الهوية والثقافة ومناهضة «الكولونيالية» في البحرين طيلة 400 عام

الهوية والثقافة ومناهضة «الكولونيالية» في البحرين طيلة 400 عام
TT

الهوية والثقافة ومناهضة «الكولونيالية» في البحرين طيلة 400 عام

الهوية والثقافة ومناهضة «الكولونيالية» في البحرين طيلة 400 عام

صدر أخيراً عن «دار الساقي» في بيروت كتاب «أوراق من تاريخ البحرين» للكاتب والصحفي البحريني محمد عبد الله العلي، ويضم الكتاب مدخلاً وفصلين، موزعين على 420 صفحة.

يتحدث الكتاب في مدخله المعنون بـ«البحرين في النصف الأول من القرن العشرين» عن تسعة عناوين، تناولت البحرين خلال تلك الفترة من عدة نواحٍ: جغرافية، وديموغرافية، وحضرية، واقتصادية، ومعيشية، وصحية، ومناخية، وثقافية، ونفسية.

أما الفصل الأول من الكتاب، فقد خصصه المؤلف للحديث عن خطاب وبيانات الرسائل التي قام بجمعها وتحليلها، وهي تعود لبحرينيين تبادلوها ما بين عامي 1967 و1975، وهي التي استلَّ منها فكرة الكتاب.

وأفرد الفصل الثاني من الكتاب للحديث عن الدولة والمجتمع في البحرين خلال تلك الحقبة المهمة من تاريخ البحرين، متناولاً فيها عدة موضوعات، كالأواصر العائلية وشكل البيوت، وعلاقات الأصدقاء والجيرة والوعي الاجتماعي وطرق التواصل بين الناس، بالإضافة إلى موضوع الدِّين والتديُّن في المجتمع البحريني، وهوية الناس ومهنهم وكلفة حياتهم، وكيف كانوا يترفُّون ويُنسجون شبكاتهم الاجتماعية من خلال النوادي، خاتماً هذا الفصل بالحديث عن هيئة البحرينيين الجسمانية في تلك الفترة.

ويستعرض الكتاب أوضاع الكتابة واللغة في البحرين خلال فترة الاستعمار البرتغالي والوصاية الإنجليزية، وكيف حافظت البحرين على هويتها في تلك الفترات الصعبة من تاريخها، مستعرضاً عدداً من النصوص القانونية والسياسية، التي تبيِّن أصالة اللغة والقلم لدى البحرينيين في تلك الفترة.

ويراجع المؤلف في أحد العناوين الداخلية للكتاب المشهد الثقافي للبحرين، طيلة الأربعة قرون الماضية، ويصل إلى أنها استطاعت أن تُحافظ على هُوِيَّتها، على الرغم من الكولونيالية البرتغالية في القرنين السادس عشر والسابع عشر، ولاحقاً الإنجليزية في القرنين التاسع عشر والعشرين، ربما بتماسك أكثر قوة من ذلك الذي وُجِدَ لدى بعض طبقات المثقفين، في عدد من الدول التي تعرضت للاستعمار، سواء في الهند أو أفريقيا، وبشكل طوعي في أحيان كثيرة.

ثم يتناول موضوع الموافقة الطوعية أمام القوة الغالبة وخطابها، التي تنشأ عادة من تكريس اللغة المتوافقة مع ذلك الخطاب، فاللغة كما يقول: «تلعب دوراً مهيمناً في ممارسة السلطة آيديولوجيّاً، وبالتالي الخطاب الذي يعتبر أرضية يتم فيها تحقيق تلك الموافقة ومعانيها، وقيمها، وهويتها، وتكريس الآيديولوجيات، ووعيها اللغوي، وإنشاء علاقات قوة مؤسسية قادرة على إنتاج نفوذ اجتماعي لتتوارى لاحقاً اللغة الأصلية والوطنية التي كانت سائدة، وتنزوي إلى الظل».

ويعطي المؤلف أمثلة على ذلك بالنسبة لكثير من كُتَّاب وأدباء ما بعد الاستعمار من البلدان غير الناطقة بلغة مستعمريها أصلاً، إذ يتحدث كثير منهم عن تلك اللغة «كلغة ممارسة حيَّة بينما يتجاهلون لغتهم، وهو ما لم يحصل في البحرين على طول الهيمنة الاستعمارية».

ويشير إلى أن البحرينيين «حافظوا على وحدتهم الثقافية وإرثهم اللغوي، بعكس الشرخ الذي حصل في دول أخرى تعرضت للاستعمار كإندونيسيا، عندما استطاع الهولنديون أن يُوقِعوا بين الثقافة الجاوية والثقافة الإسلامية، لفصل النخب المحلية عن الجماعات الدِّينية التي كانت تعتبر تهديداً للاستعمار الغربي وللمجتمع الأرستقراطي الهولندي الجديد الناشئ هناك والمكوَّن من المستوطنين».

وبالتأكيد لم يكن للبحرينيين أن يُكرِّسوا حضورهم أمام المستعمر دون أن يواجهوا «الأسئلة المتعلقة بكيفية تخيُّل تراثهم وفهمه وتفسيره، وكيف يتم تطوير ومعرفة تلك الموروثات ووصفها واستهلاكها»، وبالتالي تجاوزهم الهيمنة الثقافية للمستعمِر «مُبقِين على خطابهم الثقافي وفق المنتظم العربي والإسلامي المتسالَم عليه، على الرغم من أن التحضُّر والتغريب المصاحب للغَلَبَة السياسية والحضارية يؤثران عادة في المجتمعات، حتى لو كانت المجموعات العرقية تشترك في أصل ثقافي واحد، متحصِّنين في ذلك بإرثٍ علميٍ بدأت بواكيره منذ القرون الأولى للإسلام».

ويؤكد المؤلف أن ذلك النجاح لم يكن ليتم لولا قدرة البحرينيين على إفشال مشروع فصل الثقافة عن السياسة الاستعمارية، لذلك استطاع المجتمع البحريني ولسنوات طويلة أنْ يقاوم المساعي الرامية إلى «تملُّكه ثقافيّاً من قِبَل المتغلِّبين، إبَّان فترة الاستعمار إلى ما قبل العولمة، وبالتالي سرقة ثقافته، سواء سرقة الفن أو التراث أو غيرها». ويسرد المؤلف نصوصاً بحرينية من القضاء والسياسة تعود لعام 1600م وما تلاه للتعبير عن أصالة اللغة العربية في البحرين وكأنهم يردُّون بالكتابة على مشروعه الثقافي، على الرغم من قسوة الظروف، وتحديداً مع البرتغاليين الذين كانوا يرغمون المناطق التي يستعمرونها على التماهي مع ثقافتهم وقوانينهم، كما وجدنا ذلك في المستعمرات البرتغالية في غُوَا ودامان. كما أن الوجود البرتغالي في جزر ماديرا والأزور والرأس الأخضر وساو تومي وبرينسيبي، وأفريقيا كأنغولا وموزمبيق، والهند وتيمور الشرقية وماكاو، وحتى الخليج العربي، قد جاء تحت عنوان ديني مسيحي كاثوليكي متعصب، وكانوا يدمجون بالأمة البرتغالية كل مَنْ أتقن اللغة البرتغالية واعتقد بالمسيحية الكاثوليكية، وأقرّ بالشرعية السياسية والعَلَم البرتغالي.



«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»
TT

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة أو أن تُحسب دراسته، على الرغم من التفصيل والإسهاب في مادة البحث، أحدَ الإسهامات في حقل النسوية والجندر، قدر ما يكشف فيها عن الآليات الآيديولوجية العامة المتحكمة في العالمَين القديم والجديد على حد سواء، أو كما تابع المؤلف عبر أبحاثه السابقة خلال أطروحته النظرية «العالم... الحيز الدائري» الذي يشتمل على أعراف وتقاليد وحقائق متواصلة منذ عصور قديمة وحديثة مشتركة ومتداخلة، وتأتي في عداد اليقين؛ لكنها لا تعدو في النهاية أوهاماً متنقلة من حقبة إلى أخرى، وقابلة للنبذ والنقض والتجدد ضمن حَيِّزَيها التاريخي والاجتماعي، من مرحلة الصيد إلى مرحلة الرعي، ومنهما إلى العصرَين الزراعي والصناعي؛ من الكهف إلى البيت، ومن القبيلة إلى الدولة، ومن الوحشية إلى البربرية، ومنهما إلى المجهول وغبار التاريخ.

ويشترك الكتاب، الصادر حديثاً عن دار «الياسمين» بالقاهرة، مع أصداء ما تطرحه الدراسات الحديثة في بناء السلام وحقوق الإنسان والعلوم الإنسانية المتجاورة التي تنشد قطيعة معرفية مع ثقافة العصور الحداثية السابقة، وتنشئ تصوراتها الجديدة في المعرفة.

لم يكن اختيار الباحث فالح مهدي إحدى الظواهر الإنسانية، وهي «المرأة»، ورصد أدوارها في وادي الرافدين ومصر وأفريقيا في العالمَين القديم والجديد، سوى تعبير عن استكمال وتعزيز أطروحته النظرية لما يمكن أن يسمَى «التنافذ الحقوقي والسياسي والقانوني والسكاني بين العصور»، وتتبع المعطيات العامة في تأسس النظم العائلية الأبوية، والأُمّوية أو الذرية، وما ينجم عن فضائها التاريخي من قرارات حاكمة لها طابع تواصلي بين السابق واللاحق من طرائق الأحياز المكانية والزمانية والإنسانية.

إن هذه الآليات تعمل، في ما يدرسه الكتاب، بوصفها موجِّهاً في مسيرة بشرية نحو المجهول، ومبتغى الباحث هو الكشف عن هذا المجهول عبر ما سماه «بين غبار التاريخ وصورة الحاضر المتقدم».

كان الباحث فالح مهدي معنياً بالدرجة الأساسية، عبر تناول مسهب لـ«المرأة» وعلاقات القوى المؤثرة في وجودها الإنساني عبر مسار التاريخ، بأن يؤكد أن كل ما ابتكره العالم من قيم وأعراف هو من صنع هيمنة واستقطاب الآليات الآيديولوجية، وما يعنيه بشكل مباشر أن نفهم ونفسر طبيعةَ وتَشكُّلَ هذه الآيديولوجيا تاريخياً ودورها التحويلي في جميع الظواهر؛ لأنها تعيد باستمرار بناء الحيز الدائري (مفهوم الباحث كما قلت في المقدمة) ومركزة السلطة وربطها بالأرباب لتتخذ طابعاً عمودياً، ويغدو معها العالم القديم مشتركاً ومتوافقاً مع الجديد.

إن مهدي يحاول أن يستقرئ صور «غبار التاريخ» كما يراها في مرحلتَي الصيد والرعي القديمتين، ويحللها تبعاً لمسارها في العهد الحداثي الزراعي الذي أنتج النظم العائلية، وبدورها أسفرت عن استقرار الدول والإمبراطوريات والعالم الجديد.

يرصد الكتاب عبر تناول مسهب «المرأة» وعلاقات القوى المؤثرة في وجودها الإنساني عبر مسار التاريخ في ظل استقطاب آيديولوجيات زائفة أثرت عليها بأشكال شتى

ويخلص إلى أن العصر الزراعي هو جوهر الوجود الإنساني، وأن «كل المعطيات العظيمة التي رسمت مسيرة الإنسان، من دين وفلسفة وعلوم وآداب وثقافة، كانت من نتاج هذا العصر»، ولكن هذا الجوهر الوجودي نفسه قد تضافر مع المرحلة السابقة في عملية بناء النظم العائلية، وأدى إليها بواسطة البيئة وعوامل الجغرافيا، بمعنى أن ما اضطلع به الإنسان من سعي نحو ارتقائه في مرحلتَي الصيد والرعي، آتى أكله في مرحلة الزراعة اللاحقة، ومن ثم ما استُنْبِتَ في الحيز الزراعي نضج في الحيز الصناعي بمسار جديد نحو حيز آخر.

ومن الحتم أن تضطلع المعطيات العظيمة التي أشار إليها المؤلف؛ من دين وفلسفة وعلوم وآداب زراعية؛ أي التي أنتجها العالم الزراعي، بدورها الآخر نحو المجهول وتكشف عن غبارها التاريخي في العصرَين الصناعي والإلكتروني.

إن «غبار التاريخ» يبحث عن جلاء «الحيز الدائري» في تقفي البؤس الأنثوي عبر العصور، سواء أكان، في بداية القرن العشرين، عن طريق سلوك المرأة العادية المسنّة التي قالت إنه «لا أحد يندم على إعطاء وتزويج المرأة بكلب»، أم كان لدى الباحثة المتعلمة التي تصدر كتاباً باللغة الإنجليزية وتؤكد فيه على نحو علمي، كما تعتقد، أن ختان الإناث «تأكيد على هويتهن».

وفي السياق نفسه، تتراسل دلالياً العلوم والفلسفات والكهنوت والقوانين في قاسم عضوي مشترك واحد للنظر في الظواهر الإنسانية؛ لأنها من آليات إنتاج العصر الزراعي؛ إذ تغدو الفرويدية جزءاً من المركزية الأبوية، والديكارتية غير منفصلة عن إقصاء الجسد عن الفكر، كما في الكهنوت والأرسطية في مدار التسلط والطغيان... وهي الغبار والرماد اللذان ينجليان بوصفهما صوراً مشتركة بين نظام العبودية والاسترقاق القديم، وتجدده على نحو «تَسْلِيع الإنسان» في العالم الرأسمالي الحديث.

إن مسار البؤس التاريخي للمرأة هو نتيجة مترتبة، وفقاً لهذا التواصل، على ما دقّ من الرماد التاريخي بين الثقافة والطبيعة، والمكتسب والمتوارث... حتى كان ما تؤكده الفلسفة في سياق التواصل مع العصر الزراعي، وتنفيه الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا في كشف صورة الغبار في غمار نهاية العصر الصناعي.