلة «ذي أتلانتيك»، وعدّته «السلاح الدبلوماسي السرّي» الذي وُجّه ضد «بعض تحديات السياسة الخارجية الشائكة التي تواجهها الولايات المتحدة».

لكن حيال ملف فلسطين وإسرائيل، ومع فشل محاولات بيرنز «التوفيق» بين الطرفين في عام 2002، تُطرح، اليوم، تساؤلات عمّا إذا كانت آفاق المفاوضات الجارية لوقف الحرب تتجه إلى الفشل نفسه تحت سقف أدنى بكثير لما هو متاح للفلسطينيين، وخصوصاً في ظل موقف أميركي يعدّه البعض «تواطؤاً» ضد مستقبل القضية الفلسطينية.

حملة بايدن الانتخابية

وبالفعل، قال مسؤولون أميركيون كبار أخيراً إن عملية رفح «لا تزال محدودة حتى الآن»، مستبعدين أن تكون إسرائيل تجاوزت «الخط الأحمر» الذي وضعه بايدن حول غزو برّي للمدينة نفسها قد يكون «نقطة انهيار» للعلاقات الأميركية الإسرائيلية.لكن هذا كلام يشكك بمضمونه عدد من المراقبين؛ لأنه، على الرغم من إعلان بايدن «وقفاً مؤقتاً» لشحنة أسلحة مهمة إلى إسرائيل، أكد بايدن، ووزير دفاعه لويد أوستن، الأربعاء، «الحرص على مواصلة القيام بما هو ضروري لضمان أن لدى إسرائيل الوسائل للدفاع عن نفسها». والواضح أن معظم التوتر الحالي بين الطرفين يعود إلى المخاوف على حظوظ إعادة انتخاب بايدن، في حال لم يتحقق بسرعة التوصل لـ«هدنة ما»، بعدما دخل السباق الرئاسي أشهره الأخيرة.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو play-circle 01:45

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل.

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها
TT

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

بوتسوانا... «ماسة أفريقيا» الباحثة عن استعادة بريقها

خطفت بوتسوانا (بتشوانالاند سابقاً) أنظار العالم منذ أشهر باكتشاف ثاني أكبر ماسة في العالم، بيد أن أنظار المراقبين تخاطفت الإعجاب مبكراً بتلك الدولة الأفريقية الحبيسة، بفضل نموذجها الديمقراطي النادر في قارتها، وأدائها الاقتصادي الصاعد.

قد يكون هذا الإعجاب سجل خفوتاً في مؤشراته، خصوصاً مع موجة ركود وبطالة اجتاحت البلاد منذ سنوات قليلة، إلا أنه يبحث عن استعادة البريق مع رئيس جديد منتخب ديمقراطياً.

على عكس الكثير من دول «القارة السمراء»، لم تودّع بوتسوانا حقبة الاستعمار عام 1966 بمتوالية ديكتاتوريات وانقلابات عسكرية، بل اختارت صندوق الاقتراع ليفرز برلماناً تختار أغلبيته الرئيس. وأظهر أربعة من زعماء بوتسوانا التزاماً نادراً بالتنحي عن السلطة بمجرد استكمال مدّد ولايتهم المنصوص عليها دستورياً، بدءاً من كيتوميلي ماسيري، الذي خلف «السير» سيريتسي خاما عند وفاته في منصبه بصفته أول رئيس لبوتسوانا. وهذا التقليد الذي يصفه «مركز أفريقيا للدراسات الاستراتيجية» بأنه «مثير للإعجاب»، جنت بوتسوانا ثماره أخيراً بانتقال سلمي للسلطة إلى الحقوقي والمحامي اليساري المعارض دوما بوكو.

انتصار بوكو جاء بعد معركة شرسة مع الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه الحزب الديمقراطي... الذي حكم البلاد لمدة قاربت ستة عقود.

ويبدو أن تجربة تأسيس الحزب الديمقراطي من زعماء قبائل ونُخَب أوروبية كانت العلامة الأهم في رسم المسار الديمقراطي لبوتسوانا، عبر ما يعرف بـ«الإدماج الناعم» لهؤلاء الزعماء القبليين في بنية الدولة. لكن المفارقة كانت «الدور الإيجابي للاستعمار في هذا الشأن»، وفق كلام كايلو موليفي مُستشار الديمقراطية في مكتب رئيس بوتسوانا السابق للإذاعة السويسرية. وتكمن كلمة السر هنا في «كغوتلا»، فبحسب موليفي، اختار البريطانيون الحُكم غير المُباشر، عبر تَرك السلطة للقادة القبليين لتسيير شؤون شعبهم، من دون التدخل بهياكل الحكم التقليدية القائمة.

نظام «كغوتلا» يقوم على «مجلس اجتماعي»، ويحق بموجبه لكل فرد التعبير عن نفسه، بينما يناط إلى زعيم القبيلة مسؤولية التوصل إلى القرارات المُجتمعية بتوافق الآراء. ووفق هذا التقدير، قاد التحالف البلاد إلى استقرار سياسي، مع أنه تعيش في بوتسوانا 4 قبائل أكبرها «التسوانا» - التي تشكل 80 في المائة من السكان وهي التي أعطت البلاد اسمها -، بجانب «الكالانغا» و«الباسار» و«الهرو».

وإلى جانب البنية الديمقراطية ودور القبيلة، كان للنشأة الحديثة للجيش البوتسواني في حضن الديمقراطية دور مؤثر في قطع الطريق أمام شهوة السلطة ورغباتها الانقلابية، بفضل تأسيسه في عام 1977 وإفلاته من صراعات مع الجيران في جنوب أفريقيا وزيمبابوي وناميبيا.

على الصعيد الاقتصادي، كان الاستعمار البريطاني سخياً – على نحو غير مقصود – مع بوتسوانا في تجربة الحكم، إلا أنه تركها 1966 سابع أفقر دولة بناتج محلي ضئيل وبنية تحتية متهالكة، أو قل شبه معدومة في بعض القطاعات.

مع هذا، انعكس التأسيس الديمقراطي، وفق محللين، على تجربة رئيسها الأول «السير» سيريتسي خاما؛ إذ مضى عكس اتجاه الرياح الأفريقية، منتهجاً نظام «رأسمالية الدولة»، واقتصاد السوق، إلى جانب حرب شنَّها ضد الفساد الإداري.

على صعيد موازٍ، أنعشت التجربة البوتسوانية تصدير اللحوم، كما عزّز اكتشاف احتياطيات مهمة من المعادن - لا سيما النحاس والماس - الاقتصاد البوتسواني؛ إذ تحتضن بلدة أورابا أكبر منجم للماس في العالم.

ثم إنه، خلال العقدين الأخيرين، جنت بوتسوانا - التي تغطي صحرء كالاهاري 70 في المائة من أرضها - ثمار سياسات اقتصادية واعدة؛ إذ قفز متوسط الدخل السنوي للمواطن البوتسواني إلى 16 ألف دولار أميركي مقابل 20 دولاراً، بإجمالي ناتج محلي بلغ 19.3 مليار دولار، وفق أرقام البنك الدولي. كذلك حازت مراكز متقدمة في محاربة الفساد بشهادة «منظمة الشفافية العالمية». ومع أن الرئيس البوتسواني المنتخب تسلم مهام منصبه هذا الأسبوع في ظل مستويات بطالة مرتفعة، وانكماش النشاط الاقتصادي المدفوع بانخفاض الطلب الخارجي على الماس، إلا أن رهان المتابعين يبقى قائماً على استعادة الماسة البوتسوانية بريقها.