ليلى وقيس: العشق على التخوم الفاصلة بين الجنون والموت

القصة التي تخطت المحلية لتصبح إحدى الأساطير المؤسسة للحب الإنساني

ليلى وقيس: العشق على التخوم الفاصلة بين الجنون والموت
TT

ليلى وقيس: العشق على التخوم الفاصلة بين الجنون والموت

ليلى وقيس: العشق على التخوم الفاصلة بين الجنون والموت

قلّ أن عرفت قصة من قصص الحب عند العرب ذلك القدر من الشيوع والانتشار الذي عرفته قصة ليلى بنت المهدي وقيس بن الملوّح. ومع أن القصة المذكورة كانت واحدة من قصص الثنائيات العاشقة التي ارتبطت أسماء أبطالها الذكور بحبيباتهم، كما هو حال عروة عفراء وجميل بثينة وقيس لبنى وكثيّر عزة، إلا أنها استطاعت أن تتعدى كونها جزءاً لا يتجزأ من الأساطير المؤسسة للذاكرة والوجدان عند العرب، لتصل تردداتها لمسامع الأمم الأخرى وتؤثر بشكل واضح في آدابها ومخيلة كتّابها وتصوراتهم عن الشرق.

ومع أن قصة قيس وليلى تتقاطع من حيث وقائعها وتفاصيلها مع القصص المختلفة لشعراء بني عذرة، فإن ما انفردت به عن سواها هو جنون بطلها العاشق واختلاط عقله، ثم التوحد والانفصال عن الواقع وملازمة الوحوش في البراري. وإذا كان شعراء بني عذرة أحيطوا بالكثير من الشكوك من قبل بعض الدارسين، وفي طليعتهم طه حسين؛ حيث ذهب إلى التشكيك في أن يكون قيس بن الملوح شخصاً تاريخياً وُجد وعرفه الناس واستمعوا إليه: «أزعم أن قيس بن الملوح هو شخص من الأشخاص الخياليين الذين تخترعهم الشعوب لتمثيل فكرة خاصة، أو شخص اخترعه نفر من الرواة ليلهو به الناس أو ليُرضوا به حاجة أدبية أو خلقية».

إلا أن شخصية المجنون المولود وفق معظم الروايات عام 645 م لا تعود لتاريخ بعيد ليسهل التشكيك بوجودها. وإذا كان بعض أخباره وأشعاره اختلط بأخبار الآخرين فهذا الاختلاط لا يمس وجوده بالذات، خصوصاً أن من نقلوا أخباره ووقائع حياته كانوا رواة موثوقين ومشهود لهم بسعة الاطلاع، من أمثال إسحاق الموصلي ومصعب الزبيري وأبو عمرو الشيباني والمدائني. في حين أن تداخل نصوصه مع نصوص أترابه من شعراء الحب ليس أمراً محصوراً بالشعر العذري وحده، بل ظاهرة تنسحب على نصوص الكثير من الشعراء الأقدمين، إما بسبب اختلاف أهواء الرواة ونقص مصداقيتهم، أو لتأثر بعض الشعراء بالبعض الآخر لحد السرقة والانتحال.

اللافت أن صاحب «حديث الأربعاء» استند فيما أبداه من شكوك بشأن المجنون لكتب التراث نفسها بخاصة ما ورد في كتاب «الأغاني» من شواهد ومرويات. فالأصفهاني يشير إلى أن غير واحد من بني عذرة ادعى عشقه لليلى، وبينهم قيس بن معاذ ومهدي بن الملوح، فيما يزعم ابن الكلبي أن الشعر المنسوب إلى قيس وضعه فتى من بني أمية كان يهوى ابنة عم له، وكان يكره أن يُظهر للناس ما بينه وبينها فوضع حديث المجنون. كما ينقل عن أحد رجال بني عامر قوله «أوَقد فرغنا من أشعار العقلاء حتى نروي أشعار المجانين؟»، وحيث يظهر هذا النوع من الحب بوصفه هشاشة و«تخنثاً» لا يليقان بقبيلته، يضيف الرجل مستنكراً: «بنو عامر أغلظ أكباداً من ذاك، إنما يكون هذا في اليمانية الضعاف قلوبها والسخيفة عقولها، وأما نزار فلا». وإذ يرى الأصمعي بأن ما أصاب قيساً هو نوع من اللوثة العقلية وليس جنوناً كاملاً، يروي أنه سأل أحدهم عن المجنون فأجابه: «لقد كان فينا جماعة رُموا بالجنون، فعن أيهم تسأل؟ فقلت عن الذي كان يشبب بليلى، فقال كلهم كان يشبب بليلى»، ثم أنشده أبياتاً متفرقة لكل واحد منهم. ويحرص الأصفهاني على نقل الحقيقة من زاويتها الأخرى، فينقل عن أبي ثمامة الجعدي قوله: «لا يُعرف فينا مجنون سوى قيس بن الملوح».

يتناول الكتاب قصة الحب الشهيرة بين قيس بن الملوّح وليلى بنت المهدي، ويفند الشكوك الكثيرة التي أحاطت بها من قبل بعض الدارسين، وفي طليعتهم عميد الأدب العربي طه حسين، حيث ذهب إلى التشكيك في وجوده، وزعم أنه شخص من الأشخاص الخياليين الذين تخترعهم الشعوب لتمثيل فكرة خاصة، وللهو أيضاً.

أما عن نشأة قيس وصباه، فإن المصادر التراثية لا تنقل عنه سوى ما اتصل بعلاقته بليلى، كما لو أن هذه الأخيرة هي التي منحته ولادته الحقيقية، فضلاً عن اسمه وشعره ومعنى وجوده. وتجمع هذه المصادر على أن قيساً بن الملوح وليلى بنت مهدي العامرية، وكنيتها أم مالك، كانا يرعيان في صغرهما مواشي ذويهما، إلى أن تمكن كل منهما من قلب صاحبه. وفي ذلك يقول قيس:

تعلقتُ ليلى وهي غرٌّ صغيرة

ولم يبدُ للأتراب من ثديها حجمُ

صغيرين نرعى البُهم يا ليت أننا

إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهمُ

وحيث لم تشر المصادر إلى علاقة المجنون بنساء سوى ليلى، يروي السراج في «مصارع العشاق» أن قيساً كان يرتبط بعلاقة غرامية مع امرأة من بني الحريش مات زوجها، وأنه كان يبعث بها إلى ليلى لتسهيل لقاءاته بها. وحين علم ذوو ليلى بما يحدث عمدوا لزجر المرأة ونهيها عما تقوم به، ثم شكوا قيساً إلى مروان بن الحكم الذي طلب من عامله إبلاغه بالكف عن رؤية الفتاة، مهدداً بهدر دمه ما لم يمتثل للأمر.

كما تتعدد الروايات حول جنون قيس واختلاط عقله، فيشير بعضها إلى أن ذلك الجنون لم يحدث دفعة واحدة، بل بدا مع حرمانه من رؤية ليلى، ثم تدرج صعوداً مع رفض والدها تزويجها منه بدعوى تشبيبه بها. وقيل إنها حين تقدم لخطبتها كلٌّ من قيس وورد العقيلي أجبرها أهلها على اختيار الأخير، قائلين: «والله لنمثلنّ بك إن لم تختاري ورداً». وتنسب إحدى الروايات إلى أبيه قوله إن ابنه كان أجمل الفتيان وأظرفهم وأرواهم لأشعار العرب، ولكن ما أصابه من أعطاب في جسده وعقله، كان بسبب إعراض ليلى عنه وإقبالها على سواه. وقيل إنه بعد اختلاطه «كان لا يلبس إلا خرقة، ولا يمشي إلا عارياً ويجمع العظام من حوله، حتى إذا ذُكرت ليلى أنشأ يحدّث عنها بكامل عقله». وحين أخذه أبوه إلى مكة لقضاء فريضة الحج، سمع صائحاً في الليل يصيح يا ليلى، فصرخ صرخة كادت تتلف معها نفسه، وأنشد قائلاً:

وداعٍ دعا إذ نحن بالخيفِ من مِنى

فهيّج أحزان الفؤاد وما يدري

دعا باسم ليلى غيرها فكأنما

أطار بليلى طائراً كان في صدري

ثم طلب أبوه إليه أن يتعلق بأستار الكعبة ويدعو الله طالباً شفاءه من بلائه، فلم يكن منه إلا أن هتف بحرقة: «اللهم زدني لليلى حباً وبها كلفاً ولا تُنسني ذكرها أبداً». وحين تفاقم اضطرابه بدأ يهيم في البرية فيأكل من نبات الأرض ويشرب من ينابيعها وطال شعر رأسه حتى ألفته الظباء والوحوش ولم تعد تنفر منه. وذكر هيثم بن عدي أن المجنون التقى صدفة بزوج ليلى، وإذ فاجأه بالسؤال:

بربّك هل ضممت إليك ليلى

قبيل الصبح أو قبّلت فاها

وهل رفّت عليك قرون ليلى

رفيف الأقحوانة في نداها؟

أجابه زوجها بالقول: «اللهم إذ حلّفتني فنعم»، فقبض المجنون بكلتا يديه قبضتين من الجمر وما فارقهما حتى سقط مغشياً عليه، وسقط الجمر مع لحم راحتيه وعض على شفته فقطعها. وقام زوج ليلى مغموماً بفعله متعجباً منه، ومع أن علاقة قيس بفتاته تكاد تخلو من الطابع الجسدي والشهواني، فقد حُكي أنه حين بلغه تعرّض ورد له بالسوء لم يتردد في أن يرسل له أبياتاً فضائحية تكشف عن علاقته الجسدية بزوجته ويقول فيها:

وأشهد عند الله أني رأيتها

وعشرون منها إصبعاً من ورائيا

أليس من البلوى التي لا شَوَى لها

بأن زُوّجت كلباً وما بُذلت ليا

وأغلب الظن أن المجنون قد نظم هذه الأبيات تنفيساً عن شعوره بالغيرة والغضب وإغاظة للزوج الشامت، وقد تكون منحولة من قبل الرواة.

أما فيما يخص أيامه الأخيرة، فرُوي أن المجنون كان يتردد إلى جبل يقال له التوباد؛ حيث كان هو وليلى يرعيان غنم أهلهما، وحين ذهب عقله بات يهيم على وجهه ويذرع القفار الشاسعة بين بلاد الشام وتخوم اليمن، متسائلاً عن موقع التوباد. فلما اهتدى إليه أنشد قائلاً:

وأجهشتُ للتوباد حين رأيته

وكبّر للرحمن حين رآني

وأذرفت دمع العين لما عرفته

ونادى بأعلى صوته فدعاني

فقلت له قد كان حولك جيرة

وعهدي بذاك الصرم منذ زمانِ

فقال مضوا واستودعوني بلادهم

ومن ذا الذي يبقى على الحدثانِ

وقد بلغ نفوره من البشر حد أنه لم يعد يأنس إلى أي منهم باستثناء من يردد على مسامعه اسم ليلى وأشعاره عنها. كما نُمي عنه أنه كان يدخل في بعض حالات الوجد القصوى في نوع من الحلول الصوفي فيظن نفسه ليلى وينادي على قيس. وقد ظل ذووه يجرون خلفه في القفار ويتركون له الطعام ثم يتوارون عن مدى ناظريه حتى وجدوه ميتاً في وادٍ كثير الحجارة: «لم تبق فتاة من بني جعدة وبني الحريش إلا وخرجت حاسرة، فما رؤي من باكين وباكيات على رجل ميت أكثر مما رؤي في ذلك اليوم».


مقالات ذات صلة

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

يوميات الشرق المستشار تركي آل الشيخ يتحدث خلال المؤتمر الصحافي للجائزة سبتمبر الماضي (هيئة الترفيه)

1967 متنافساً من 49 دولة على «القلم الذهبي»

انتهت المرحلة الأولى من عملية التحكيم للقائمة الطويلة التي شارك فيها 1967 كاتباً من 49 دولة حول العالم للفوز بـ«جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً».

عبد الهادي حبتور (الرياض)
يوميات الشرق د. سعد البازعي رئيس «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» (الشرق الأوسط)

البازعي: «جائزة القلم الذهبي» متفردة... وتربط بين الرواية والسينما

بدأت المرحلة الثانية لـ «جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً» لتحديد القائمة القصيرة بحلول 30 ديسمبر قبل إعلان الفائزين في فبراير.

عبد الهادي حبتور (الرياض)
ثقافة وفنون أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً

«الشرق الأوسط» (الأقصر (مصر))
ثقافة وفنون أليخاندرا بيثارنيك

أليخاندرا بيثارنيك... محو الحدود بين الحياة والقصيدة

يُقال إن أكتافيو باث طلب ذات مرة من أليخاندرا بيثارنيك أن تنشر بين مواطنيها الأرجنتينيين قصيدة له، كان قد كتبها بدافع من المجزرة التي ارتكبتها السلطات المكسيكية

ماغنوس وليام أولسون باسم المرعبي (ترجمة)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!