فرانسينا آرمنغول... رئيسة البرلمان الإسباني المؤمنة بـ«الوحدة الوطنية المستندة إلى التنوع»

يسارية انتقلت من الحلبة الإقليمية إلى قلب الساحة الوطنية

فرانسينا آرمنغول... رئيسة البرلمان الإسباني المؤمنة
بـ«الوحدة الوطنية المستندة 
إلى التنوع»
TT

فرانسينا آرمنغول... رئيسة البرلمان الإسباني المؤمنة بـ«الوحدة الوطنية المستندة إلى التنوع»

فرانسينا آرمنغول... رئيسة البرلمان الإسباني المؤمنة
بـ«الوحدة الوطنية المستندة 
إلى التنوع»

في خريف عام 2020، عندما كانت إسبانيا تتعرّض لأقسى موجات جائحة «كوفيد - 19»، ويخضع سكانها لتدابير حجر صارمة تقيّد التنقّل وتمنع التجوّل وارتياد الأماكن العامة ومراتع اللهو في ساعات الليل، شوهدت فرانسينا آرمنغول في ساعة متأخرة من الليل برفقة المسؤول الإعلامي في الحكومة داخل أحد مقاهي جزيرة مايروقة... الذي أقفلته السلطات الأمنية بعد ذلك بأيام إثر الشكاوى التي رفعها سكان المباني المجاورة لكثرة الضجيج الذي كان يتسبب به رواده. آرمنغول، رئيسة الحكومة الإقليمية في جزر الباليار وعضو اللجنة التنفيذية الفيدرالية للحزب الاشتراكي الإسباني، لم تكترث في حينه لسيل الانتقادات التي تعرضت لها من المعارضة التي طالبتها بالاستقالة لانتهاك تدابير الوقاية التي كانت هي وضعتها مع اشتداد الجائحة. بل التفّت حولها جميع القيادات الاشتراكية في تظاهرة نادرة من التضامن مع السياسية التي كانت قد بدأت تُعرف بأنها «النجم الصاعد» في المشهد الاشتراكي الإسباني.

إبان فترة واقعة الملهى، كانت الأنظار قد بدأت حقاً تتجه إلى فرانسينا آرمنغول، تلك الصيدلانية التي دخلت معترك السياسة بوصفها عضوة في مجلس بلدية قريتها الذي كان يرأسه أبوها. إلا أن أحداً لم يكن يتوقع أنها ستصبح بعد ذلك بثلاث سنوات ثاني امرأة ترأس البرلمان الوطني الإسباني، والأولى من الحزب الذي لم يحصل على الغالبية في الانتخابات العامة.

النشأة والمسيرة

فرانسينا آرمنغول من مواليد عام 1971 في بلدة آينكا، من أعمال جزيرة مايورقة كبرى جزر أرخبيل الباليار السياحي في غرب البحر المتوسط. ولقد تخرّجت في كلية العلوم والبحوث الصيدلانية بجامعة برشلونة، حيث تابعت لاحقاً دراسة الحقوق قبل أن تباشر العمل في صيدلية العائلة حتى أواخر تسعينات القرن الماضي.

في عام 1999، أصبحت آرمنغول عضواً في المجلس البلدي المحلي، وفي نهاية العام التالي صارت مستشارة (عضو مجلس) في مجلس الجزيرة، حيث كانت الناطقة بلسان الحزب الاشتراكي حتى عام 2004. وخلال هذه الفترة فازت في الانتخابات الإقليمية بعضوية برلمان جزر الباليار، وجددت ولايتها ثلاث مرات متعاقبة، بينما كان نجمها يواصل الصعود داخل الحزب الذي تولّت منصب الناطق باسمه في البرلمان الإقليمي، وأظهرت قدرة بارزة في التشريع، وفتح قنوات الحوار مع القوى السياسية المنافسة.

وفي عام 2007، انتخبت آرمنغول رئيسة للمجلس الاستشاري في الجزيرة بفضل الاتفاق الذي توصلت إليه مع القوى والأحزاب الإقليمية، بعدما كانت قد فازت بمنصب الأمين العام للاتحاد الاشتراكي في مايورقة. ثم في عام 2012 صارت الأمينة العامة الإقليمية للحزب الاشتراكي وعضوة في اللجنة التنفيذية الفيدرالية. ثم، في منتصف العام التالي، فازت السياسية الطموحة بأكثرية ساحقة في انتخابات الحزب الداخلية لاختيار مرشحه لرئاسة الحكومة الإقليمية في انتخابات عام 2015، وعيّنها الأمين العام للحزب ورئيس الوزراء الحالي بيدرو سانشيز مستشارته للشؤون الإقليمية، وذلك قبل أشهر من اندلاع الأزمة الانفصالية الكتالونية... التي ما زالت تداعياتها تتفاعل إلى اليوم بقوة في المشهد السياسي الإسباني.

رئيسة الحكومة الإقليمية

بعد الانتخابات الإقليمية في عام 2015، ونتيجةً تحالف واسع مع الأحزاب التقدمية لعبت هي الدور الأساسي في التوصل إليه، أصبحت آرمنغول أول امرأة تتولى رئاسة الحكومة الإقليمية في جزر الباليار، حيث يوجد المقرّ الصيفي للعائلة المالكة الإسبانية. وفي خطاب توليها مهامها، أعلنت إلغاء السياسة اللغوية التي كانت الحكومة اليمينية السابقة قد فرضتها ضد إرادة غالبية المواطنين والهيئات التعليمية، وتعهّدت بتطبيق نظام تمويلي جديد للجزر، وفرض ضريبة سياحية يعود ريعها لتطوير القطاع الذي يشكّل عماد اقتصاد الأرخبيل.

وكذلك، أعلنت عن حزمة واسعة من التدابير الاجتماعية، مثل إعادة الخدمات الصحية التي كانت الحكومة اليمينية قد أوقفتها، وخطة لمكافحة الفقر، وإنشاء جهاز لمكافحة الفساد تحت إشراف البرلمان، ومكتب للشفافية والمشاركة المباشرة من المواطنين في إدارة شؤون الجزر.

ساهمت كل هذه الخطوات في زيادة شعبية آرمنغول على المستوى الإقليمي، وترسيخ التحالف الذي كان يدعمها، لكن صعودها البارز على المستوى الوطني جاء بفضل الموقف الذي اتخذته من الأزمة التي نشأت بسبب الصراع الداخلي في الحزب الاشتراكي، وأدت إلى تنحّي بيدرو سانشيز عن منصب الأمين العام في سبتمبر (أيلول) عام 2016؛ إذ ذاك راهنت آرمنغول على تشكيل «حكومة وطنية ائتلافية»، على غرار تلك التي كانت تترأسها في جزر الباليار، وكانت أشدّ المعارضين داخل الحزب الاشتراكي العمالي لبقاء زعيم الحزب الشعبي اليميني ماريانو راخوي رئيساً للحكومة الإسبانية، وأكثر المتحمسين للانفتاح على القوى اليسارية والإقليمية - بما فيها الانفصالية - من أجل إسقاط حكومة راخوي المحافظة، وإيصال سانشيز إلى سدة الرئاسة.

نجاحها... وطنياً

في عام 2019، عادت فرانسينا آرمنغول وجددت ولايتها رئيسةً للحكومة الإقليمية بعد فوزها في الانتخابات الإقليمية بجزر الباليار، إلا أن إدارتها لجائحة «كوفيد - 19» كانت متعثّرة في معظم مراحلها؛ إذ تخللتها سلسلة من القرارات الخاطئة التي اعترفت هي، لاحقاً، بأنها تسببت في ارتفاع عدد الإصابات والضحايا، الأمر الذي كان له دور أساسي في هزيمتها إبان الانتخابات الإقليمية التالية عام 2023، وأيضاً خسارة حزبها الغالبية في برلمان الجزر.

ولكن بعد فوزها بمقعد في البرلمان الوطني الإسباني خلال الانتخابات العامة الأخيرة منتصف الصيف الماضي، التي فاز فيها الحزب الشعبي اليميني المحافظ، قرر الحزب الاشتراكي ترشيحها لرئاسة البرلمان. وجاء القرار بناءً على عجز الحزب اليميني الفائز عن جمع غالبية الأصوات اللازمة لانتخاب مرشحه، وأيضاً بناءً على استعداد القوى اليسارية والقومية لدعم آرمنغول من أجل توليها المنصب بوصفها أول رئيسة للبرلمان من حزب لم يحصل على الغالبية في الانتخابات العامة.

ومع أن مسيرة آرمنغول السياسية اقتصرت عملياً على الحيّز الإقليمي حتى إعلان ترشيحها لرئاسة البرلمان الوطني، فإن العديد من القرارات والمبادرات التي اتخذتها خلال رئاستها الحكومة الإقليمية في جزر الباليار أثارت جدلاً واسعاً على الصعيدين السياسي والإعلامي تجاوز الإطار الإقليمي. وفي الوقت عينه، كان يترسّخ موقعها بوصفها القيادية الاشتراكية الوحيدة التي تحظى بتأييد جميع القوى القومية والانفصالية الممثلة في البرلمان الوطني، بما فيها حزب «جونتس» الكتالوني الانفصالي المحافظ.

وواقع الأمر أنه فضلاً عن الرغبة المشتركة في إقصاء اليمين - المناهض بشدة للمطالب القومية والانفصالية - عن رئاسة البرلمان، تعود أسباب التقارب القومي والانفصالي مع ترشيح آرمنغول أيضاً إلى أن الحزب الاشتراكي في جزر الباليار، الذي تتزّعمه لديه جذور قومية عميقة حافظت هي عليها منذ وصولها إلى منصب الأمين العام الإقليمي. كذلك، جدير بالذكر أن آرمنغول عندما كانت تتابع تحصيلها الجامعي في جامعة برشلونة، انخرطت في أحد التيارات الطلابية الكتالونية (القطالونية) التي كان تنادي بـ«الاستقلال». إلا أنها عادت وابتعدت عنه لاحقاً، وانضمّت إلى الجناح اليساري في الحزب الاشتراكي العمالي، وهو جناح يدعو إلى إنشاء نظام فيدرالي في إسبانيا، كـ«منزلة بين المنزلتين»: المركزية والانفصالية.

من ناحية أخرى، كانت القوى والأحزاب اليمينية قد وجّهت اتهامات متكرّرة ضد آرمنغول بأنها «انفصالية»، و«تدعم الحركة الاستقلالية» في إقليم كتالونيا. لكنها كانت تصرّ دائماً على رفض تلك الاتهامات بشكل قاطع، وإن كانت قد تحالفت إبّان ولايتها الأولى رئيسةً للحكومة الإقليمية في الباليار مع اثنتين من القوى الانفصالية. ثم إنها كانت ترد على اتهامات اليمين بالتأكيد على أنها كانت تحرص دائماً على رفض الطروحات الانفصالية إبان الأزمة الاستقلالية التي أدت إلى المواجهة الصدامية بين الحكومة المركزية والحكومة الكتالونية في خريف عام 2017، وأدت إلى اعتقال عدد كبير من القيادات الانفصالية بتهمة العصيان والتمرّد، وفرار بعضهم إلى الخارج، من بينهم رئيس الحكومة آنذاك كارلي بوتشيمون.

لم تتردد آرمنغول إطلاقاً في الإفصاح عن ميولها الجمهورية

لكنها حافظت دائماً على علاقات ممتازة مع العائلة المالكة

سياسية واقعية ونشيطة وواضحة المواقف

مقابل ما سبق، لم تتردد آرمنغول إطلاقاً في الإفصاح عن ميولها الجمهورية، لكنها حافظت دائماً على علاقات ممتازة مع العائلة المالكة التي تتخذ من جزيرة مايورقة مقرّاً لإقامتها الصيفية. ولقد تبدّت هذه العلاقة بوضوح خلال الاحتفال بافتتاح الولاية الاشتراعية الأخيرة أواخر الشهر الماضي، التي ترأسها العاهل الإسباني فيليبي السادس، برفقة قرينته الملكة ليتيزيا وولية العهد ابنته الأميرة ليونور، بل تضمّن خطاب آرمنغول عدة إشارات إلى الدور المحوَري الذي يلعبه العاهل الإسباني في هذه المرحلة الحساسة من التاريخ السياسي للبلاد الذي يشهد انقسامات حادة وتوتراً في العلاقات بين مكوّنات الشعب لم يعرفها الإسبان منذ عودة النظام الديمقراطي مطالع ثمانينات القرن الفائت.

في الحقيقة، يذكر متابعون جيدو الاطلاع أنه لم يكن وارداً في حسابات آرمنغول النزول إلى الحلبة السياسية المركزية؛ لكونها كانت دائماً بعيدة عن دوائر القرار الفيدرالية في الحزب الاشتراكي. غير أن فشلها في تجديد ولايتها رئيسةً لحكومة جزر الباليار للمرة الثالثة على التوالي خلال الانتخابات الإقليمية في الربيع الماضي، دفعها إلى الترشح للانتخابات العامة أواخر يوليو (تموز) الفائت، حين فازت للمرة الأولى بمقعد في البرلمان الوطني الذي أصبحت اليوم رئيسة له.

وتالياً، يجمع الذين يعرفون آرمنغول عن كثب على أنها تملك قدرة خارقة على العمل، وتتميّز بقناعاتها السياسية الراسخة التي تدافع عنها بشدة، وبخاصة، مواقفها المناهضة للسياسة الإقليمية التي ينهجها الحزب الشعبي المحافظ، وانتقاداتها القاسية لحزب «فوكس» اليميني المتطرف.

مقابل ذلك، من المآخذ عليها أنها لا تتقبّل النقد بسهولة، بل غالباً ما تجنح نحو اتخاذ مواقف مشددة صعب العودة عنها أو تعديلها لاحقاً. وكان الخطاب الذي ألقته أخيراً خلال افتتاح الدورة الاشتراعية الجديدة قد تضمّن غمزات عدة من قناة الأحزاب اليمينية التي توافق نوابها على مقاطعة رئيسة البرلمان الجديدة غير مرة، والامتناع عن التصفيق لها عند نهاية الخطاب، وذلك للمرة الأولى في تاريخ الديمقراطية الإسبانية. وفي هذا الشأن، وصف زعيم الحزب الشعبي المحافظ ألبرتو فيخو خطابها بأنه «الأسوأ بين ما سمعه إلى اليوم من رؤساء البرلمان في إسبانيا».

وما يستحق الإشارة هنا، أن تحالف الأحزاب اليسارية والتقدمية مع الأحزاب القومية والانفصالية، الذي أمّن الفوز لفرانسينا آرمنغول برئاسة البرلمان على حساب مرشحة الحزب الشعبي - الذي كان فاز بأكبر عدد من المقاعد في الانتخابات العامة -هو الذي منع فيخو من الحصول على ثقة البرلمان لتشكيل الحكومة الجديدة التي عاد بيدرو سانشيز ليتولّى رئاستها مرة أخرى.

ثم أنه كان بين أوائل القرارات التي اتخذتها آرمنغول بعد توليها رئاسة البرلمان، قرار باستخدام اللغات الإقليمية (الكتالونية والباسكية والجليقية - الغاليسية) في النقاش العام والمداولات، وذلك للمرة الأولى في تاريخ البرلمان الإسباني. وكان سبق لها إبان توليها رئاسة الحكومة الإقليمية في جزر الباليار أن فرضت معرفة اللغة الكتالونية (القطالونية) - التي هي اللغة المحكية في الجزر - على الأطباء وأعضاء طواقم التمريض في المؤسسات الصحية الرسمية. أيضاً سبق لآرمنغول أن صرّحت عند الإعلان عن قرارها استخدام اللغات القومية في مداولات البرلمان بقولها: «إن إسبانيا تتقدّم عند الاعتراف بتنوّعها وتباينها، وثروتها الحقيقية تكمن في هذه التعددية الفريدة». لم تتردد آرمنغول إطلاقاً في الإفصاح عن ميولها الجمهورية

لكنها حافظت دائماً على علاقات ممتازة مع العائلة المالكة


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو play-circle 01:45

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل.

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو
TT

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا، إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. «عناد» الرئيس الجديد قاده، وعلى نحو مذهل، لإزاحة خصمه الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه حزب قويّ هيمن على السلطة قرابة 6 عقود مرّت على استقلال بوتسوانا. ويبدو أن وعورة طريق بوكو إلى الانتصار لن تحجب حقيقة أن وديعة الفقر والفساد والبطالة و«تمرّد الاستخبارات»، التي خلفها سلفه ماسيسي، ستكون أخطر الألغام التي تعترض مهمة بوكو، الذي دشّن مع بلاده تداولاً غير مسبوق للسلطة، في بلد حبيسة جغرافياً، اقترن فيها الفقر مع إنتاج الماس.

إلى جانب «العناد في ساحة القتال» والتواضع المُقترن بالثقة في النفس، يبدو أن رهان الانتصار للفقراء والطبقات الدنيا هو المحرّك الرئيسي في المسارات المتوقعة للرئيس البوتسواني الجديد دوما بوكو. وبالفعل، لم يبالغ الرئيس المنتخب في أول تصريحاته لوسائل الإعلام عندما خاطب شعبه قائلاً: «أتعهد بأنني سأبذل قصارى جهدي وعندما أفشل وأخطئ، سأتطلع إليكم للحصول على التوجيه».

هذه الكلمات قوبلت باهتمام واسع من جانب مراقبين، بعد أداء بوكو (54 سنة) اليمين الدستورية أمام حشد من آلاف من الأشخاص في الاستاد الوطني بالعاصمة خابوروني، في مراسم حضرها قادة مدغشقر، وناميبيا، وزامبيا وزيمبابوي، وبدأت معها التساؤلات عن مستقبل بوتسوانا.

من هو دوما بوكو؟

وُلد دوما جديون بوكو عام 1969، في قرية ماهالابي الصغيرة التي تبعد 200 كلم عن العاصمة خابوروني، وترعرع وسط أسرة متواضعة، لكن اللافت أنه كان «يتمتع بثقة عالية في النفس واحترام أهله وذويه في طفولته وصباه»، وفق كلام لأقاربه لوسائل إعلام محلية. وهذه الصفات الإيجابية المبكرة، اقترنت لدى الرئيس الجديد بـ«إيمان عميق بالعدالة»، وفق عمته، وربما أكسبته هذه الصفات ثقة زملاء الدراسة الذين انتخبوه رئيساً لاتحاد الطلاب في المدرسة الثانوية.

أكاديمياً، درس بوكو القانون في جامعة بوتسوانا، لكنه - بعكس أقرانه اليساريين في العالم - كان منفتحاً على إكمال دراسته القانونية في الولايات المتحدة، وبالذات في كلية الحقوق بجامعة هارفارد العريقة، حيث تشربت ميوله اليسارية بـ«أفكار ديمقراطية» انعكست على مستقبله السياسي. أما عن المشوار المهني، فقد ذاع صيت بوكو بوصفه أحد ألمع محامين بوتسوانا.

مشوار التغيير

نقطة التحول في رحلة الرئيس الجديد باتجاه القصر الرئاسي، بدأت بتوليه زعامة حزب «جبهة بوتسوانا الوطنية» عام 2010.

يومذاك، كانت «الجبهة» تتمسك بأفكار شيوعية تلاشت مع أفول شمس الإمبراطورية السوفياتية، إلا أن بوكو بحنكته وواقعيته، مال بها نحو اشتراكية «يسار الوسط». ولم يتوقف طموح بوكو عند هذه النقطة، بل خطا خطوة غير مسبوقة بتشكيله ائتلاف «مظلة التغيير الديمقراطي» عام 2012، وهو تحالف من الأحزاب المعارضة للحكومة بينها «الجبهة». وأطلق بهذا الائتلاف عملياً «شرارة» التغيير بعد إحباط طويل من هزائم المعارضة أمام الحزب الديمقراطي البوتسواني، المحافظ،، الذي حكم البلاد منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1966.

طوال 12 سنة، لعب المحامي اليساري الديمقراطي بوكو دوراً حاسماً في قيادة الائتلاف، ولم ييأس أو يستسلم أو يقدم تنازلات على الرغم من الهزائم التي لحقت بالائتلاف.

وفي غمار حملة الدعاية بانتخابات الرئاسة البوتسوانية الأخيرة، كان المحللون ووسائل الإعلام منشغلين بانعكاسات خلاف قديم بين الرئيس (السابق) ماسيسي وسلفه الرئيس الأسبق إيان خاما، في حين ركّز بوكو طوال حملته على استقطاب شرائح من الطبقات الدُّنيا في بلد يفترسه الفقر والبطالة، وشدّدت تعهدات حملته الانتخابية عن دفاع قوي عن الطبقات الاقتصادية الدنيا في المجتمع وتعاطف بالغ معها.

ووفق كلام الصحافي إنوسنت سيلاتلهوا لـ«هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) كان بوكو «يناشد أنصاره الاقتراب من الناس والاستماع إلى شكاواهم». وبجانب أن أسلوب الرئيس الجديد - الذي استبعد الترشح لعضوية البرلمان) - كان «جذاباً وودوداً دائماً» مع الفقراء وطبقات الشباب، حسب سيلاتلهوا، فإن عاملاً آخر رجَّح كفّته وأوصله إلى سدة السلطة هو عودة الرئيس الأسبق خاما إلى بوتسوانا خلال سبتمبر (أيلول) الماضي من منفاه في جنوب أفريقيا، ليقود حملة إزاحة غريمه ماسيسي عبر صناديق الاقتراع.

انتصار مفاجئ

مع انقشاع غبار الحملات الانتخابية، لم يتوقع أكثر المتفائلين فوز ائتلاف بوكو اليساري «مظلة التغيير الديمقراطي» بالغالبية المطلقة في صناديق الاقتراع، وحصوله على 36 مقعداً برلماناً في انتخابات 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مقارنة بأربعة مقاعد فقط للحزب الديمقراطي. وبالتالي، وفق دستور بوتسوانا، يحق للحزب الذي يسيطر على البرلمان اختيار الرئيس وتشكيل حكومة جديدة. ولقد خاضت 6 أحزاب الانتخابات، وتقدم أربعة منها بمرشحين لرئاسة الجمهورية، في حين سعى ماسيسي لإعادة انتخابه لولاية ثانية رئيساً للدولة.

تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة

مستويات عالية جداً من البطالة نسبتها 27.6 % فضلاً

عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 %

وبقدر ما كانت هذه الهزيمة صادمة للحزب الديمقراطي والرئيس السابق ماسيسي - الذي سارع بالاعتراف بالهزيمة في حفل التنصيب - فإنها فاجأت أيضاً بوكو نفسه، الذي اعترف بأنه فوجئ بالأرقام.

تعزيز العدالة الاجتماعية

لعل بين «أسرار» نجاح بوكو، التي رصدها ديفيد سيبودوبودو، المحلل السياسي والأستاذ في جامعة بوتسوانا، «بروزه زعيماً حريصة على تعزيز العدالة الاجتماعية». وفي مسار موازٍ رفعت أسهمه خبرته الحقوقية وخاصة حقوق قبيلة الباساروا (السان)، وهم السكان الأصليون في بوتسوانا، وفق موقع «أول أفريكا». هذا الأسبوع، دخلت وعود الرئيس الجديد محك التجربة في مواجهة مرحلة بلد يعاني مرحلة «شكوك اقتصادية»؛ إذ تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة، مستويات عالية جداً من البطالة تبلغ 27.6 في المائة، فضلاً عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 في المائة، وفق أرقام رسمية واستطلاعات رأي. وخلص استطلاع حديث أجرته مؤسسة «أفروباروميتر» إلى أن البطالة هي مصدر القلق «الأكثر إلحاحاً» للمواطنين مقارنة بالقضايا الأخرى.

الأرقام السابقة تصطدم بوعود أعلنها بوكو برفع الراتب الأساسي وعلاوات الطلاب ومعاشات الشيخوخة، والاهتمام بشريحة الشباب، علماً بأن نحو 70 في المائة من سكان البلاد دون سن الـ35 سنة. ويتمثل التحدي الأكبر بتعهد الرئيس بـ«تنويع الاقتصاد» الذي يعتمد في 90 في المائة من صادراته على الماس. لذا؛ قال الباحث سيبودوبودو لموقع «أول أفريكا» شارحاً: «حكومة بوكو في حاجة إلى تحويل الاقتصاد بحيث يخلق فرص العمل، وهذا أمر صعب في خضم ركود سوق الماس، أكبر مصدر للدخل في البلاد». في المقابل، يرى المحلل السياسي ليسولي ماتشاشا أن الرئيس بوكو «شغوف بالمعرفة والتعليم، ولديه دائماً فهم جيد للشؤون والقضايا الداخلية الجارية في بوتسوانا... وكذلك فهو جاد في إصلاح البلاد».

... الدافع الحقوقي

وفي موازاة الهاجس الاقتصادي، يبدو أن الدافع الحقوقي سيشكل عنصراً مهماً في أجندة بوكو الرئاسية؛ إذ عبر في مقابلة مع «بي بي سي» عن عزمه منح إقامة مؤقَّتة وتصاريح عمل لآلاف المهاجرين الذين وصلوا خلال السنوات الأخيرة بشكل غير نظامي إلى البلاد من الجارة زيمبابوي. وفي معرض تبريره هذا القرار، أوضح بوكو: «إن المهاجرين يأتون من دون وثائق؛ ولذا فإنَّ حصولهم على الخدمات محدود، وما يفعلونه بعد ذلك هو العيش خارج القانون وارتكاب الجرائم». ثم تابع مستدركاً: «ما يجب علينا فعله هو تسوية أوضاعهم».

ترويض مديرية الاستخبارات

لكن، ربما تكون المهمة الأصعب للرئيس الجديد هي ترويض «مديرية الاستخبارات والأمن»، التي يرى البعض أنها تتعامل وكأنها «فوق القانون أو هي قانون في حد ذاتها».

وهنا يشير الباحث سيبودوبودو إلى تقارير تفيد بأن الاستخبارات عرقلت التحقيقات التي تجريها «مديرية مكافحة الفساد والجرائم الاقتصادية» في قضايا فساد، تتمثل في تربّح بعض أقارب الرئيس السابق من المناقصات الحكومية، وأنباء عن انخراط الجهاز الاستخباراتي في أدوار خارج نطاق صلاحياته، وتضارب عمله مع الشرطة ومديرية الفساد. «وبناءً على ذلك قد تبدو مهمة بوكو صعبة في إعادة ترتيب مؤسسات الدولية السيادية، علماً بأن (مديرية الاستخبارات والأمن) كانت مركز تناحر بين الرئيس السابق وسلفه إيان خاما، كما أن المؤسسات التي كان من المفترض أن توفر المساءلة، مثل (مديرية مكافحة الفساد) والسلطة القضائية، جرى إضعافها أو تعريضها للخطر في ظل صمت الرئيس السابق».أخيراً، من غير المستبعد أن يفرض سؤال محاكمات النظام السابق نفسه على أجندة أولويات الرئيس الجديد، وفق متابعين جيدي الاطلاع، مع الرئيس السابق الذي لم يتردد في الإقرار بهزيمته. بل، وأعلن، أثناء تسليم السلطة، مجدداً أن على حزبه «التعلم الآن كيف يكون أقلية معارضة».