رحلة عابرة للقارات في «أدب الشعوب الأصلية» تحت قهر الاستعمار الاستيطاني

هوغَن ورِدْكورن يسبقان غران وسكورسيزي إلى سرد معاناة «أمة أوْسيْج»

ديفيد غران
ديفيد غران
TT

رحلة عابرة للقارات في «أدب الشعوب الأصلية» تحت قهر الاستعمار الاستيطاني

ديفيد غران
ديفيد غران

من المقرر أن يكون 20 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي يوم بدء عرض فيلم المخرج مارتن سكورسيزي الجديد: «قتلة فلاور مون» في دور السينما، ثم يُعرض فيما بعد عبر منصة البث التدفقي «أبل تي في». لا أفشي سراً إن قلت إنني أنتظر عرض هذا الفيلم منذ نشر أول خبر عنه. لم يحدث، ولن يحدث، هذا الانتظار مع أي فيلم آخر، أو هكذا أظن راهناً.

تكمن أهمية هذا الخبر بالنسبة لي في أنه أعادني إلى أيام كانت فيها صحبتي المحببة تتألف من ن.سكوت مومادي، وليزلي مارمون سيلكو، وجيمس ويلتش، ولويز إردريك، وليندا هوغَن، وجانيت كامبل هيل، ولويس أوينز، وآخرين... روائيين وشعراء ونقاد من سكان أميركا الشمالية الأصليين (الهنود الأميركان). وتحت ضغط فضول لم يكن ممكناً مقاومته وإيقافه عند حده، طالت القائمة وتمددت؛ إذ قفزت عليها أسماء أدباء من سكان أستراليا الأصليين، وأسماء من أدباء جنوب أفريقيا السود.

غلاف (قتلة فلاور مون)

كانت، ببساطة، رحلة استمتاع واستكشاف، في تسعينات القرن الماضي، لملامح وتجليات التشابه الجمالي والفني والشكلي، وللتقاطعات الثيمية بين آداب الشعوب «الأصلية» الثلاثة، التي تعيش تحت ظروف الاستعمار الاستيطاني والداخلي في القارات الثلاث. كانت رحلة عابرة للقارات، وأجمل رحلة قراءة قمت بها خلال الدراسة وبعدها حتى هذه اللحظة. ثم تقلصت القائمة بعد تلك الرحلة، فعدت إلى الصحبة المحببة الأولى، التي تقلصت بدورها إلى أسماء قليلة وفق ما اقتضته متطلبات البحث.

كانت بين تلك الأسماء القليلة من «الهنود الأميركان» الشاعرة والروائية ليندا هوغَن (أمة تشيكاسو/ أوكلاهوما)، التي دشنت سيرتها الروائية بروايتها «روح خبيثة Mean Spirit) 1990)»... لم أعثر على ما يدل على أن مارتن سكورسيزي قرأ هذه الرواية قبل أو في أثناء التحضير والإعداد لكتابة سيناريو فيلمه المبني على كتاب «قتلة فلاور مون» لديفيد غران. والأخير لم يقرأها أيضاً. لكنهما؛ سكورسيزي وغران، قرآ رواية «غليون لفبراير - 2002» لتشارلز رِدْكورن (1936 - 2017)؛ «أمة أوسيْج - أوكلاهوما»؛ ففي أسفل غلاف الطبعة الجديدة للرواية (2023) عبارة تفيد بأن سكورسيزي كتب مقدمةً لهذه الطبعة، ويظهر في أعلى الغلاف تعليقٌ على الرواية لغران نفسه. وكانت قراءة غران لها قبل تأليفه «قتلة فلاور مون»؛ يُستدل على ذلك من ذكرها في ببليوغرافيا كتابه الصادر في 2017.

«روح خبيثة» و«غليون لفبراير» تسبقان كتاب غران وفيلم سكورسيزي إلى تصوير وسرد جرائم القتل والسلب والنصب والاحتيال التي تعرض لها أفراد من قبيلة «أوسيْج» في عشرينات القرن الماضي بعد اكتشاف النفط والغاز في «مقاطعة أوسيْج». إنهما روايتان تاريخيتان تسهمان، على نحو خاص، مع روايات أخرى لروائيين وروائيات من المواطنين الأصليين، في تأسيس خطاب تاريخي تخيلي، من أهدافه كشف الدمار الذي لحق بالثقافات والبنيات الاجتماعية للسكان الأصليين جراء الإدماج القسري للمواطنين في المجتمع الأميركي الأوروبي المهيمن تنفيذاً لما تعرف بـ«سياسة الإدماج (assimilation policy)» التي دشنت بقرار التخصيص عام 1887، الأساس الذي قامت عليه تلك السياسة.

غلاف (روح خبيثة)

«الإدماج» في جوهره عملية سيطرة عرقية، وهو تعبير في الأساس عن بنيتي شعور متعارضتين ومتناقضتين: الزنوفوبيا والزينوفيليا وفق أنجِليكا بامر «زينوفوبيا، زينوفيليا، ولا مكان للراحة، 45». بالنسبة إلى المصاب بـ«رهاب الغرباء (xenophobe)» يُشكل الآخر بسبب اختلافه وآخريته خطراً على الذات لا بدَّ من اجتثاثه. بينما من ناحية «مُحب الغرباء (xenophile)»، يكون الآخر مصدر جذب وفضول. الإدماج استراتيجية براغماتية فعّالة في قمع واحتضان الآخر المواطن، في الوقت نفسه، إلى ألا يبقى منه شيء كما تقول أنجِليكا بامر... امتصاص الآخر، المواطن الأصلي، وتذويبه في المجتمع الأبيض المهيمن هو هدف سياسة الإدماج.

في سياق آخر ذي صلةِ تَشَابهٍ ومحاكاةٍ لسياسة الحكومة الأميركية تجاه المواطنين الأصليين، يصف الكاتب والمواطن الأسترالي الأصلي ناروجِن مَدرورو «الإدماج» بأنه سياسة تقسيم، وتغريب لسكان أستراليا الأصليين عن مجتمعاتهم وإقحامهم في المجتمع الأوروبي، حيث يؤمل تغريب هؤلاء الأفراد تماماً عن أُسَرِهم ليصبحوا مثل الأوروبيين. كان الأطفال يُنْتَزَعُون بالقوة من أُسَرِهم ويُدْخَلُون في مؤسسات (Writing from the Fringe 13).

في 2010، قدمتُ أمسيةً شعريةً بعنوان «أصوات من الأجيال المسروقة» لعدد من الشعراء الأستراليين الأصليين في «منتدى الثلاثاء الثقافي»، ثم في نادي المنطقة الشرقية الأدبي. كان الشعراء كلهم من أولئك الأطفال الذين اخْتُطِفوا وانتُزعوا من أحضان أمهاتهم، وأصبحوا يُعْرَفُون بـ«الأجيال المسروقة». لم يكن الأسترالي الأوروبي في اختطافه أولئك الأطفال سوى مُقَلدٍ يسير على خطى الأميركي الأوروبي.

كانت سياسة الإدماج وسيلة «قتل الهندي في داخل الهندي»، أو إفقاده ذاكرته؛ كما يقول ألبير ميمي عن المُسْتعْمَر بشكل عام، بعد أن أصبح متعذراً تصفيته (الهندي) والقضاء عليه كليةً. وكان تنفيذ قرار التخصيص العام الطريق إلى تلك الغاية، إذ ينص على تقسيم «الأراضي الهندية» إلى قطع وتوزيعها عليهم، ويتاح ما يتبقى من مساحات للامتلاك من قبل البيض. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد فقط، إنما تعداه إلى توظيف التقسيم إسفيناً يُدَقُّ في بنية المجتمع «الهندي الأميركي» وذلك بالتفريق والتمييز بين السكان الأصليين وفق تقدير «كمية الدم الهندي (blood quantum)» في الشخص. فَخُصِّصت لذوي الدم «الهندي الأميركي» الخالص النقي (full bloods) أراض بمساحات صغيرة، وُضِعَتْ تحت وصاية الرجل الأبيض القانونية بحجة أن مُلاّكها لا يستطيعون استغلالها كما ينبغي لعدم كفاءتهم، مما يعني حرمانهم من حق السيطرة على أراضيهم. وعلى النقيض من ذلك، خُصصت لذوي «الدم المختلط (mixed bloods)» أراض بمساحات كبيرة وفي مواقع أفضل، إضافة إلى تمتعهم بحق السيطرة والتصرف في أراضيهم. ومُنِع التخصيص عن المولودين بعد 1907. لقد سُلِبوا أراضيهم بقرار رسمي.

روجت آلة الدعاية الرسمية سياسة الإدماج بأنها تهدف إلى «تحضير» السكان الأصليين بغرس قيم الملكية الخاصة والتنافس فيهم، بينما لم تكن في الواقع سوى تجزئة وتفتيتٍ للأراضي مُشاعةِ الملكية لغاية تسهيل وتسريع إزالة ثقافات، وتقويض بنيات المجتمعات الهندية الأميركية. سياسة الإدماج لم تكن سوى «صندوق باندورا» آخر جديد في العلاقات بين المُسْتَعْمِرِ والمُسْتَعْمَر، فُتح لتنطلق منه أنواع جديدة من الشرور.

بالنسبة إلى المصاب بـ«رهاب الغرباء» يُشكل الآخر بسبب اختلافه وآخريته خطراً على الذات لا بدَّ من اجتثاثه

تصوير هذه الشرور والتوثيق السردي التاريخي التخيلي للدمار الذي ألحقته بأمة أُوسيْج هما ما يلتقي به القارئ في روايتي هوغَن ورِدْكورن، كلُّ رواية بأسلوبها الخاص، ومن وجهة النظر التي اختارتها هوغن، أو ردكورن. ويلتقيان عند حقيقة أنهما فِعْلا تدخلٍ في التاريخ، ومحاولتان، من بين محاولات أخرى، يقوم بهما روائيون آخرون، لاسترداد صوت «الهندي الأميركي» وتأكيد فاعليته عبر طرح سرود مغايرة وبديلة لما حدث بين السكان الأصليين ومستعمريهم. إنها كتابات ثانية؛ مراجعات تسعى أيضاً إلى تقويض التمثيلات والصور السلبية لـ«الهندي الأميركي».

بعد اكتشاف النفط في الأراضي القاحلة في مقاطعة أُوسيْج، تدفق إليها سيل من رجال الأعمال والجشعين والباحثين عن الثراء. تعدد القادمون إلى «أمة أُوسيْج»، وتعددت أنواع وأشكال الجرائم التي أصبح «الأوسيجيون» هدفاً لها: القتل والاحتيال والنصب. كان القتل وسيلة لإزاحة الأثرياء البالغين لتؤول ثرواتهم إلى وَرَثَتِهم القُصَّر، الذين لا يتورع بعض المحامين البيض الأوصياء عليهم عن التورط أو التواطؤ مع من يسعى إلى سلبهم ثرواتهم. ومن لم يقتل أو يسرق وبطريقة قانونية، يخطط للحصول على نصيب من الثراء بالزواج من إحدى الأوسيجيات الثريات.

بغض النظر عن الاختلافات بين الروايتين، وأهمها الاختلاف في الخطاب السردي في كل منهما، تثير الروايتان إشكالية الفارق التقليدي بين الواقعي مجال التاريخ، والخيالي نطاق القص. يؤسس كلا الروائيين روايته على جرائم موثقة وأخرى متخيلة تحاكي الحقيقة، ويضفران في نسيج الخطاب خيوطاً من تاريخ أُسَرِهما، كما في حالة هوغَن، أو من التجربة الشخصية كما في حالة رِدْكورن بوصفه عضواً من قبيلة «أوسيْج».

* ناقد وكاتب سعودي


مقالات ذات صلة

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب
بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب
TT

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب
بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب

تفترض بالطبع عندما تقدم على شراء نسخة من مذكرات رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون الصادرة حديثاً فيما يقرب من 800 صفحة بأنّك حصلت لتوّك على سِفر ثمين من الحكمة السياسيّة وخبرة الإدارة في المنصب التنفيذي الأهم في إحدى دول العالم العظمى، لا سيما أن الرجل جاء إلى فضاء السلطة من الصحافة كاتباً ورئيس تحرير لمجلّة سبيكتاتور الأسبوعيّة العريقة، ومؤرخاً نشر عدّة كتب مهمة - بما فيها سيرة لملهمه وينستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية - قبل أن يُنتخب عمدة للعاصمة لندن ثم رئيساً للوزراء وزعيماً لحزب المحافظين. ولعل مما يرفع وتيرة التوقعات أيضاً أنّه كان في موقع التأثير واتخاذ القرار في مراحل مفصليّة في تاريخ بلاده المعاصر، سواء الأشهر الأخيرة من عصر الملكة الراحلة إليزابيث الثانية، أو خروج المملكة المتحدة من عضويّة الاتحاد الأوروبي، أو وباء «كوفيد 19». أو الحرب في أوكرانيا، ناهيك عن شهرته عبر العالم كنسخة من دونالد ترمب على الجهة الأخرى من المحيط الأطلسي، حتى أنّه ربما يكون السياسي البريطاني الوحيد الذي يعرفه سكان هذا العالم باسمه الأول (بوريس). لكن الحقيقة أن المذكرات ورغم تضمنها مقاطع مهمة هنا وهناك ولحظات صاعقة من الصراحة، فإنها في المحصلة أقرب إلى موجة جارفة من التبرير المقعّر، والإعجاب النرجسي بالذات، وتصفية الحسابات السياسيّة ولوم للجميع لأنهم أضاعوه، ويا ويلهم أي فتى أضاعوا؟

ومع ذلك، فإن «مطلق العنان» قراءة سهلة، يتم سردها بلغة قريبة من لغة الحوار اليومي أكثر منها لغة متعجرفة كما يتوقع من خريجي المدرسة النخبوية في إيتون وجامعة أكسفورد، مع كثير من علامات التعجب، والأصوات الشارعيّة المكتوبة بحروف كبيرة، والصفات المرصوفة كجمل طويلة، والإهانات الشخصيّة لمنافسيه، والأسئلة البلاغيّة عديمة الفائدة، فيما غلب عليها مزاج من السخريّة والهزل حتى في التعاطي مع القضايا التي يفترض أنّه جاد بشأنها.

هذا النّفس الذي اختاره جونسون لسرد مذكراته (والتي قد تدر عليه دخلاً سيتجاوز الثلاثة ملايين جنيه إسترليني وفق تقديرات صناعة النشر) أفقد الكتاب كثيراً من قيمته المتوقعة كوثيقة تاريخيّة، وبدت أجزاء كبيرة منه روايات ربما يتمنى كاتبها لو كانت الحقيقة، أو ربما أعتقد بالفعل أنها كانت الحقيقة كجزء مما يسميه جونسون نفسه التنافر المعرفي الذي يصيب الساسة المغمسين في وظيفتهم القياديّة لدرجة أنهم يصابون بالعمى عن المشاكل السياسية الهائلة التي تتراكم خارج مكاتبهم. هذا سوى بعض الأخطاء التفصيليّة في تسجيل الأحداث أيضاً والتي لا يفترض أن تمرّ على مؤرخ معتّق أو على ناشره المرموق (يقول مثلاً إن حكومة حزب العمال في أسكوتلندا أطلقت سراح الليبي المتهم بتفجيرات لوكربي، فيما الواقع أنها كانت حكومة الحزب القومي الأسكوتلندي).

من الناحية الإيجابيّة فإن جونسون يضمِّن كتابه تعليقات ذكيّة حول مسائل استراتيجيّة تبدو في ميزان اليوم أفضل من أدائه الفعلي رئيساً للوزراء كما مثلاً في رؤيته لأسباب اللامساواة الاقتصاديّة بين الأجيال، وتفسيره للانقسام الاقتصادي العميق بين العاصمة لندن الكبرى وبقيّة المملكة المتحدة، وتصوّراته حول رفع سويّة الأجزاء الأقل حظاً منها من خلال برامج تحديث البنية التحتية وتكنولوجيا الاتصال والاستفادة من أموال الخزينة العامّة لجذب استثمارات القطاع الخاص، وكذلك تحوّله من منكر لتحولات المناخ إلى منذر من مخاطرها ومفسّر للحجج الأخلاقيّة والاقتصاديّة الدّاعية إلى التصدي لجذورها من أجل مصلحة الأجيال المقبلة.

أثناء زيارة لمكتبه في عام 2017 طلب منه نتنياهو استخدام المرحاض بعد ذلك، وجدت أجهزة الأمن جهاز تنصت تم زرعه هناك

يفشل بوريس في تقديم مرافعة كانت متوقعة منه بشأن دوره فيما يعرف بـ«بريكست»، أو القرار بتخلي بريطانيا عن عضوية الاتحاد الأوروبيّ. وهو يعترف بأنّه كان مشتتاً وقتها بين اعتقاده بضرورة أن تتخلص بلاده من سلطة بروكسل عليها (مقر الاتحاد الأوروبي) من ناحية، وتفهمه لمشاعر كثيرين من عائلته وأصدقائه الذين أرادوا منه دعم حملة البقاء في النادي الأوروبيّ، ويقرّ بأنه في المساء الذي أعلن فيه قراره بدعم التوجه إلى الخروج من الاتحاد، كتب نسختين من المقال نفسه، واحدة (مع) وواحدة (ضد) كي يمكنه اختبار حنكة حججه، ليجد في النهاية أن حملة تأييد البقاء افتقدت إلى الحماس، ولم تمتلك أي رسالة إيجابيّة واضحة لتقولها. في المقابل، فإن جونسون يبدو في هذه المذكرات ليس مفتقراً فحسب لأي شعور بالمسؤولية عن الفوضى التي أعقبت التصويت على المغادرة، والإدارة السيئة للمفاوضات التي قادتها حكومات المحافظين وهو فيها مع الاتحاد الأوروبي، بل يبدو غاضباً حتى على مجرد اقتراح مساءلته من حيث المبدأ متسائلاً: «وماذا بحق الجحيم كان من المفترض علينا أن نفعل؟»، بينما يقفز للعب دور البطولة منفرداً فيما يتعلق برد حكومة المملكة المتحدة على حالات التسمم النووي التي نسبت لروسيا في سالزبوري عام 2018. في وقت صار فيه من المعلوم أن تيريزا ماي، رئيسة الوزراء حينها، هي من كانت وراء ذلك الموقف الحازم. ويخلص جونسون للقول إن حزب المحافظين كان سيفوز في انتخابات هذا العام لو بقي على رأس السلطة ولم يتعرّض للخيانة من رفاقه، وهي مسألة يكاد معظم المراقبين يتفقون على استحالتها بالنظر إلى تراكم سلسلة الفضائح وسوء الإدارة وهزالة الطرح الآيديولوجي لحكومات حزب المحافظين خلال الخمسة عشر عاماً الماضية على نحو تسبب للحزب النخبوي بأقسى هزيمة له في مجمل تاريخه العريق. في المذكرات يكتب جونسون عن زيارة قام بها بنيامين نتنياهو إلى مكتبه في عام 2017، طلب خلالها رئيس الوزراء الإسرائيلي استخدام المرحاض. بعد ذلك، وجدت أجهزة الأمن جهاز تنصت قد تم زرعه هناك. وقال جونسون إنه على وفاق مع نتنياهو وإن القراء يجب ألا يستخلصوا استنتاجات أوسع حول الزعيم الإسرائيلي من تلك الحكاية!