إياد أبو شقرا
صحافي وباحث لبناني، تلقى تعليمه العالي في الجامعة الأميركية في بيروت (لبنان)، وجامعة لندن (بريطانيا). عمل مع «الشرق الأوسط» منذ أواخر عقد السبعينات وحتى اليوم، وتدرج في عدد من المواقع والمسؤوليات؛ بينها كبير المحررين، ومدير التحرير، ورئيس وحدة الأبحاث، وسكرتير هيئة التحرير.
TT

سلاح التدخل الخارجي في الانتخابات البريطانية

أثار كلام جيريمي كوربن، زعيم حزب العمال البريطاني، عن أن تدخّلات لندن في الأزمات الدولية تساهم بتعريضها لاعتداءات إرهابية مثل الاعتداء الدامي الذي وقع أخيراً في مدينة مانشستر، عاصفة من الانتقادات.
ما يُذكر أن تقارير صحافية ادعت أن العملية الإرهابية التي نفّذها البريطاني - الليبي الأصل سلمان العبيدي ارتبطت بالقصف الأميركي في سوريا. واللافت، تحديد القصف الأميركي - واستطرادا البريطاني، ضمن التحالف الدولي - على مناطق يحتلها تنظيم داعش في الداخل السوري.
وهنا، لا بد من التطرّق إلى بضع نواحٍ مثيرة تستوقف المحلّل الجاد، وهذا على الرغم من أن أشخاصاً مثل العبيدي، الذي قتل 22 من الأبرياء وجرح العشرات كانوا يحضرون حفلا غنائياً، ليس إلا أداة صمّاء مسلوبة الإرادة ومغسولة الدماغ.
الناحية الأولى، ما أوردته التقارير عن «مبرّرات» الجاني القصف الأميركي - وبالتالي، البريطاني - في سوريا مع أن عمليات التحالف تأخّرت كثيراً، إذ جاءت بعد سنوات من قصف النظام للمدنيين، ثم تدخّل الميليشيات الإيرانية لإكمال مهمة النظام، وفي المرحلة التالية دخول روسيا الحرب على الشعب السوري مباشرة. ومعلومٌ، أن القوات الجوية الروسية لعبت خلال السنوات الثلاث الأخيرة دورا مؤثرا على مجريات الحرب، وأمّنت الغطاء الجوي للتدمير الممنهج للمدن وعمليات التهجير الطائفي في البلاد. وفي المقابل، أحجمت واشنطن طيلة حكم إدارة باراك أوباما - الحريص على التفاهم مع إيران - عن استخدام القوة في سوريا، ما شجّع النظام ومن خلفه قادة طهران على تصعيد الحرب بكل أنواع الأسلحة بما فيها الأسلحة الكيماوية.
الناحية الثانية، أن مفهوم «التدخل» الخارجي بالمطلق لا يشكل تصوّرًا سياسيًا متكاملاً. إذ لا يمكن تأييد التدخل في شؤون بلد مستقر يستند إلى تفاهم سياسي واجتماعي ومؤسساتي عريض، في حين يفرض الواجب الأخلاقي والسياسي التدخل لمنع تفاقم حرب قمعية تقتل فيها طغمة حاكمة شعبها، كحال سوريا واليمن. كذلك، لا يجوز التدخل ضد حكم قائم بهدف تغييره من دون أن يكون هناك تصوّر لبديل يتمتع بالشرعية، ولذا، ما كان سبب الرفض الواسع عربياً ودولياً لغزو العراق عام 2003 «إعجاب» الرافضين بتجربة صدام حسين أو شخصه، بل لأنه لم يكن لدى واشنطن ولندن أي خطة لمنع الفراغ أو درء الفوضى... وبالنتيجة، سُلّم العراق تسليم اليد إلى إيران و«حرسها الثوري». وبعدها وصل هذا «الاختلال» في النظر إلى التدخل الخارجي الذروة في تعامل إدارة أوباما مع محنة سوريا. إذ كان أوباما ومساعدوه يبرّرون تقاعسهم عن إنقاذ الشعب السوري وردع قاتليه بتكرار الزعم «إن تجربة غزو العراق أثبتت أن التدخل الخارجي يضر أكثر مما يفيد». وهذا الموقف المعيب والهدّام، الذي أثمر تفاقم «الظاهرة الداعشية» عالمياً، هو الذي ينسج على منواله زعيم حزب العمال الحالي كوربن. كوربن زعم بالأمس أن «كثرة من الخبراء، منهم مسؤولو استخبارات وأمن محترفون يشيرون إلى وجود علاقات بين الحروب التي أيدتها حكومتنا أو خاضتها في دول أخرى ووجود الإرهاب هنا في بلدنا». إلا أن الزعيم العمالي، لا يريد الخوض في تفاصيل تلك الحروب، ولا هويات الجهات التي فجّرتها أو تستفيد منها، ولا الحقائق على الأرض التي تخطّط لفرضها. كوربن، الذي عارض غزو العراق يتجاهل حقيقة أن ذلك الغزو أدى إلى واقع إقليمي متفجر يفرض على من عارض ذلك الغزو إدراكه. لا بل يُفترض أن يُفهم دور التطرّف الإيراني في استثارة تطرّف مضاد، ومن ثم استغلال طهران هذا التطرّف المضاد لعقد صفقات دولية... قد تغذيه لسنوات وعقود.
الناحية الثالثة، عطفا على ما سبق، هي أن القيادة الحالية لحزب العمال، «المبدئية» في رفضها التدخلات الخارجية منذ زمن بعيد، غالبا ما تسقط لفرط «دوغماتيتها» ونظرتها التبسيطية للسياسة الدولية، وتبنيها عداءً طفولياً مزمناً لسياسات واشنطن، ضحية سهلة للشعارات البراقة، فتصدّق مزاعم «مناضلي» المنابر والإعلام. والواقع أن مواقف التيار اليساري في حزب العمال كانت دائما «مثالية» في مبدئيتها، لكنها في كثير من الأحيان كانت ساذجة أيضاً. فإبان المراحل الحرجة من الحرب الباردة، تبنّى التيار اليساري في حزب العمال، بعد سيطرته عليه عام 1980، برنامجا انتخابيا يساريا راديكاليا يحمل كل بصمات منظمة «حملة نزع السلاح النووي» (من جانب واحد) التي كان زعيم الحزب مايكل فوت من كبار مناصريها. وبجانب المضمون الراديكالي أيضا في الشق الاقتصادي، أدت هيمنة هذا التيار إلى انشقاق داخل الحزب أسفر عن تأسيس عدد من مناوئي اليسار حزبا جديدا هو الحزب الديمقراطي الاجتماعي عام 1981. ولاحقاً، التحق هؤلاء وأتباعهم بحزب الأحرار العريق ليؤسّسوا حزب الديمقراطيين الأحرار الحالي. وما يستحق الذكر هنا إلى أنه يوم إعلان العمال برنامجهم الانتخابي عام 1983، علّق السياسي العمالي الحكيم جيرالد كوفمان قائلا: «إنه أطول رسالة انتحار في التاريخ». وبالفعل، مُني العمال بهزيمة مريرة أمام المحافظين بقيادة مارغريت ثاتشر وفشلوا بالحصول على أكثر بقليل من 27.5 في المائة من الأصوات. ومن ثم، هيمن المحافظون على الحياة السياسية حتى عام 1997.
كوربن وبعض مناصريه اليوم كانوا شباناً في تلك الفترة، يعتبرون من الأبناء الروحيين لمايكل فوت والزعيم اليساري الآخر توني بن. ولكن، بينما نضجت تجربة عدد من زملائه من يسار الحزب، بمن فيهم الوزير السابق هيلاري بن - ابن توني بن - ظل كوربن على راديكاليته. وهو اليوم، عمليا متعاطف مع إيران ومع بشار الأسد، بحجة أنهما وفق قناعاته «يتصدّيان لنفوذ واشنطن وتآمرها». ولذا تعهد قبل أيام بتغيير السياسة الخارجية البريطانية إذا ما فاز حزبه في انتخابات الثامن من يونيو (حزيران) المقبل.
الناحية الرابعة والأخيرة، أن المجتمعات الغربية تمرّ اليوم بحقبة قلقة، شهدت سقوط كثير من المُسلّمات، ما أدى إلى مفاجآت انتخابية اعتراضية ضخمة. ولعله سيكون من المفارقات أن تفرض مشاكل الشرق الأوسط والعالم الإسلامي رسم معالم التعايش الحضاري وتعيد تعريف الديمقراطية في الغرب.