خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

تعددت الأدوار والاسم واحد

من الأمثال التي شاعت في التراث العربي ورويت في مواقف مختلفة قولهم: «كما جنت على نفسها براقش». كانت لي في طفولتي قطة سميتها براقش. خرجت ليلاً من البيت ودهستها سيارة وقتلتها. لم يتمالك والدي رحمه الله غير أن تمتم وقال: «جنت براقش على نفسها بخروجها ليلاً».
ولكن براقش كانت كلبة لبعض الأعراب. تعرضوا لغارة فهربوا وأخذوها معهم. ولكنها تضايقت من صعوبات الرحيل فانطلقت تنبح طوال الطريق مما لفت أسماع الغزاة فاتبعوهم حتى لحقوا بهم ونهبوهم وفتكوا بهم وقتلوا تلك الكلبة ليمنعوا نباحها. فقال أصحابها: «لقد جنت على نفسها براقش». ومن الطريف أن العرب أسندوا الحكاية لكلبة وليس لكلب، على اعتبار أن الأنثى فقط قليلة العقل وتسبب المشكلات!
هكذا جرت الحكاية، بيد أن حكاية أخرى نسبت الاسم لزوجة أحد السلاطين. واقتضى عليه الخروج في غزوة فاستخلف زوجته براقش لتحمل المسؤولية. وكان من عادتهم إضرام النار على رابية عند التعرض لخطر. وفي غياب زوجها، أرادت أن تلهو فأمرت النساء بإضرام النار على ذلك النحو. ففعلن، فرأى الجند الدخان المتصاعد فتركوا مهمتهم وأسرعوا لمقامهم وأدركوا اللعبة وضحكوا. ولكن السلطان اصطحب الجند بعيداً في غارة أخرى. وهجم أعداء على بيوتهم فأضرم الحرس النار لإعلام السلطان بالخطر، ولكنه تذكر ما فعلته براقش من قبل فلم يكترث واعتبرها لعبة أخرى من زوجته، فترك الحي في رحمة الغزاة وسبوا نساءهم بمن فيهن زوجته. فقيل: «هكذا جنت على نفسها براقش».
حكايات براقش كثيرة. قيل في حكاية أخرى إنها كانت زوجة للقمان بن عاد. وكان قومها لا يأكلون الإبل. وخرج لقمان مع صحبه إلى ديارهم فذبحوا الإبل لهم. فأكل من لحمها لقمان دون أن تخبره زوجته بحقيقة ذلك اللحم. فاستطيبه وأكثر من أكله. وراح يغزو تلك الديار مراراً ليسلب ويذبح إبلهم وينعم بلحومها. فقيل: «نعم. إن براقش هكذا جنت على أهلها».
الواقع أن كثيراً ما يوقع الإنسان نفسه بحماقاته ويندب على ذلك بعد فوات الأوان. تعددت حكايات وأقوال كثيرة شاعت بين كل الشعوب، بل وراح القوم يتغنون بها من باب الفكاهة والسخرية. فمن الأغاني الشهيرة للمطربة العراقية سليمة مراد، قولها:
أنا بيدي ذبحت إيدي
وسموني جريح الإيد.
وعلى غرار ذلك أنشد الشاعر العربي حمزة بن ليث، فقال:
لم تكن عن جناية لحقتني
لا يساري ولا يميني رمتني
بل جناها أخ علي كريم
وعلى أهلها براقش تجني
ولا شك أن مثل هذه الأقوال والأمثال قد شاعت بين الشعوب والملل الأخرى. وكان منها ما ردده الإنجليز في لغتهم الشعبية حين قالوا: «يجدع أنفه ليغيظ خصمه». والمقصود به أن الإنسان كثيراً ما يؤذي نفسه لمجرد إزعاج وتنغيص خصومه. ويعطينا الإرهابيون أمثلة كثيرة من هذا القبيل.