كيف تحطم جدار الرايخ الثاني في رأس بريشت قبل تحطيمه الجدار الرابع؟

اهتم منذ الصغر بالمواضيع الإنسانية والتسامح في مجتمع متزمت

كيف تحطم جدار الرايخ الثاني في رأس بريشت قبل تحطيمه الجدار الرابع؟
TT

كيف تحطم جدار الرايخ الثاني في رأس بريشت قبل تحطيمه الجدار الرابع؟

كيف تحطم جدار الرايخ الثاني في رأس بريشت قبل تحطيمه الجدار الرابع؟

غادر برتولد بريشت مسرح الحياة يوم 14 أغسطس (آب) 1956، لكن الحياة لم تغادر مسرحه، ولا تزال أعماله تعرض؛ برؤى جديدة دائماً، في مختلف بلدان العالم. لم يكن بريشت تقدمياً واشتراكياً منذ نعومة أظفاره، بل كان في شبابه قومياً متحمساً يروج لمبدأ القوة والحروب الألمانية، قبل أن تتفتح عيناه على طبيعة الحرب العالمية الأولى «اللصوصية».

من يقرأ كتابات برتولد بريشت المبكرة سيكتشف قرب آرائه آنذاك من القضايا الوطنية والحروب، ومن مواقف الأحزاب القومية الألمانية. هذا ما تكشف عنه كتاباته المبكرة التي سجلها في يومياته، وهذا يكشف لنا عن كيفية تحول الكاتب الصغير من قومي متحمس ومسيحي متزمت إلى يساري متحمس تجاوز الاشتراكية الديمقراطية خلال سنوات قليلة؛ إذ إنه من الواضح، وبريشت بعمر 15 سنة، نمو جدار قومي - ديني في رأسه بتأثير المدرسة والمجتمع الألماني القومي المحيط به. كان تأثره بالغاً بالرايخ الثاني و«جمهورية فايمار» التي تحولت إلى «الرايخ الألماني» لاحقاً. ناهيكم بتأثره بمن سبقوه من كتاب وموسيقيين قوميين رومانسيين من أمثال فريدريش نيتشه وريتشارد فاغنر وغيرهارد هاوبتمان.

فضلاً عن ذلك، تنير لنا اليوميات، التي بدأ كتابتها بعمر 15 سنة، موقف بريشت الصغير من الأديان والطائفية في مجتمع ديني متزمت كان سائداً في جنوب ألمانيا في العقدين الأولين من القرن العشرين. هذا النهج الذي تبلور تماماً في حياته وأدبه لاحقاً وحسم خياره لمصلحة الإنسان والفعل النشيط على عكس الدعوة للاعتماد على الرب في كل شيء.

كتب في «اليوميات10»، بعد أن تجاوز المراهقة، قبل نشر مسرحيته الأولى: «أي دين اتكالي هو المسيحية؟ يؤمن فيه الإنسان تماماً بانتظار العون من الرب. أنا أشك...». لم ترد كلمة «الرب» في يوميات بريشت المبكرة مطلقاً. وحينما كتب قصيدة «المسيح»، بعد سنوات من ذلك التاريخ، لم يكن المسيح فيها رباً ولا نبياً؛ وإنما كان إنساناً.

كان شاباً شغوفاً بشعب الألمان والقومية الألمانية. لنأخذ ما كتبه بريشت الصغير عن الحلف البروسي في مطلع القرن العشرين:

«الحلف البروسي. إنه الكرنفال. وقت الضحك والفرفشة. ولا بد للمرء حينها أن يتحدث عن الـ(ح ف) (الحلف البروسي suum cuique) مكتوبة على خوذات الجنود البروسيين. أي (كلٌ لوحده) خصوصاً للبروسيين. بضعة من (رؤوس الكرنب) والعسكريين المتبلدين اجتمعوا... بحدس يحسدون عليه... أخيراً، وتوصلوا بينهم، إذا جاز التعبير، إلى الموقف الصحيح الوحيد من الحرب البروسية - الفرنسية سنة 1870.

كان البروسيون بالضبط من كسب الحرب. اكتفى البافاريون وغيرهم من البرابرة بالتفرج. من دون شك! إذا كان هناك شيء كبير حصل فقد حققه البروسيون! وكان البروسيون بالطبع وراء (الواقعة) في الإلزاس. حينما وضع العسكريون المقاديم في تزابرن حداً للـ(واكيين) الوقحين».

تقع مدينة تزابرن في الإلزاس؛ حينما كانت تحت سيطرة القوات القيصرية الألمانية في نهاية سنة 1913. وقعت حالة تمرد شعبي قمعت بمجزرة من قبل الفيلق البروسي بعد أن أهان أحد الضباط أهالي الإلزاس بوصفهم بالـ«واكيين». و«الواكي» تستخدم في جنوب ألمانيا وشمال سويسرا بوصفها كلمة مهينة لأهالي الإلزاس. والـ«واكي» هو بهلول «كرنفال الأيام الثلاثة» في مناطق بافاريا وبادن وشمال سويسرا.

كتب بريشت في مرحلة نضوجه كثيراً من الأعمال التي يتخللها الغناء والرقص، مثل «أوروبا القروش الثلاثة» و«السيد بونتيلا وتابعه ماتي»، ولكن ماذا كان رأيه في ذلك وهو شاب يافع بعمر 15 سنة؟

تانغو

الألمان شعب غريب. ينهضون دائماً منذ القدم حينما تهدَّد حريتهم.

كان النصر حليفهم دائماً... ضد فرنسا، ضد إيطاليا.

للألمان أعظم العلماء والفلاسفة والشعراء الذين يمدونهم بالأعراف والعادات.

لكن شأن الألمان يقل أمام الآخرين حينما يتبنون عادات الأجانب... من فرنسا وإيطاليا.

يسمح الألمان بفرض الديانات القادمة من إيطاليا، والموضة القادمة من فرنسا، والتانغو من أميركا، عليهم. يصبح الرقص، ما لم يتحول إلى جمال فني، شيئاً لا قيمة له. بوابة أخلاقية خلفية للمجتمع.

يمكن للمرء أن يتصور نابليون، أو القيصر، أو المسيح يرقص. أو ليتصور أبسن يرقص التانغو.

لنتخلص من كل التصرفات الغريبة والعادات المستوردة، التي نبتلى بها لا أكثر... لنفكر بطريقة ألمانية:

Quod licet lovi non lcet bovi

أي:

«ما هو مسموح به لجيوبتر غير مسموح به للثيران»

وكتب في قصيدة «1813»

قبل مائة عام في الأرض الألمانية

ثارت عاصفة من الجبال إلى البحر،

أشعلت نار الحماس المتوهجة -

أثارت لعلعة أسلحة ثقيلة،

وانتفضت شعوب الألمان طويلاً،

في تلك الأزمنة الحديدية.

وفي قصيدة «1913» يكتب وهو بعمر 15 سنة:

والآن بعد 100 سنة، يقف مجدداً عالم

صلب ضدنا ونحن لا أحد لنا.

أن نكون أقوياء حقاً وموحدين

بين البلطيق والراين.

تطلعوا يا ألمان إلى الماضي!!

إلى تلك الأزمنة الحديدية.

ويدافع عن ريتشارد فاغنر ضد منتقديه وهو صغير:

اجتمعوا معاً وتحدثوا في الموسيقى. تعذر عليهم فهم كيف أن الناس قبل 70 سنة عجزوا عن فهم موسيقى فاغنر. مثل هذه الموسيقى الرائعة!! كيف سخروا وضحكوا من عبقري مثل فاغنر، ولاحقوه وحسبوه ممسوساً. فاغنر! عندما يفكر المرء في الحداثة، كل أولئك المجانين الفاشلين والمتعجرفين من أمثال شتراوس وبفيتزنر وريغر، لم يضحكوا منه!

في مدرية أوغسبورغ، في بافاريا، كانوا 7 شبان يافعين شكلوا حلقة ثقافية في إعدادية أوغسبورغ يناقشون الأعمال المقدمة ويقترحون تعديلها وتحسينها ويقدرون جدارتها بالنشر. يضطلع رئيس التحرير هنا، أي بريشت، بمهمة محرر أدبي متمرس، يناقش زملاءه حول النصوص ويعينهم في الصياغة... إلخ. هذا ما يقوله أيضاً في «اليوميات10»؛ إذ كان يساعد كل من لديه موهبة منهم، في الكتابة أو التأليف الموسيقي، كي يصبح شيئاً. ربما لهذا السبب كان ينشر بعض أعماله بأسمائهم.

يعتقد النقاد أن هذه الطريقة في النقاش في حلقة المحررين الصغار كانت البذرة التي أنطلق منها بريشت في أسلوب كسر الحاجز بين الممثل والمشاهد ومناقشة المسرحيات بعد عرضها مع الجمهور. كان جاداً وصادقاً في تقبل نقد زملائه الصغار في المدرسة كما كان جاداً وصادقاً في تقبل نقد أعماله وهو يبلغ العالمية.

لم يكتنز أدب بريشت بكل هذه الإنسانية والعمق الاجتماعي والرؤية والتسامح لولا اهتمامه منذ الصغر بهذا النوع من الإبداع. لنقل إن نهجه الأساسي في العمل والتأليف، الممتد بين هدم الجدار الرابع والتغريب وتفضيل المسرح الملحمي على المسرح «الاستعراضي» التقليدي، جاء بفضل مؤلفين عظام سبقوه مثل غيرهارد هاوبتمان (1862-1946) وغوتهولد إيفرايم ليسنغ (1729-1781) وهاينريش هاينه (1797-1865). هذا ما يستشفه القارئ حينما يدرس قصائد وقصص ومقالات بريشت الصغير في المدرسة ويفاجأ وهو يعرف عمق معارف واطلاعات الكاتب الناشئ. كانت بداياته مع «تنويرية ليسنغ» في مسرحيته الأولى والطبيعية والإنسانية الكبيرة، والاهتمام بالناس الفقراء والعاديين، في مسرحيات هاوبتمان، وكشف المستور عن الظاهر الذي ميّز أعمال هاينه.

كتب بريشت، هو بعمر 15 سنة، أكثر من قصيدة تمجد حروب التحرير والقادة الذين هزموا نابليون، ويطالب الألمان، بحس قومي لم نعرفه عنه في فترة نضوجه، باستعادة تاريخهم ونبذ الأفكار المستوردة من إيطاليا وفرنسا... إلخ. وهذه أفكار سرعان ما تخلى عنها بريشت بعد سنة مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، خصوصاً مع اطلاعه على الأدبيات الماركسية؛ إذ رفض بريشت الانخراط في الجيش مقاتلاً، وفضل المساهمة مسعفاً في أحد المستشفيات العسكرية. تعرض بعدها للسخرية من زملائه بسبب «سلميته» و«لا وطنيته» رغم أن فرتز جيهفاير سقط في الحرب لاحقاً، وفقد رودولف بريستل ساقه فيها. كتب أحد الأصدقاء في مذكراته أن بريستل، زميل بريشت في الصف، اتهم بريشت بالخيانة وبصق في وجهه. كتب بريشت إلى صديقه كاسبر نيهر في 8 يونيو (حزيران) 1917 يسخر من سذاجة صديقه الكاتب ماكس هوهنسترز الذي خاض الحرب في الخطوط الأمامية.

انغمس بريشت تماماً في قراءة الماركسية في سنة 1924، وكان قد صنع لنفسه اسماً؛ كاتباً ومخرجاً. وكتب في اليوميات أنه وجد في الماركسية النظرية التي تستجيب لتطلعاته نحو مجتمع لا طبقي عادل. قرأ بعدها جان بول سارتر وفالتر بنجامين وجورج لوكاتش... وغيرهم، لكنه بقي أميناً لماركس وتأثرت كتاباته المسرحية كثيراً بهذه النظرية.


مقالات ذات صلة

ألحان وألوان من الموسيقى السعودية تتألق في «طوكيو أوبرا سيتي»

يوميات الشرق عزفت "الأوركسترا السعودية" أروع الالحان الموسيقية في ليلة ختامية استثنائية كان الابداع عنوانها (واس)

ألحان وألوان من الموسيقى السعودية تتألق في «طوكيو أوبرا سيتي»

عزفت «الأوركسترا السعودية» أجمل الألحان الموسيقية في ليلة ختامية كان الإبداع عنوانها على مسرح «طوكيو أوبرا سيتي» بالعاصمة اليابانية بمشاركة 100 موسيقي ومؤدٍ.

«الشرق الأوسط» (طوكيو)
يوميات الشرق الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان وزير الثقافة السعودي مع توشيكو آبي وزيرة التعليم والثقافة والرياضة والعلوم والتقنية في اليابان (الشرق الأوسط)

الرياض وطوكيو نحو تعاون أعمق في مختلف المجالات الفنية والثقافية

تهدف «مذكرة التفاهم» إلى تعزيز التعاون والتبادل الثقافي بين الرياض وطوكيو واليابان في مختلف القطاعات الثقافية.

«الشرق الأوسط» (طوكيو)
المشرق العربي مبنى مقر «اليونيسكو» في باريس (رويترز)

«اليونيسكو» تعزز مستوى حماية 34 موقعاً تراثياً في لبنان

أعلنت «اليونيسكو» أنها منحت عشرات المواقع التراثية المهددة بالغارات الإسرائيلية في لبنان «حماية مؤقتة معززة»، لتوفر لها بذلك مستوى أعلى من الحماية القانونية.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
يوميات الشرق أعضاء اللجنة الوزارية أعربوا عن رغبتهم في تعزيز التعاون بما يعكس الهوية الثقافية والتاريخية الفريدة للمنطقة (واس)

التزام سعودي - فرنسي للارتقاء بالشراكة الثنائية بشأن «العلا»

أكد أعضاء اللجنة الوزارية السعودية - الفرنسية بشأن تطوير «العلا»، السبت، التزامهم بالعمل للارتقاء بالشراكة الثنائية إلى مستويات أعلى.

«الشرق الأوسط» (باريس)
شؤون إقليمية أعربت القنصلية الفرنسية في القدس في بيان عن «غضب» باريس من عمليات الهدم الإسرائيلية مشيرة إلى أنها دعمت المركز الثقافي المدمر (مقر جمعية البستان) «بأكثر من نصف مليون يورو» منذ عام 2019 (وفا)

فرنسا تطلب «تفسيراً» من السلطات الإسرائيلية بعد هدم مركز ثقافي في القدس

أكدت الخارجية الفرنسية، الجمعة، أن باريس طلبت «تفسيراً من السلطات الإسرائيلية»، بعد هدم مقر جمعية البستان الذي موّلته فرنسا في حي سلوان بالقدس الشرقية المحتلة.

«الشرق الأوسط» (باريس)

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.