وليام بيرنز أول دبلوماسي أميركي محترف يتولى إدارة وكالة الاستخبارات المركزية

أول دبلوماسي أميركي محترف يتولى إدارة وكالة الاستخبارات المركزية

حرب غزة تفرض خيارات معقدة على أميركا وتشكيك في نجاح جهود بيرنز في حل الصراع
حرب غزة تفرض خيارات معقدة على أميركا وتشكيك في نجاح جهود بيرنز في حل الصراع
TT

وليام بيرنز أول دبلوماسي أميركي محترف يتولى إدارة وكالة الاستخبارات المركزية

حرب غزة تفرض خيارات معقدة على أميركا وتشكيك في نجاح جهود بيرنز في حل الصراع
حرب غزة تفرض خيارات معقدة على أميركا وتشكيك في نجاح جهود بيرنز في حل الصراع

بينما تُراوح مؤشرات «بورصة» المفاوضات الجارية لوضع حدّ للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة - وعلى الفلسطينيين عموماً - صعوداً وهبوطاً بعد هجوم حركة «حماس» في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، برز الدور اللافت الذي يلعبه ويليام بيرنز، مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية «السي آي إيه» في تلك المفاوضات، وزياراته وجولاته المكوكية مع الأطراف المعنية في هذا الصراع، لكن على الرغم من أن المفاوضات إبّان «الحروب» الإسرائيلية الفلسطينية السابقة غالباً ما كانت تدار من قِبل قادة أجهزة الاستخبارات، فإن مشاركة بيرنز الحالية تُعد مختلفة عن مشاركات أسلافه الذين كانت وظيفتهم جمع المعلومات الاستخبارية بشكل منفصل عن السياسة والنفوذ السياسي، أما بيرنز فهو أول مسؤول في «السي آي إيه» جاء من أرفع المواقع الدبلوماسية الأميركية المحترفة، ذلك أن مسيرته شهدت خوضه أدواراً رئيسة في المفاوضات التي أُجريت بدايات القرن الحالي في إطار ما سمي «خريطة الطريق» لإنشاء «الدولة الفلسطينية المستقلة» عام 2002، خلال عهد الرئيس الأسبق جورج بوش «الابن».

يقول البعض في واشنطن إن الدبلوماسيين الأميركيين غالباً ما يتمتعون بخلفية استخباراتية «ضرورية»، بمعزل عن انتماءاتهم السياسية والحزبية، ويُجبرهم موقعهم الدبلوماسي على التزام «الحيادية» في تمثيل دولتهم.

لعل هذا الأمر أكثر ما ينطبق على ويليام بيرنز، الذي يحفل تاريخ خدمته الخارجية بتجربة واسعة النطاق، سواءً مع منطقة الشرق الأوسط أم مع روسيا. وعندما أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي تربطه به علاقة طويلة، يوم 11 يناير (كانون الثاني) 2021، أنه يعتزم ترشيحه لمنصب مدير «السي آي إيه» (وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية)، قال إن بيرنز يشاركه اعتقاده «بأن الاستخبارات يجب أن تكون غير سياسية، وأن محترفي الاستخبارات المتفانين الذين يخدمون أمتنا، يستحقون امتناننا واحترامنا».

وبالفعل، لقي ترشيح بيرنز الاستحسان في جلسة تأكيد تعيينه بمجلس الشيوخ، في 24 فبراير (شباط) 2021، بعد خضوعه للتدقيق في لجنة الاستخبارات، ليحصل على الموافقة بإجماع الحزبين الديمقراطي والجمهوري، يوم 18 مارس (آذار)، وتأديته اليمين الدستورية مديراً لوكالة الاستخبارات المركزية في اليوم التالي. وفي يوليو (تموز) 2023، رقّى بايدن بيرنز في إدارته، في إجراء رمزي إلى حد كبير.

والواقع أن مهارات الرجل، وقدراته الدبلوماسية، وآراءه السياسية، فضلاً عن التحولات التي طرأت عليها، لتتكيف مع مصالح بلاده الاستراتيجية، كانت حاضرة لتقييم أهليته لشَغل منصب رئاسة واحدة من أكبر أجهزة الاستخبارات في العالم. ثم إنه يُعدّ أحد أكثر الدبلوماسيين الأميركيين تفاعلاً وانخراطاً مع مختلف الإدارات الأميركية، الجمهورية والديمقراطية.

بطاقة شخصية

وُلد ويليام جوزيف بيرنز لعائلة عسكرية في قاعدة فورت ليبرتي «فورت براغ سابقاً» بولاية نورث كارولينا، عام 1956. أمه بيغي كاسادي، وأبوه الجنرال وليام فرنسيس بيرنز، الذي كان لواءً في الجيش الأميركي وشغل منصب نائب مساعد وزير الخارجية لشؤون الحد من الأسلحة، ومكتب الشؤون السياسية والعسكرية، ومدير وكالة الحد من الأسلحة ونزع السلاح الأميركية عامي 1988 و1989، في إدارة الرئيس رونالد ريغان، بالإضافة إلى خدمته بصفته أول مبعوث أميركي خاص لمفاوضات نزع السلاح النووي مع دول الاتحاد السوفياتي السابق.

التحق ويليام بيرنز بمدرسة ترينيتي الثانوية في كامب هيل، بولاية بنسلفانيا، حيث كان طالباً متفوقاً، وتخرّج عام 1973، ثم درس التاريخ في جامعة لا سال (الكاثوليكية الخاصة)، وتخرّج فيها بشهادة البكالوريوس بمرتبة الشرف عام 1978، ومن ثم حصل على منحة مارشال للدراسات العليا في كلية سانت جون بجامعة أوكسفورد العريقة ببريطانيا، وهناك نال درجة الماجستير في الفلسفة، ودرجة علمية في العلاقات الدولية، ثم في عام 1985 حصل من أوكسفورد على دكتوراه في الفلسفة عن أطروحته بعنوان «المساعدات الاقتصادية والسياسة الأميركية تجاه مصر 1955 - 1981».

أما بالنسبة لحياته الأسرية فإنه التقى زوجته المستقبلية، الدبلوماسية السابقة ليزا كارتي، عام 1982، عندما كانا يجلسان بجوار بعضهما البعض، خلال تدريبهما على الخدمة في وزارة الخارجية. وتعمل زوجته الآن سفيرة لدى المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة، ولديه ابنتان.

مسيرة الصعود من وزارة الخارجية

بيرنز الذي يتقن اللغات الروسية والعربية والفرنسية، دخل وزارة الخارجية في عام 1982، وتقاعد منها عام 2014، بعد مسيرة دبلوماسية استمرت 33 سنة، وبعدها أصبح رئيساً لـ«مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي»، وهي أقدم مؤسسة فكرية للشؤون الدولية في الولايات المتحدة، حتى استقالته منها عام 2021.

في عام 1994، أُدرج اسم ويليام بيرنز في قائمة مجلة «تايم» التي تضم «50 من القادة الأميركيين الواعدين تحت سن الأربعين»، وفي قائمتها التي تضم «100 من القادة العالميين الشباب». وفي عام 2013، أطلقت عليه مجلة «فورين بوليسي» لقب «دبلوماسي العام».

ثم حصل، عام 2014، على «جائزة رجل الدولة المتميز» من «رابطة مكافحة التشهير» المناصرة لإسرائيل، و«جائزة الإنجاز مدى الحياة» من «معهد الشرق الأوسط» في واشنطن (2014)، و«جائزة أننبرغ للتميز الدبلوماسي» من الأكاديمية الأميركية للدبلوماسية (2015).

وبعدها، في عام 2008 رشحه الرئيس الأسبق جورج بوش «الابن»، وأكد الترشيح مجلس الشيوخ، بصفة «سفير محترف»؛ وهي رتبة تقديرية رفيعة وترقية نادرة في الخدمة الخارجية الأميركية.

ثم إنه كان ثاني دبلوماسي محترف في تاريخ الولايات المتحدة يصبح نائب وزير الخارجية، ذلك أنه قبل توليه منصب نائب وزير الخارجية، عمل بيرنز بين 2008 و2011 وكيلاً لوزير الخارجية للشؤون السياسية، وقبلها كان سفيراً لدى روسيا بين 2005 و2008، ومساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى بين 2001 و2005، ويومذاك خاض المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين على أثر اندلاع «الانتفاضات» في مناطق السلطة الفلسطينية، خلال رئاسة ياسر عرفات - التي كانت الإدارة الأميركية تتعامل معه في حينه - وحكم رئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون.

أيضاً كان بيرنز من عام 1998 إلى عام 2001، سفيراً لدى الأردن، وشملت مناصبه الأخرى في الخدمة الخارجية: السكرتير التنفيذي لوزارة الخارجية والمساعد الخاص لوزيري الخارجية السابقين وارين كريستوفر ومادلين أولبرايت، وأيضاً كان مستشار الشؤون السياسية في سفارة الولايات المتحدة بموسكو، والقائم بأعمال المدير والنائب الرئيس لمدير تخطيط السياسات بوزارة الخارجية، والمساعد الخاص للرئيس الأميركي والمدير الأول لشؤون الشرق الأدنى وجنوب آسيا في مجلس الأمن القومي.

شخصية أساسية في إدارة بايدن

تقول صحيفة «النيويورك تايمز» إن بيرنز سعى، منذ تعيينه في منصبه، «إلى طرد أشباح الإخفاقات الاستخباراتية، بعد تقديراتها من أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل»، وهو يُعد الشخصية الرئيسة في تعزيز دعم إدارة بايدن لأوكرانيا، بعدما جمعت وكالته المعلومات الاستخباراتية بشأن خطط روسيا لغزوها، وأنه اكتسب نفوذاً يتجاوز معظم قادة الاستخبارات السابقين، و«كان تأثير فترة ولايته بعد سنتين من تعيينه كاسحاً بقدر ما كان دقيقاً»، بعد الإحباطات التي تعرضت لها «السي آي إيه»، وتهميشها خلال سنوات حكم دونالد ترمب، الذي قال علناً إنه يميل إلى تصديق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أكثر من تصديق الوكالة.

وحقاً، استعادت «السي آي إيه» هيبتها مع بيرنز الذي كان هو، وليس وزير الخارجية أنتوني بلينكن، الذي أرسله بايدن لمقابلة بوتين في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021، وقام بيرنز أيضاً بنحو 30 رحلة إلى الخارج، خلال السنتين اللتين أمضاهما مديراً للوكالة، بينها لقاءات شملت مناقشة سياسات واشنطن مع القادة الأجانب. وكذلك لكونه عضواً في «الدائرة الداخلية» لبايدن، كثيراً ما طلب منه الحضور المنتظم للإحاطة اليومية من مكتب مدير الاستخبارات الوطنية حول الأمن القومي.

تعقيدات المنطقة تفرض نفسها

عن مستجدّات الشرق الأوسط رأى بيرنز أن «الأزمة التي عجّلت بها المذبحة التي ارتكبتها (حماس) في إسرائيل، في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، هي بمثابة تذكير مؤلم بتعقيد الخيارات، التي لا تزال المنطقة تفرضها على الولايات المتحدة». وقال إن «مفتاح أمن إسرائيل والمنطقة هو التعامل مع إيران» التي «يبدو أن (نظامها) مستعدّ للقتال حتى آخِر وكيل إقليمي له، كل ذلك مع توسيع برنامجه النووي، وتمكين العدوان الروسي» على أوكرانيا.

وحول إيران خاصة، يُذكر أن بيرنز قاد، عام 2013، مع جايك سوليفان، مستشار الأمن القومي الحالي، «القناة التفاوضية الثنائية السرّية» مع إيران، والتي أدت إلى الاتفاق المؤقت بين إيران و«مجموعة 5 +1»، ومن ثم «الاتفاق النووي الإيراني». وورد أن بيرنز كان «في مقعد السائق» لفريق التفاوض الأميركي بشأن الاتفاق المؤقت، وكان قد التقى سراً مسؤولين إيرانيين منذ عام 2008، عندما انتدبه الرئيس جورج بوش «الابن» للمهمة. وفي أبريل (نيسان) 2013، أشادت به مقالة نُشرت في مجلة «ذي أتلانتيك»، وعدّته «السلاح الدبلوماسي السرّي» الذي وُجّه ضد «بعض تحديات السياسة الخارجية الشائكة التي تواجهها الولايات المتحدة».

لكن حيال ملف فلسطين وإسرائيل، ومع فشل محاولات بيرنز «التوفيق» بين الطرفين في عام 2002، تُطرح، اليوم، تساؤلات عمّا إذا كانت آفاق المفاوضات الجارية لوقف الحرب تتجه إلى الفشل نفسه تحت سقف أدنى بكثير لما هو متاح للفلسطينيين، وخصوصاً في ظل موقف أميركي يعدّه البعض «تواطؤاً» ضد مستقبل القضية الفلسطينية.

حملة بايدن الانتخابية

وبالفعل، قال مسؤولون أميركيون كبار أخيراً إن عملية رفح «لا تزال محدودة حتى الآن»، مستبعدين أن تكون إسرائيل تجاوزت «الخط الأحمر» الذي وضعه بايدن حول غزو برّي للمدينة نفسها قد يكون «نقطة انهيار» للعلاقات الأميركية الإسرائيلية.لكن هذا كلام يشكك بمضمونه عدد من المراقبين؛ لأنه، على الرغم من إعلان بايدن «وقفاً مؤقتاً» لشحنة أسلحة مهمة إلى إسرائيل، أكد بايدن، ووزير دفاعه لويد أوستن، الأربعاء، «الحرص على مواصلة القيام بما هو ضروري لضمان أن لدى إسرائيل الوسائل للدفاع عن نفسها». والواضح أن معظم التوتر الحالي بين الطرفين يعود إلى المخاوف على حظوظ إعادة انتخاب بايدن، في حال لم يتحقق بسرعة التوصل لـ«هدنة ما»، بعدما دخل السباق الرئاسي أشهره الأخيرة.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو play-circle 01:45

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل.

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو
TT

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا، إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. «عناد» الرئيس الجديد قاده، وعلى نحو مذهل، لإزاحة خصمه الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه حزب قويّ هيمن على السلطة قرابة 6 عقود مرّت على استقلال بوتسوانا. ويبدو أن وعورة طريق بوكو إلى الانتصار لن تحجب حقيقة أن وديعة الفقر والفساد والبطالة و«تمرّد الاستخبارات»، التي خلفها سلفه ماسيسي، ستكون أخطر الألغام التي تعترض مهمة بوكو، الذي دشّن مع بلاده تداولاً غير مسبوق للسلطة، في بلد حبيسة جغرافياً، اقترن فيها الفقر مع إنتاج الماس.

إلى جانب «العناد في ساحة القتال» والتواضع المُقترن بالثقة في النفس، يبدو أن رهان الانتصار للفقراء والطبقات الدنيا هو المحرّك الرئيسي في المسارات المتوقعة للرئيس البوتسواني الجديد دوما بوكو. وبالفعل، لم يبالغ الرئيس المنتخب في أول تصريحاته لوسائل الإعلام عندما خاطب شعبه قائلاً: «أتعهد بأنني سأبذل قصارى جهدي وعندما أفشل وأخطئ، سأتطلع إليكم للحصول على التوجيه».

هذه الكلمات قوبلت باهتمام واسع من جانب مراقبين، بعد أداء بوكو (54 سنة) اليمين الدستورية أمام حشد من آلاف من الأشخاص في الاستاد الوطني بالعاصمة خابوروني، في مراسم حضرها قادة مدغشقر، وناميبيا، وزامبيا وزيمبابوي، وبدأت معها التساؤلات عن مستقبل بوتسوانا.

من هو دوما بوكو؟

وُلد دوما جديون بوكو عام 1969، في قرية ماهالابي الصغيرة التي تبعد 200 كلم عن العاصمة خابوروني، وترعرع وسط أسرة متواضعة، لكن اللافت أنه كان «يتمتع بثقة عالية في النفس واحترام أهله وذويه في طفولته وصباه»، وفق كلام لأقاربه لوسائل إعلام محلية. وهذه الصفات الإيجابية المبكرة، اقترنت لدى الرئيس الجديد بـ«إيمان عميق بالعدالة»، وفق عمته، وربما أكسبته هذه الصفات ثقة زملاء الدراسة الذين انتخبوه رئيساً لاتحاد الطلاب في المدرسة الثانوية.

أكاديمياً، درس بوكو القانون في جامعة بوتسوانا، لكنه - بعكس أقرانه اليساريين في العالم - كان منفتحاً على إكمال دراسته القانونية في الولايات المتحدة، وبالذات في كلية الحقوق بجامعة هارفارد العريقة، حيث تشربت ميوله اليسارية بـ«أفكار ديمقراطية» انعكست على مستقبله السياسي. أما عن المشوار المهني، فقد ذاع صيت بوكو بوصفه أحد ألمع محامين بوتسوانا.

مشوار التغيير

نقطة التحول في رحلة الرئيس الجديد باتجاه القصر الرئاسي، بدأت بتوليه زعامة حزب «جبهة بوتسوانا الوطنية» عام 2010.

يومذاك، كانت «الجبهة» تتمسك بأفكار شيوعية تلاشت مع أفول شمس الإمبراطورية السوفياتية، إلا أن بوكو بحنكته وواقعيته، مال بها نحو اشتراكية «يسار الوسط». ولم يتوقف طموح بوكو عند هذه النقطة، بل خطا خطوة غير مسبوقة بتشكيله ائتلاف «مظلة التغيير الديمقراطي» عام 2012، وهو تحالف من الأحزاب المعارضة للحكومة بينها «الجبهة». وأطلق بهذا الائتلاف عملياً «شرارة» التغيير بعد إحباط طويل من هزائم المعارضة أمام الحزب الديمقراطي البوتسواني، المحافظ،، الذي حكم البلاد منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1966.

طوال 12 سنة، لعب المحامي اليساري الديمقراطي بوكو دوراً حاسماً في قيادة الائتلاف، ولم ييأس أو يستسلم أو يقدم تنازلات على الرغم من الهزائم التي لحقت بالائتلاف.

وفي غمار حملة الدعاية بانتخابات الرئاسة البوتسوانية الأخيرة، كان المحللون ووسائل الإعلام منشغلين بانعكاسات خلاف قديم بين الرئيس (السابق) ماسيسي وسلفه الرئيس الأسبق إيان خاما، في حين ركّز بوكو طوال حملته على استقطاب شرائح من الطبقات الدُّنيا في بلد يفترسه الفقر والبطالة، وشدّدت تعهدات حملته الانتخابية عن دفاع قوي عن الطبقات الاقتصادية الدنيا في المجتمع وتعاطف بالغ معها.

ووفق كلام الصحافي إنوسنت سيلاتلهوا لـ«هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) كان بوكو «يناشد أنصاره الاقتراب من الناس والاستماع إلى شكاواهم». وبجانب أن أسلوب الرئيس الجديد - الذي استبعد الترشح لعضوية البرلمان) - كان «جذاباً وودوداً دائماً» مع الفقراء وطبقات الشباب، حسب سيلاتلهوا، فإن عاملاً آخر رجَّح كفّته وأوصله إلى سدة السلطة هو عودة الرئيس الأسبق خاما إلى بوتسوانا خلال سبتمبر (أيلول) الماضي من منفاه في جنوب أفريقيا، ليقود حملة إزاحة غريمه ماسيسي عبر صناديق الاقتراع.

انتصار مفاجئ

مع انقشاع غبار الحملات الانتخابية، لم يتوقع أكثر المتفائلين فوز ائتلاف بوكو اليساري «مظلة التغيير الديمقراطي» بالغالبية المطلقة في صناديق الاقتراع، وحصوله على 36 مقعداً برلماناً في انتخابات 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مقارنة بأربعة مقاعد فقط للحزب الديمقراطي. وبالتالي، وفق دستور بوتسوانا، يحق للحزب الذي يسيطر على البرلمان اختيار الرئيس وتشكيل حكومة جديدة. ولقد خاضت 6 أحزاب الانتخابات، وتقدم أربعة منها بمرشحين لرئاسة الجمهورية، في حين سعى ماسيسي لإعادة انتخابه لولاية ثانية رئيساً للدولة.

تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة

مستويات عالية جداً من البطالة نسبتها 27.6 % فضلاً

عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 %

وبقدر ما كانت هذه الهزيمة صادمة للحزب الديمقراطي والرئيس السابق ماسيسي - الذي سارع بالاعتراف بالهزيمة في حفل التنصيب - فإنها فاجأت أيضاً بوكو نفسه، الذي اعترف بأنه فوجئ بالأرقام.

تعزيز العدالة الاجتماعية

لعل بين «أسرار» نجاح بوكو، التي رصدها ديفيد سيبودوبودو، المحلل السياسي والأستاذ في جامعة بوتسوانا، «بروزه زعيماً حريصة على تعزيز العدالة الاجتماعية». وفي مسار موازٍ رفعت أسهمه خبرته الحقوقية وخاصة حقوق قبيلة الباساروا (السان)، وهم السكان الأصليون في بوتسوانا، وفق موقع «أول أفريكا». هذا الأسبوع، دخلت وعود الرئيس الجديد محك التجربة في مواجهة مرحلة بلد يعاني مرحلة «شكوك اقتصادية»؛ إذ تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة، مستويات عالية جداً من البطالة تبلغ 27.6 في المائة، فضلاً عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 في المائة، وفق أرقام رسمية واستطلاعات رأي. وخلص استطلاع حديث أجرته مؤسسة «أفروباروميتر» إلى أن البطالة هي مصدر القلق «الأكثر إلحاحاً» للمواطنين مقارنة بالقضايا الأخرى.

الأرقام السابقة تصطدم بوعود أعلنها بوكو برفع الراتب الأساسي وعلاوات الطلاب ومعاشات الشيخوخة، والاهتمام بشريحة الشباب، علماً بأن نحو 70 في المائة من سكان البلاد دون سن الـ35 سنة. ويتمثل التحدي الأكبر بتعهد الرئيس بـ«تنويع الاقتصاد» الذي يعتمد في 90 في المائة من صادراته على الماس. لذا؛ قال الباحث سيبودوبودو لموقع «أول أفريكا» شارحاً: «حكومة بوكو في حاجة إلى تحويل الاقتصاد بحيث يخلق فرص العمل، وهذا أمر صعب في خضم ركود سوق الماس، أكبر مصدر للدخل في البلاد». في المقابل، يرى المحلل السياسي ليسولي ماتشاشا أن الرئيس بوكو «شغوف بالمعرفة والتعليم، ولديه دائماً فهم جيد للشؤون والقضايا الداخلية الجارية في بوتسوانا... وكذلك فهو جاد في إصلاح البلاد».

... الدافع الحقوقي

وفي موازاة الهاجس الاقتصادي، يبدو أن الدافع الحقوقي سيشكل عنصراً مهماً في أجندة بوكو الرئاسية؛ إذ عبر في مقابلة مع «بي بي سي» عن عزمه منح إقامة مؤقَّتة وتصاريح عمل لآلاف المهاجرين الذين وصلوا خلال السنوات الأخيرة بشكل غير نظامي إلى البلاد من الجارة زيمبابوي. وفي معرض تبريره هذا القرار، أوضح بوكو: «إن المهاجرين يأتون من دون وثائق؛ ولذا فإنَّ حصولهم على الخدمات محدود، وما يفعلونه بعد ذلك هو العيش خارج القانون وارتكاب الجرائم». ثم تابع مستدركاً: «ما يجب علينا فعله هو تسوية أوضاعهم».

ترويض مديرية الاستخبارات

لكن، ربما تكون المهمة الأصعب للرئيس الجديد هي ترويض «مديرية الاستخبارات والأمن»، التي يرى البعض أنها تتعامل وكأنها «فوق القانون أو هي قانون في حد ذاتها».

وهنا يشير الباحث سيبودوبودو إلى تقارير تفيد بأن الاستخبارات عرقلت التحقيقات التي تجريها «مديرية مكافحة الفساد والجرائم الاقتصادية» في قضايا فساد، تتمثل في تربّح بعض أقارب الرئيس السابق من المناقصات الحكومية، وأنباء عن انخراط الجهاز الاستخباراتي في أدوار خارج نطاق صلاحياته، وتضارب عمله مع الشرطة ومديرية الفساد. «وبناءً على ذلك قد تبدو مهمة بوكو صعبة في إعادة ترتيب مؤسسات الدولية السيادية، علماً بأن (مديرية الاستخبارات والأمن) كانت مركز تناحر بين الرئيس السابق وسلفه إيان خاما، كما أن المؤسسات التي كان من المفترض أن توفر المساءلة، مثل (مديرية مكافحة الفساد) والسلطة القضائية، جرى إضعافها أو تعريضها للخطر في ظل صمت الرئيس السابق».أخيراً، من غير المستبعد أن يفرض سؤال محاكمات النظام السابق نفسه على أجندة أولويات الرئيس الجديد، وفق متابعين جيدي الاطلاع، مع الرئيس السابق الذي لم يتردد في الإقرار بهزيمته. بل، وأعلن، أثناء تسليم السلطة، مجدداً أن على حزبه «التعلم الآن كيف يكون أقلية معارضة».