فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

مفهوم الدولة ومستجدات الظاهرة الراديكالية

ما يجمع التيارات الراديكالية والدول الثورية العداء التام والمطلق لمفهوم الدولة؛ ومن الخطر الدخول بتحالفاتٍ أو نسج صداقاتٍ مع جماعات وكيانات من أبرز أهدافها «إسقاط الدول»، يصحّ هذا بالتحديد على الحلف المشترك بين «القاعدة» و«داعش» والإخوان المسلمين بنظام ولاية الفقيه بإيران، المرشد وآيديولوجيته ونخبته يتحدّثون منذ الثورة الإيرانية عن إمكانيات سقوطٍ لدول من بينها السعودية، وبلغ بهم العمل أن اشتركوا مع جميع التيارات الثورية بما فيها بعض الأصوات الشيوعية المعادية (نفسياً) لدول الخليج، وهذه فئة وإن لفظها التاريخ غير أنها حاضرة وبخاصة بالإعلام الممانع وجلهم من العراق وسوريا ولبنان، لم يستوعبوا نهاية الآيديولوجيات التي سادت بالقرن العشرين، باستثناء الظاهرة الراديكالية التي وصفها المؤرخ هوبزباوم بأنها مستمرة بالغليان في القرن الحادي والعشرين، على عكس التيارات الشمولية الأخرى التي لفظت أنفاسها.
إن أكبر اهتزازٍ تبحث عنه الجماعات الراديكالية المغذاة والمحروسة من إيران أن تقوّض مفهوم الدولة، الأمر الذي جعل الصراع منذ تكوّن مفهوم الدولة فلسفياً بالقرن السابع عشر يكون بين الحرب الأهلية والعقد الاجتماعي، بين الدولة والميليشيا، بين الاستبداد الشمولي والفردانية الذاتية. ويمكننا العودة إلى كتابٍ مهم لأستاذ الفلسفة بول دوموشيل بعنوان: «التضحية غير المجدية - بحث في العنف السياسي» خصص الفصل الثاني عن الدولة والعنف والجماعات، وضرب باباً وسماه بـ«أصدقاء وأعداء» بدأه بالإشارة إلى أن: «مفهوم الدولة كما يكتب كارل شميت، يفترض مسبقاً مفهوم السياسة، أي أن ميدان السياسة أرحب مما نسميه الدولة التي كانت منذ عهد هوبز في بؤرة التفكير السياسي، والشأن السياسي ليس فقط أرحب من الدولة، وإنما سابق لها وأساسي أكثر منها، ذلك أنه يوضح شروط حدوثها واختفائها، وما الدولة كما نعرفها، على شكل محتكرة للعنف الشرعي (مشيراً لفيبر)، إلا تعبير ممكن عن الشأن السياسي، غير أن الصفة المميزة لكل علاقة سياسية بحسب رأي سميث هي ثنائية (أصدقاء - أعداء)».
الأهم بالنسبة لشميت تحديد معيارية الصداقة والعداء بين الدول، واضعاً عدو الداخل بمقارنة مع عدو الخارج، ذلك أن العدو الداخلي يجعل بقاء الدولة نفسه بخطر، وهذا يمكن تطبيق الجماعات الراديكالية عليه من إرهابية تحمل السلاح، أو آيديولوجية تنزع عن الدولة مشروعيتها سواء لدى الراديكالية السنية أو الشيعية على حدٍ سواء، ولدى الحاكم - كما يعبّر شميت - بمفهومه للسياسة التقرير لتحديد من هو العدو، وهو بهذا التحديد: «ينشئ ويعيد توطيد، النظام الذي بفضله يمكن تطبيق المعايير القانونية»، وذلك مثل وضع استراتيجية تسمية للعدو الداخلي بحيث يرسم القانون قواعد الانضباط بين الأفراد، وتُحرس المؤسسات من النزعات الفردية، والنزوات الانعزالية، والمحاولات الانفصالية، هنا تكون الدولة كاملة النمو، منتعشة، قادرة على صناعة السلام الداخلي، تلك خلاصة حديث شميت عن العدو الداخلي أردت به تطوير تأويل دوموشيل وتطبيقه على حاضرنا.
أما العدو الخارجي بالنسبة لشميت فإنه يتعلق: «بالوضع المعياري، حيث تتعايش في ذلك الوضع أكثرية الدول التي حلّ السلام فيها داخلياً، والتي تقصي الأعداء خارج حدودها، وحيث تتزامن علاقة العداء مع الانشقاق بين الدول، العدو الخارجي هو العدو المعياري... حيث يكون اللجوء إلى القوة كوسيلة لحل الخلافات ليس أمراً مستمراً ولكنه يبقى وارداً». وبآخر المطاف لا يفرّق بين خطر الداخلي والخارجي على الشعب، بل يقارن بينهما بمستوى الخطر على تقويض مؤسسات الدولة.
اختصاراً لمساراتٍ من العنف قد لا يفضّلها العدو الخارجي، يحدث أن تنسج شراكة بين العدوين، الداخلي مع الخارجي، لإحداث الفوضى وإسقاط الدولة، ونشر الرعب، وإدمان التوحش، يحدث ذلك تحديداً في تجربتنا بالسعودية، إذ تقوم دول «شقيقة» وأخرى «إقليمية» باستنبات ظواهر جديدة لغرض دك حصون السعودية الفولاذية، فعل ذلك نظام معادٍ ثيوقراطي مثل إيران منذ أواخر السبعينات، وحدث مع الشقيقة قطر منذ منتصف التسعينات الميلادية، إذ حصل الحلف التاريخي بينها وبين جماعة الإخوان المسلمين وتنظيم «القاعدة»، التحالف مع الإخوان أمره معروف. وأنشئت لغرض ضرب مؤسسات الدولة مشاريع مثل أكاديمية التغيير، وعشرات الصحف والمراكز والمجلات والجوائز التحفيزية التي تشترى بها عواطف جيل شاب.
في ذروة معركة السعودية مع تنظيم «القاعدة» أطلّ عبد الله النفيسي بحلقاتٍ كثيرة مع مذيع الجزيرة أحمد منصور، دافع فيها عن المنشقّين في لندن، وعن الإرهابيين المقبوض عليهم، ودافع فيها عن تنظيم «القاعدة» باعتباره تنظيماً يطبّق أحاديث النبي - حسب أهوائه - حول «إخراج المشركين من جزيرة العرب»، ولحسن الحظ كل هذه الحلقات متوفرة على النت ومثبتة بالصوت والصورة، الدفاع عن بن لادن وعن آيديولوجية التنظيم منذ حلقتهم عن «11 سبتمبر (أيلول)» وإلى الحلقة المخصصة عن «حرب السعودية على تنظيم (القاعدة)» كانوا مغتبطين يستصعبون نجاح الدولة بالقضاء على الإرهاب، هذا تحالف بين عداوتين، بين راعٍ خارجي، وعدوٍ داخلي، لكن عدوان تم سحقه سحقاً وإعادته ألف سنة إلى الوراء.
في آخر المطاف، فإن الصراع الآن بين الخير والشر، بين الدولة والميليشيا، والسعودية مع دول الاعتدال تقوم بحراسة مفهوم الدولة والدفاع عنه، في ظلّ انجراف مريب من قبل البعض نحو الميليشيات الإرهابية، وإن لهذا التصرّف عواقب وخيمة، ولتعلمنّ نبأه بعد حين.