هل تزدهر الرعاية الصحية وقطاع الأدوية بفضل الذكاء الاصطناعي؟

جمع البيانات أمام اختبار الأمان والخصوصية

هل تزدهر الرعاية الصحية وقطاع الأدوية بفضل الذكاء الاصطناعي؟
TT

هل تزدهر الرعاية الصحية وقطاع الأدوية بفضل الذكاء الاصطناعي؟

هل تزدهر الرعاية الصحية وقطاع الأدوية بفضل الذكاء الاصطناعي؟

«لا تمت لأي سبب غبي»... هي العبارة الأكثر ترداداً على لسان بيتر ديامانديس، أحد رواد الأعمال ومؤسس «إكس برايز» وجامعة «سينغولاريتي». ويستشرف بيتر وكثيرون مثله ثورة فعلية في مجال الرعاية الصحية يتيحها ما تم إحرازه من تقدم غير مسبوق وسريع في مجال الذكاء الاصطناعي، ما سيؤدي إلى زيادة أعمار البشر بشكل كبير.

مع تطلعنا إلى العقد المقبل يحمل إدماج الذكاء الاصطناعي بمجال الرعاية الصحية وعداً بإحداث تحول جذري في تقنيات التشخيص الطبي، وتطوير العقاقير، والطب الذي يراعي فردية الحالات، ورعاية المرضى عموماً. يستعرض هذا المقال التطورات المحتملة والواقعية التي يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساهم بها في مجال الرعاية الصحية، ويتبحر في كيفية قيام تلك الابتكارات بإعادة تشكيل مستقبل الطب.

الذكاء الاصطناعي وتطوير العقاقير

لعل أهم التأثيرات المحتملة للذكاء الاصطناعي هي تلك التي تنعكس على مجال اكتشاف العقاقير وتطويرها. وتزداد مهارة خوارزميات الذكاء الاصطناعي باستمرار في تدقيق مجموعات البيانات، ومن المرجح أن تصبح قادرة على توقع العلاقة بين الأمراض والأهداف الحيوية البيولوجية، والمركبات الأصلية وتلك المقلّدة. وربما يعني ذلك أيضاً إمكانيات التعرف على الأهداف المحتملة لعقار جديد، وطرق تصنيع العقاقير المقترحة الملائمة على نحو أسرع وبشكل مختلف عن الطرق التقليدية. إذا كتب النجاح لهذه الجهود، أو عندما تنجح فعلياً، من المتوقع أن يوفر الذكاء الاصطناعي الوقت والتكلفة المرتبطة باكتشاف العقاقير.

كذلك سوف يشهد المستقبل الأثر الهائل للذكاء الاصطناعي على التجارب السريرية، حيث سيجعلها أكثر فعالية ونجاحاً. يمكن للباحثين استخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي في تحليل بيانات المرضى وتحديد المرشحين المناسبين للتجارب بوتيرة أسرع ودقة أكبر. ولا يسرّع ذلك عملية الاختيار فحسب، بل يضمن أيضاً تمثيلاً أفضل للسكان في التجارب. فعلى المستوى العملي، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يراقب بيانات التجارب وقت حدوثها ما يسمح بتحديد المشكلات المحتملة أو الأعراض الجانبية بشكل أسرع، ما من شأنه أن يزيد أمان العقاقير الجديدة وفعاليتها. ونحن نشهد بالفعل محاولات أولية في هذا المجال من خلال «توقع نتائج التجارب السريرية استناداً إلى اختيار الهدف وتصميم التجارب باستخدام تقنية الذكاء الاصطناعي المتعددة النماذج «أليبر - 2023»، لتوقع نتيجة التجارب. سوف ترتفع إمكانيات التوقع بشكل كبير وتصبح هذه المسألة مفصلية في المرحلة المقبلة.

وإلى ذلك، يتوقع أن يكون الذكاء الاصطناعي على أعتاب حقبة جديدة في مجال العلاج الرقمي. فيما يلي بعض التدخلات العلاجية القائمة على أدلة والتي تمت بمساعدة برامج عالية الجودة لمنع أو معالجة خلل اعتلال أو مرض أو التعامل معه. يمكن أن تصبح التطبيقات والأجهزة المعززة بالذكاء الاصطناعي، التي تقدم نصائح وعلاجات تناسب كل حالة بشكل شخصي، أكثر فعالية وانتشاراً. لا يدعم هذا النهج العلاجات التقليدية فحسب، بل يقدم أيضاً مسارات وأساليب جديدة للتعامل مع الحالات المرضية المزمنة، والصحة النفسية، والأمراض المتعلقة بنمط الحياة.

طب يتوافق مع فردية الحالات

سوف تحدث قدرة الذكاء الاصطناعي على تحليل مجموعات كبيرة من البيانات، ثورة في مجال الطب القادر على التوافق مع كل حالة بشكل فردي. فمن خلال استخدام بيانات المرضى، بما في ذلك المعلومات الوراثية، والمؤشرات الحيوية غير الجراحية، ونمط الحياة، والعوامل البيئية، وفحوص التصوير بالأشعة، يمكن للذكاء الاصطناعي المساعدة في تحديد علاجات تناسب الأفراد بشكل شخصي. لا يحسّن هذا النهج فعالية العلاجات فحسب، بل يساهم أيضاً في الحد من الآثار الجانبية، فيمكن للأدوات المعززة بالذكاء الاصطناعي في المستقبل أن تتيح للأطباء السريريين اختيار العقاقير وبروتوكولات العلاج الأكثر فعالية استناداً إلى الوضع الصحي والحيوي الفريد لكل مريض.

من المرجح أن يحدث الذكاء الاصطناعي تحولاً أيضاً في تقنيات التشخيص، حيث يتم استخدام خوارزميات تعلم الآلة بالفعل في تفسير الصور الطبية بمستوى من الدقة يرقى إلى مستوى الخبراء من البشر إن لم يكن يفوقه. سوف تصبح تلك الوسائل التكنولوجية في المستقبل أكثر تطوراً، ما يتيح تشخيصاً مبكراً ودقيقاً بدرجة أكبر لحالات مثل السرطان، وأمراض القلب، والاضطرابات العصبية. كذلك قد يصبح الحصول على أدوات التشخيص المعززة بالذكاء الاصطناعي عن بعد أسهل، وهو ما سوف يجسر الهوة المتصلة بإتاحة وتوفير الرعاية الصحية.

الفعالية العملية في الرعاية الصحية

لا شك أن الذكاء الاصطناعي سيعزز الفعالية العملية من داخل أنظمة الرعاية الصحية. فيمكن أن تساعد أنظمة الذكاء الاصطناعي مقدمي الرعاية الصحية على توفير مستوى أفضل من الرعاية، بدءاً بالاستغلال الأمثل لأداء العمل في المستشفيات وصولاً إلى إدارة بيانات المرضى وتوقع معدلات دخولهم إلى المستشفيات، من خلال إدارة أفضل للموارد والتخطيط. ويمكن لأنظمة الذكاء الاصطناعي تحديداً تنفيذ المهام الإدارية مثل وضع الجداول، وإصدار الفواتير، وإدارة ملفات المرضى آلياً، مما يخفف من العبء الإداري الواقع على كاهل الموظفين، ويتيح لهم التركيز بدرجة أكبر على العناية بالمرضى. لا يحسّن هذا القدر الأكبر من الفعالية نتائج المرضى فقط، بل يمكنه أيضاً الحد من التكلفة الإجمالية لعملية تقديم الرعاية الصحية.

إلى جانب ذلك، سوف يعزز دمج الذكاء الاصطناعي في الخدمات الطبية المقدّمة عن بعد، ومتابعة المرضى عن بعد، عملية تقديم الرعاية الصحية. كذلك يمكن لمنصات الخدمات الطبية المقدّمة عن بعد والمعززة بالذكاء الاصطناعي تقديم تشخيصات أولية، والتوصية بخيارات علاجية، بل وحتى توقع درجة خطورة الحالات الطبية. وتتيح الأجهزة، التي يمكن ارتداؤها والمعززة بخوارزميات الذكاء الاصطناعي، متابعة الحالة الصحية للمرضى بشكل متواصل وتزويد مقدمي الرعاية الصحية ببيانات فورية مع احتمالات التدخل المبكر في حالة وجود أي خلل أو انحراف.

تحديات في التنفيذ والدمج

والواقع أنه وعلى رغم التفاؤل المحيط باستخدام الذكاء الاصطناعي في مجال الرعاية الصحية، هناك تحديات كبرى في عملية التنفيذ والدمج، تشمل الحاجة إلى بيانات معيارية ذات جودة عالية تضمن توافق التشغيل بين أنظمة الذكاء الاصطناعي المختلفة وقواعد بيانات الرعاية الصحية، فضلاً عن التدريب المستمر لموظفي الرعاية الصحية من أجل العمل على نحو متوافق مع وسائل الذكاء الاصطناعي التكنولوجية. إضافة إلى ذلك تعدّ معالجة التحديات التنظيمية وضمان التوافق مع معايير الرعاية الصحية من الأمور الضرورية لإتاحة الاستخدام الآمن والفعّال للذكاء الاصطناعي في تلك المجالات.

كذلك تتسم الاعتبارات الأخلاقية المتعلقة بخصوصية البيانات والأمن أهمية كبيرة، لا سيما فيما يتعلق بضمان شفافية وحيادية كل أنظمة الذكاء الاصطناعي وقابليتها للتفسير من الأمور الضرورية لقبولها وفعاليتها في ظروف مجال الرعاية الصحية.

ربما يتمثل التحدي الأكبر في عدم جعل أوجه التقدم، التي يتم تحقيقها باستخدام الذكاء الاصطناعي في مجال الرعاية الصحية، مقيدة ومقتصرة على تحسين حياة الأثرياء فحسب. سوف يتم الشعور بالأثر الحقيقي لأدوات الرعاية الصحية التحويلية عندما يتمكن العامّة من الاستفادة منها. ومن اللازم محو الأمية التكنولوجية، وإتاحة الوسائل بتكلفة مقبولة، وسدّ الثغرات المتعلقة بالوصول إليها، ويتطلب هذا تعاوناً بين القطاع الحكومي والجهات المدافعة عن المرضى والمؤسسات التي تستطيع تيسير وصول الوسائل التكنولوجية المعززة بالذكاء الاصطناعي إلى الدول والمجتمعات المحرومة على المستويين الكلي والجزئي.

ختاماً، ومع تطلعنا نحو المستقبل نجد أن قدرة الذكاء الاصطناعي على إحداث تحول في حياة البشر هائلة، فهو لا يعد بتعزيز فعالية وكفاءة العلاج فحسب، بل أيضاً بالمساهمة في تقديم رعاية صحية أكثر توافقاً مع الحالات بشكل شخصي، وأكثر تمركزاً حول المريض، حيث يمكن للوقاية أن تضطلع بدور أكبر. مع ذلك سوف يتطلب تحقيق هذه الإمكانية تعاملاً حريصاً وحذراً مع التحديات الفنية والأخلاقية والتنظيمية. هذا التفاؤل الذي يغمرني يجعلني متيقناً من أن الذكاء الاصطناعي سيكون له أثر كبير على طول أعمار البشر. لذا سوف أتبّع نصيحة بيتر ديامانديس وأحاول ألا أموت لسبب غبي.


مقالات ذات صلة

خلل بسيط في حركة العين قد يشير إلى إصابتك بألزهايمر

صحتك بهدف تكوين صورة بصرية ذات معنى لمشهد ما تقوم أعيننا بسلسلة من الحركات السريعة المنسقة (رويترز)

خلل بسيط في حركة العين قد يشير إلى إصابتك بألزهايمر

تبرز مؤخراً طريقة جديدة للكشف المبكر عن مرض ألزهايمر ترتبط بالاستماع إلى حركة عيون المرضى عبر ميكروفونات في آذانهم.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
صحتك شعار «شات جي بي تي» يظهر أمام شعار شركة «أوبن إيه آي» (رويترز)

هل يساعد «شات جي بي تي» الأطباء حقاً في تشخيص الأمراض؟ الإجابة مفاجئة

يتساءل الكثير من الأشخاص حول ما إذا كان برنامج الدردشة الآلي الذي يعمل بالذكاء الاصطناعي قادراً على مساعدة الأطباء في تشخيص مرضاهم بشكل أفضل.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
صحتك يرفع العلاج الجديد مستويات البروتين في الخلايا الحساسة للضوء بشبكية العين (هارفارد)

علاج جيني يُعيد القدرة على السمع ويعزّز الرؤية

طوّر باحثون بكلية الطب في جامعة «هارفارد» الأميركية علاجاً جينياً للمصابين بمتلازمة «آشر من النوع 1F»، وهي حالة نادرة تسبّب الصمم والعمى التدريجي.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
صحتك تقنيات جديدة لعلاج التهاب الأنف المزمن

تقنيات جديدة لعلاج التهاب الأنف المزمن

كشفت دراسة حديثة أن استهداف العصب الذي غالباً ما يكون مبهماً يؤدي إلى تحسين معدل نجاح العلاج بالتبريد والعلاج بالترددات الراديوية لالتهاب الأنف المزمن.

العالم العربي من داخل مجمع مستشفى شهداء الأقصى بدير البلح في قطاع غزة (أرشيفية - أ.ب)

«أطباء بلا حدود»: مواصلة إسرائيل تدمير النظام الصحي في غزة ستَحرم مئات آلاف السكان من العلاج

حذرت منظمة «أطباء بلا حدود»، اليوم الأحد، من أن مواصلة إسرائيل تدمير النظام الصحي في قطاع غزة ستَحرم مئات آلاف السكان من العلاج الطبي.

«الشرق الأوسط» (غزة)

السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
TT

السلطة الفلسطينية... تكون أو لا تكون

حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)
حاجز قلنديا خارج مدينة رام الله بالضفة الغربية (رويترز)

حين أعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس أنه سيتوّجه إلى غزة في خضّم الحرب المسعورة التي تشنها إسرائيل، كان يعرف أكثر من غيره أنها خطوة شبه مستحيلة، لكنه أراد إطلاق رسائله الخاصة، وأهمها على الإطلاق أن السلطة الفلسطينية «موجودة»، وهي «صاحبة الولاية» على الأراضي الفلسطينية،

سواء في غزة التي تئن تحت وطأة حرب مدمّرة، وتضع لها إسرائيل خططاً شتى لما تسميه «اليوم التالي»، من غير أن تأخذ السلطة بالحسبان، أو الضفة الغربية التي ترزح تحت وطأة حرب أخرى، تستهدف من بين ما تستهدف تفكيك السلطة.

وبعد عام على الحرب الأكثر مفصلية في تاريخ القضية الفلسطينية، تخوض السلطة أصعب معركة عرفتها يوماً، وهي معركة «البقاء».

ولم تقتصر رسائل عباس على إسرائيل وحدها، بل شملت أولاً الولايات المتحدة التي انخرطت في نقاشات واسعة مع إسرائيل حول احتمالات انهيار السلطة، وراحت تتحدث عن سلطة متجددة، وثانياً، دولاً إقليمية وعربية تناقش مستقبل السلطة وشكل الهيئة التي يفترض أن تحكم قطاع غزة بعد الحرب، وأخيراً الفصائل الفلسطينية التي تهاجم و«تزايد» على السلطة، وترى أنها غير جديرة بحكم غزة، وتدفع باتجاه حلها.

الأيام الأصعب منذ 30 عاماً

تعيش السلطة الفلسطينية، اليوم، واحدة من أسوأ مراحلها على الإطلاق منذ تأسست قبل 30 عاماً.

فبعدما تقلصت المساحات التي تسيطر عليها في الأراضي الفلسطينية، وفيما هي تكابد بلا انتخابات رئاسية، وبلا مجلس تشريعي، أو أفق سياسي واقتصادي، وبالتزامن مع أزمة مالية خانقة، وأخرى أمنية، ومشاكل داخلية لا تحصى، وجدت هذه السلطة نفسها في مواجهة «طوفان» جديد؛ طوفان تغذيه أكثر حكومة يمينية تشن هجوماً منظماً وممنهجاً ضدها، وضد شعبها، وفيه كثير من المس بهيبتها وبرنامجها السياسي ووظيفتها، إلى الحد الذي يرتفع فيه السؤال حول إمكانية نجاتها أصلاً في الضفة، قبل أن تعود لتحكم غزة ثانية.

الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال كلمته في الأمم المتحدة بنيويورك (إ.ب.أ)

وبين الفينة والأخرى يتردد سؤال معقد بعض الشيء، ويبدو منطقياً أحياناً، وغير بريء أحياناً أخرى، وهو: لماذا لا تحل السلطة نفسها؟

هذا سؤال يبرز اليوم مجدداً، مع توسيع إسرائيل حربها ضد الفلسطينيين في الضفة وغزة، وإن كان في صيغة مختلفة كالقول: لماذا لا تسلم السلطة المفاتيح لإسرائيل، وتزيد عليها الضغوط؟

الأكيد أن السلطة لا تُخطط لحل نفسها، وهذا ينطلق من «قناعة وطنية» بأنها وجدت لنقل الفلسطينيين من المرحلة الانتقالية إلى إقامة الدولة، وأنها لا تعمل وكيلاً لدى لاحتلال.

ويعرف المسؤولون الفلسطينيون أنه لطالما أرادت إسرائيل أن تجعل السلطة وكيلاً أمنياً لها، لكنهم يقولون في العلن والسر، إنهم ليسوا قوات «لحد» اللبنانية، وإنما هم في مواجهة مفتوحة لإنهاء الاحتلال، وهذا سبب الحرب التي تشنّها تل أبيب على السلطة سياسياً وأمنياً ومالياً.

وفي حديث مع «الشرق الأوسط»، قال توفيق الطيراوي، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ومسؤول جهاز المخابرات السابق: «إن السلطة لا تنهار لأنها نتاج طبيعي لنضال طويل للثورة الفلسطينية، وستبقى حتى إقامة الدولة».

هل هو قرار فلسطيني وحسب؟

ربما يرتبط ذلك أكثر بما ستؤول إليه الحرب الحالية الآخذة في الاتساع، وهي حرب يتضح أنها غيّرت في عقلية الإسرائيليين قبل الفلسطينيين، وفي نهج وسلوك وتطلعات الطرفين، وماضية نحو تغيير وجه الشرق الأوسط.

وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يمتنع حتى الآن عن وضع خطة واضحة لما بعد الحرب، لا في الضفة ولا في غزة، يجاهر أركان حكومته وحلفاؤه بما سيأتي، وهي خطة على الأقل واضحة جداً في الضفة الغربية، وتقوم على تغيير الواقع والتخلُّص من السلطة وإجهاض فكرة إقامة الدولة.

وقد بدأ الانقلاب على السلطة بوضوح بعد شهرين فقط من بدء الحرب على القطاع، نهاية العام الماضي، عندما خرج نتنياهو ليقول إن جيشه يستعد لقتال محتمل مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وهي تصريحات فهمتها الرئاسة الفلسطينية فوراً، قائلة إنها تعبر عن نياته المبيتة لاستكمال الحرب على الفلسطينيين من خلال السلطة بعد «حماس»، وفي الضفة بعد غزة.

تصريحات نتنياهو التي جاءت في جلسة للجنة الخارجية والأمن في الكنيست، أعقبها توضيح بالغ الأهمية من نتنياهو ومفاده أن «الفارق بين السلطة و(حماس) هو أن الأخيرة تريد إبادتنا حالاً، أما السلطة فتخطط لتنفيذ ذلك على مراحل».

فلسطينيون في وقفة احتجاجية في مدينة رام الله بالضفة الغربية الثلاثاء طالبوا بالإفراج عن جثامين أسراهم في سجون إسرائيل (أ.ف.ب)

ويفسر هذا الفهم لماذا عَدّ نتنياهو أن اتفاق «أوسلو» كان خطأ إسرائيل الكبير، موضحاً أن «السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية و(حماس) في غزة يريدان تدمير إسرائيل... طرف يقول ذلك صراحة، والآخر يفعل ذلك من خلال التعليم والمحكمة الجنائية الدولية».

وهجوم نتنياهو على السلطة ليس جديداً، لكنه الأوضح الذي يكشف جزءاً من خطته القائمة على تقويض السلطة. ومنذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تتعامل إسرائيل مع السلطة كأنها غير موجودة.

الضفة مثل غزة ولبنان

وصعّدت إسرائيل في الضفة الغربية منذ بدء الحرب في قطاع غزة في السابع من أكتوبر الماضي، وقتلت أكثر من 720 فلسطينياً، في هجمات متفرقة، تميّزت بإعادة استخدام الطائرات في عمليات اغتيال، وتنفيذ عمليات واسعة.

وكان لافتاً أن التصعيد في الضفة كان مبادرة إسرائيلية، إذ هاجم الجيش مدناً ومخيمات وبلدات، وراح يقتل الفلسطينيين قصفاً بالطائرات ويعتقلهم، كما يدمر البنى التحتية، مستثيراً الجبهة الضفَّاوية، بحجة ردع جبهة ثالثة محتملة.

اليوم لا تكتفي إسرائيل بالمبادرة، بل تريد أن تجعل الضفة أحد أهداف الحرب، مثل غزة ولبنان. ولم يتردد وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير، بالقول إن الحرب التي تخوضها إسرائيل «ليست فقط ضد غزة وضد (حزب الله) اللبناني، بل هي أيضاً في الضفة»، مؤكداً أنه طلب من رئيس الوزراء أن يدرج ضمن أهداف الحرب تحقيق النصر في الضفة أيضاً.

لكن لماذا تخشى إسرائيل الضفة إلى هذه الدرجة؟ يقول مسؤول فلسطيني -فضّل عدم الكشف عن اسمه- لـ«الشرق الأوسط»: «إنهم يستهدفون الضفة لضرب المشروع الوطني الفلسطيني، ويسعون إلى تقويض السلطة».

وأضاف: «يصعّدون هنا حتى يثبتوا للفلسطينيين أن السلطة ضعيفة وواهنة ولا تحميهم، ويجب أن ترحل، لأنها غير جديرة بهم».

قوات إسرائيلية خلال عملية اقتحام لمخيم فلسطيني قرب رام الله بالضفة مارس الماضي (أ.ف.ب)

وخلال الأسابيع القليلة الماضية فقط، حذّرت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من أن الوضع الأمني في الضفة قد يتطور إلى انتفاضة؛ ولذلك دفع الجيش بـ3 كتائب احتياط إلى الضفة، لأهداف «تشغيلية ودفاعية» على ما قال، وللقيام بمهام «عملياتية».

وجاء القرار الذي تحدّث عن تعزيز الدفاع، وسط تصاعد الصراع في المنطقة وقبيل ذكرى السابع من أكتوبر، لكن إذا كانت هذه خطة الحكومة الإسرائيلية، فيبقى من السابق لأوانه معرفة إن كانت نجحت في مهمتها أم لا.

يكفي لجولة صغيرة على مواقع التواصل الاجتماعي أن تشير إلى أن السلطة في وضع لا تحسد عليه. فهي عاجزة عن خلق أفق سياسي وأفق اقتصادي وتوفير الأمن، وأساسيات أخرى من بينها رواتب الموظفين للعام الثاني على التوالي.

واليوم، الجميع على المحك في مواجهة حرب ممنهجة، تسعى إلى تغيير الواقع مرة وإلى الأبد.

خطة قديمة جديدة

كان الوزير الإسرائيلي المتطرف بتسلئيل سموترتيش، واضحاً عندما قال إنه لا يفعل شيئاً سرياً، وهو يعمل ضد السلطة في الضفة، ويسعى لمنع إقامة دولة.

وتعهد سموتريتش نهاية الشهر الماضي، بأن تكون «مهمة حياته» إحباط قيام دولة فلسطينية، وكتب في منشور على منصة «إكس»: «أخذت على عاتقي، إضافة إلى منصب وزير المالية، مسؤولية القضايا المدنية في يهودا والسامرة (الضفة)».

وأضاف: «سأواصل العمل بكل قوتي حتى يتمتع نصف مليون مستوطن موجودين في الضفة بحقوق كل مواطن في إسرائيل وإثبات الحقائق على الأرض، التي تمنع قيام دولة إرهابية فلسطينية يمكن أن تكون قاعدة إيرانية أمامية للمجزرة المقبلة».

فلسطينيون يحتفلون فوق صاروخ إيراني صقط في رام الله (أ.ف.ب)

وكان تسجيل مسرب لسموتريتش قبل شهرين فضح خطة حكومية رسمية لفرض السيطرة الإسرائيلية المدنية على الضفة الغربية، قال خلاله الوزير المسؤول عن الإدارة المدنية الإسرائيلية، إن الحكومة منخرطة في جهود سرية لتغيير الطريقة التي تحكم فيها إسرائيل الضفة الغربية.

وخطة سموترتيش الماضية، ستعني حتماً تفكيك السلطة، لكن المحلل السياسي محمد هواش يرى أن العالم لن يسمح بذلك.

وقال هواش لـ«الشرق الأوسط»: «إن السلطة مرتبطة بالمشروع القائم على إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية، وهذا جزء من تسوية دولية. مشروع دولي بالأساس، وهناك حتى الآن رعاية دولية له، ومن الصعب التراجع عنه».

وأضاف هواش: «التراجع يعني إعادة الاحتلال، وهذا غير مقبول فلسطينياً ودولياً، وإسرائيل لن تقبل، لأنها ستذهب إلى دولة واحدة ونظام (أبرتهايد)».

وتابع هواش: «لا توجد مصلحة لإسرائيل بإنهاء السلطة بالكامل، بل في إضعافها حتى تتوقف مطالبها بإنهاء الاحتلال، وتغير العلاقة مع إسرائيل». وحذر من أن «إسرائيل ستتحمل العبء الأكبر من غياب عنوان سياسي للشعب الفلسطيني».

الثابت الوحيد اليوم أنه لا أحد يملك وصفة سحرية، سواء أذهبت السلطة أم بقيت، قويت «حماس» أم ضعفت، امتدت الحرب أم انتهت، تطرفت إسرائيل أكثر أم تعقّلت، سيظل يوم السابع من أكتوبر شاهداً على أن الطريق الأقصر للأمن والاستقرار هو بصنع السلام، وليس بطائرات حربية ومدافع ورشاشات.