سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

اللورد والمتسول

كان برتراند راسل أشهر فلاسفة بريطانيا في القرن الماضي، وكان اليستير كوك أشهر مراسليها الإذاعيين. «ذات يوم شتائي» اتفقا على اللقاء في محطة بنسلفانيا في نيويورك، ليستقلا القطار إلى واشنطن. الموعد؟ السابعة صباحاً: «في يوم شتائي بارد». المكان؟ أمام مكتبة المحطة، لأن راسل يريد رؤية الجديد من الكتب.
وصل المراسل قبل الموعد، فوجد الفيلسوف في انتظاره. كانت المكتبة لا تزال مغلقة، لكن راسل كان يتأمل الكتب من خارج الزجاج في أي حال لإضاعة للوقت: «بدا متشوقاً لموعد فتح المكتبة مثل حيوان، في قفص حديقة الحيوان، ينتظر بتلهف موعد إسقاط الطعام في قفصه».
كان ذلك العام 1950 والفيلسوف والمراسل في ذروة شهرتهما. يصف المراسل مشهد الفيلسوف في المحطة: «حتى من مسافة قصيرة كان يمكن أن تظنه متسولاً. رجل صغير القامة، في معطف يبدو واسعاً جداً عليه (هل هو معطفه؟) وكان لونه باهتاً، ليس من الموضة، بل من العتق. كان يضع في فمه غليوناً، ويمشي ضاغطاً على ساقيه لكي يخفي وهنهما، ويحاول الإسراع لكي يخفي بطء العمر. ولو أنه في هوليوود بمعطفه البالي وقبعته المهترئة لاعتقلته الشرطة على الفور.
«وحتى هنا، في نيويورك، ما كان ليتمشى قليلاً على رصيف المحطة من دون أن يقترب منه شرطي قائلاً: هل أنت ذاهب إلى مكان ما، يا أخ؟». وكان المتسول سوف يجيب بكل صدق ودقة، أجل، أنا برتراند آرثر ويليام، اللورد الثالث في عائلة راسل، حالياً من سكان ريتشموند، ضاحية لندن، وقريباً سوف أكون في طريقي إلى استوكهولم، السويد، لكي أتسلم جائزة نوبل للآداب. أما الآن فإني ذاهب إلى واشنطن لزيارة ابنتي، كيت».
كان الفيلسوف متضايقاً وهو يصافح المراسل: «إذا كانوا يسيّرون القطارات في هذا الوقت المبكر من الصباح، فلماذا لا يطبّقون ذلك على مواعيد افتتاح المكتبات أيضا؟». ثم سُمعَ صوت الباب الحديدي يرتفع، وصاحب المكتبة يحمل مجموعة الـ«نيويورك تايمز» ويضعها في الداخل. وفيما انتظر راسل بتوتر أن يشرع الرجل في العمل، ظل هذا يشرب القهوة متثاقلاً، فما كان من راسل إلا أن قال: «بالله عليك يا رجل». فرفع هذا الباب تماماً وقال: «تفضل يا جدي، ماذا تريد». ولم يلتفت راسل إليه، ولا إلى الصحف، بل راح يستعرض عناوين الكتب المثيرة والروايات العلمية ومذكرات الفنانين. ثم اختار عدداً منها ودفع ثمنها وهو يقول: «متى تتعلم إنجلترا بيع الكتب بأسعار رخيصة».