عن دار «الشروق» رواية «مسك التل» تصدر قريباً للروائية المصرية سحر الموجي. هنا مقتطفات وافية من القسم الأول من الرواية:
لم يكن ليتصور أحد أن اليوم الذي بدأ لطيفاً وطيباً سينتهي بشيء أشبه بالكابوس. في الصباح سطعت شمس مبهجة معلنة نهاية شتاء طويل قضته نساء البيت بجانب المدفأة يتناولن أكواب الشوكولاته والقرفة الساخنة ويتبادلن أحاديث قصيرة مبتورة يهيمن عليها سأم البرد ولياليه الطويلة. أما في هذا الصباح فقد علت في المطبخ أصوات كلام وضحكات، وامتلأت سلة الطعام بما يكفي لقضاء يوم عند البحيرة. تحركت القبيلة الصغيرة والشمس تبارك خطواتها وتصحبها أسفل التلال وحتى الغابة.
جلست أمينة في موقعها المعتاد تحت شجرة أم الشعور واستغرقت في القراءة. لم تنتبه للوقت، لم تعرف إن كانت ساعات قد مرت أم دقائق مع اعتيادها على رحرحة الوقت في تلك البقعة المعزولة. لم تنتبه إلا مع قرصة الجوع في بطنها. رفعت رأسها عن الكتاب فأدركت خلو الشاطئ إلا منها، وهو شيء عادي، فما إن تصل النساء هنا حتى يتفرقن وتروح كل منهن لحال سبيلها، هناك من تذهب للسباحة ومن تُمضي الوقت مع كتاب مثل أمينة أو تهيم على وجهها في الغابة مثل كاثرين. فتحت أمينة سلة الطعام وأخرجت عنقود عنب ورغيف خبز محشوّا بالجبن القريش من صنع يديها. أكلت وركعت بالقرب من الماء، غسلت يديها وملأت كفيها وشربت، ثم عادت للكتاب.
* «أمينة»
اقتربت منها ليلى وأخبرتها أن النساء قررن العودة إلى البيت الآن، فالسماء تلبدت ببعض الغيوم وقد تمطر. تلفتت أمينة حولها فرأت حصان كاثرين مربوطاً في الشجرة جنب حصانها. قالت إنها ستنتظر عودة كاثرين ثم يلحقان بهن. عندما رحلت ليلى رفعت أمينة وجهها تبحث عن الشمس التي كانت منذ قليل تضوي فوق ماء البحيرة. امتلأت السماء بغيمات رمادية غامقة.
* أين أنتِ يا كاتي؟
عادت إلى كتابها وهي تتغاضى عن وخزات القلق الخفيفة، لكن المطر لم يمهلها. حدث كل شيء بسرعة، كأن بطن السماء الكبير المنتفخ قد انشقَّ فجأة فانهمرت أمطار عنيفة لم تأخذ في اعتبارها وجود امرأتين وحدهما تماماً في الغابة الكثيفة مترامية الأطراف. عتمت السماء قبل موعد قدوم الليل بساعات، لمعت بضربتين من البرق تلتهما قرقعة رعد مرعب، وضج المكان بقهقهات شيطانية لألف عفريت.
أغلقت أمينة الكتاب وخبأته في سلة الطعام خوفاً عليه من ماء المطر، واتجهت إلى الحصانين وهي تتلفت حولها بحثاً عن كاثرين. وكأن سيل المطر الثقيل لم يكن كفاية، بدأت السماء تهطل ندف ثلج علقت بفروع الأشجار وبذرات الهواء وتساقطت فوق سطح البحيرة الكبيرة. حدث كل شيء بسرعة، كأن الزمن قد أصابته لوثة فانطلق يعدو فوق ساعاته كالمجنون. بدا صفير الرياح القوية كصرخات متقطعة تداخلت مع دقات المطر فوق أرض الغابة وفوق فروع الأشجار التي انحنت مع هبات الهواء البارد في اتجاه الجنوب ثم عادت لانتصابها. أما أشجار البلوط الضخمة العتيقة، فقد نظرت إلى الرياح بلا مبالاة تشوبها مسحة من سخرية.
عندما ظهرت كاثرين، كانت الرياح قد قويت واشتدت. جرت نحو حصانها تحل وثاقه وأمسكت باللجام وتحركت نحو حصان أمينة. ستكون حماقة بالطبع لو تساءلت كاثرين - الخبيرة في تقلبات الطبيعة - عن هجمة تلك العاصفة وهم في أول الربيع. لقد مرَّ عليها مثل هذا وأكثر فلم تعد تندهش. لكن هذه العاصفة كانت مخادعة دون شك. شقَّ نور البرق بطن السماء وتلاه صوت رعد زلزل أرض الغابة والتلال المحيطة بها. هزَّ حصان كاثرين رأسه بعنف والتمعت عيناه وصهل عالياً، ومع ضربة الرعد التالية وقبل أن تدرك كاثرين ما يحدث، انفلت اللجام من يدها وركض الحصان إلى قلب الغابة ولحق به حصان أمينة جَزِعا.
تسمرت كاثرين وأمينة في مكانيهما.
* «براون.. برااااون!»
صرخت كاثرين تنادي الحصان، لكن صوتها ضاع في هبات الهواء. كان رأسها يغلي غضباً من الحصانين ومن غبائها الذي جعلها تفك وثاقيْهما بالتزامن مع صوت الرعد.
وقفتا للحظات تحت المطر. ربما كان لديهما أمل أن يعود أحد الحصانين، فواحد يكفي ليُقلَّهما إلى البيت. لكنها لم تكن إلا أمنية ساذجة. التصقت الملابس بهما بعد أن تشربت أطناناً من المياه، ثقلت وأخذت تقطر الفائض نحو الأرض، فلم يعد يبين في العتمة إلا ملامح الجسدين اللذين تحركا بصعوبة في الوحل الثقيل وبرك المياه. بدا جسد كاثرين صغيراً ضئيلاً كأن الريح بإمكانها أن تكسره نصفين. أما أمينة فقد كانت أطول وأكبر حجماً، إلا أنها عجوز كما تكشف خطواتها البطيئة.
بعد قليل كانت السماء قد أظلمت تماماً، كأن الوقت منتصف الليل، لكن كاثرين تعرف يقيناً أن الغروب لم يحن بعد. في الظلمة المطبقة تساءلت كاثرين إن كانت الليلة هي إحدى ليالي المحاق؛ فانقبض قلبها.
دقَّ قلب أمينة وهي تأخذ خطوات بطيئة حذرة ولسانها لا يتوقف عن التمتمة: سبحان من له الدوام! سبحان الله الواحد القهَّار!
أبطأت كاثرين من سرعتها كي تلحق بها أمينة بينما يشتد عويل الرياح ويستمر هطول المطر. من فوقهما شكلت الأشجار سقفاً منع ضوء البرق من الوصول وسمح لقطع من الثلج أن تنقر رأسيْهما. قررت كاثرين أن تواصل السير في نفس الاتجاه، إن انحراف واحد صغير عن المسار قد يؤدي إلى فقدانهما الطريق.
* الطريق!
لقد بدأت كاثرين تشك أنها تتبع اتجاه الشمال، لكنها أخفت قلقها.
في ثوانٍ كان الثلج قد افترش بقعاً كبيرة هشة فوق الأرض؛ وهو ما جعل خطوات أمينة تبطئ أكثر، وكذلك كاثرين. لو أن كاثرين استطاعت أن تصل إلى أطراف الغابة، فستتمكن من رؤية السماء والتأكد من موقعهما، لكن الأشجار تحجب الرؤية!
دق قلب أمينة وترددت في صدرها آهات مكتومة. رشق الألم نفسه كالخناجر المجنونة في ساقيها وظهرها، ودفعت بها الرياح بعنف إلى الوراء. انهارت على الأرض. نزلت كاثرين بجانبها وقالت: «أمينة.. لازم نتحرك، لو وقفنا هنتجمد...!».
«ارجعي أنتِ يا كاتي. ارجعي هاتي حصاناً وتعالي لي».
كم أنتِ ساذجة يا أمينة، لن تتحملي ساعة في هذا الطقس! فكرت كاثرين، هل تعود مع أمينة إلى البحيرة، فهناك يقف الكشك الخشبي لمعدات الصيد والذي سيكون ملجأ وملاذاً؟ لكن في الرجوع مخاطرة لا تقل جنوناً عن التقدم إلى الأمام. رفعت رأسها. لو أنها فقط تستطيع رؤية السماء!
أمسكت كاثرين بذراع أمينة وساعدتها على الوقوف. زحفت الاثنتان ببطء سلحفاة ذات أربع أرجل، وكادت أمينة أن تنكفئ على وجهها لولا ذراع كاثرين. التقطت أمينة أنفاسها بصعوبة. هل هذه هي آخرتك يا أمينة؛ الموت في هذا الخلاء؟
أستغفر الله العظيم. أشهد أن لا إله إلا...
ليس لدى أمينة اعتراض على مشيئة الله، لو أن هذا هو موعدها وأجلها فليكن. لله الأمر من قبل ومن بعد. لكن ربنا لا يمكن أن يرضى أن تموت هنا بلا قبر. لا يمكن أبداً!
7:49 دقيقة
«مسك التل»... نص ينتهي بما يشبه الكابوس
https://aawsat.com/home/article/938571/%C2%AB%D9%85%D8%B3%D9%83-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%84%C2%BB-%D9%86%D8%B5-%D9%8A%D9%86%D8%AA%D9%87%D9%8A-%D8%A8%D9%85%D8%A7-%D9%8A%D8%B4%D8%A8%D9%87-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%A7%D8%A8%D9%88%D8%B3
«مسك التل»... نص ينتهي بما يشبه الكابوس
«مسك التل»... نص ينتهي بما يشبه الكابوس
مواضيع
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة