إميل أمين
كاتب مصري
TT

ترمب... رؤية استراتيجية للمنطقة

مخطئ من يظن أن الدول العظمي تمضي في رؤاها الخارجية عبر سياسات عشوائية أو انتفائية، ذلك لاقتنائها الرجال والمرجعيات.
المتابع للرئيس ترمب وخطوط طول وعرض سياساته الخارجية في الشهرين الماضيين، يلحظ قدر التباين الواضح بين رؤاه الانتخابية، واتجاهاته وإدارته في الأيام المقبلة، فمن أميركا الانعزالية، المتمرسة وراء محيطين، إلى أميركا «القلعة فوق جبل»، وإن بسياسات واقعية، بعيدة عن أحلام الهيمنة الجوفاء للتيارات الليبرالية.
دلف ترمب إلى البيت الأبيض ومن حوله غلاة اليمين المحافظ الواقعي، من أمثال الجنرال مايكل فلاين، وستيف بانون، وسيباستيان غوركا، وقد رأينا لاحقاً الأول يجبر على الاستقالة، والثاني يعزل من مجلس الأمن القومي، فيما تنتظر الثالث الإقالة خلف أبواب البيت الأبيض.
ماذا يعني ذلك؟
مؤكد أن ترمب لم يكن ليتجاوز المؤسسة الأميركية «الإستبلشمنت»، الضاربة جذورها في التاريخ الأميركي.
رفع ترمب شعار «أميركا أولاً»، وهو شعار يتسق والتفكير البراغماتي الأميركي، غير أن الاختلاف كان حول الميكانيزمات الواجب السير على هديها، لا سيما أن استراتيجية بوش الابن أغرقت أميركا في أوحال العالم الخارجي، ولا استراتيجيات أوباما، قلصت من مساحات التفوق الأميركي حول العالم، لتملأ روسيا بعضه، وتحلم الصين بالبعض الآخر، فيما تسعى دول إقليمية مثل إيران لنصيب من الكعكة.
في عددها الصادر بتاريخ أغسطس (آب) 2016 كانت مجلة «فورين أفيرز» الأميركية، وعبر اثنين من أفضل العقول السياسية الأميركية؛ جون ميرشايمر، أستاذ العلوم السياسية بجامعة شيكاغو الأميركية، والمعروف بقراءته للسياسية الأميركية من جانبها الهجومي الكلاسيكي، وستيفن والت أستاذ الشؤون الدولية بمدرسة جون كيندي، ورائد تيار الواقعية الكلاسيكية في شقها الدفاعي، تشير إلى الطريق الجديد للتفوق الأميركي، عبر ما يسمي «التوازن خارج المجال»... ماذا يعني هذا المصطلح؟
الدراسة عميقة ومثيرة، وباختصار غير مخلٍّ، فإن مصطلح «التوازن خارج المجال» (Offshore Balancing) يعني أن واشنطن لا بد لها من أن تودع فكرة قدرتها على إعادة تشكيل العالم على نحو «يوتوبي»، كما جرى الحال في طرح «الفوضى الخلاقة» لكوندوليزا رايس وشركائها، الذي قاد الشرق الأوسط إلى جحيم مقيم، وفي الوقت ذاته لا يمكنها أن تقف ساكنة، مكتفية بالقيادة من خلف الكواليس، كما فضل أوباما.
الدراسة التي يقدمها المفكران الأميركيان الكبيران، تذهب في طريق ثالث، وهو أن واشنطن يتحتم عليها تجاهل فكرة تشكيل بقية المجتمعات الكونية، وأن تركز على ما يهمها بالفعل... ما الذي يهم واشنطن بالدرجة الأولى في حاضرات أيامنا؟
قطعاً الحفاظ على الوجود الاستراتيجي التاريخي في أوروبا، لا سيما القطاع الذي كان معروفاً باسم «أوروبا الغربية» ثم شمال شرقي آسيا، وفيه روسيا الوثابة من جهة، والصين المتنمرة من جهة ثانية، وجل المراد الأميركي هو وقف التمدد الروسي وقطع التدحرج الصيني حول العالم.
المفاجأة في الدراسة التي نحن بصددها هي أن منطقة الخليج العربي تبقى القطاع الثالث الذي لا يزال يهم صُنّاع الأفكار في الولايات المتحدة، ذلك أنه، وإن كانت المنطقتان الأوليان بمثابة المراكز الأساسية للقوة الصناعية والأماكن التي تتوافد عليها بقية القوى العالمية، فإن المنطقة الثالثة تنتج نحو 30 في المائة من النفط العالمي.
قبل بضعة أيام بدأت الأخبار المتواترة من واشنطن تتحدث عن الزيارة المقبلة للرئيس ترمب للشرق الأوسط، التي سيستهلها بزيارة المملكة العربية السعودية، وتساؤل الجميع عن المبنى والمعنى، بل المغزى مِن ورائها؟
هنا دعونا نذكر بقراءات كثيرة علت بها الأصوات قبل عدة أعوام، تنذر وتحذر من أن الشرق الأوسط فقط أهميته في الاستراتيجية بالنسبة لواشنطن، غير أن الواقع يبطل مثل هذه الصيحات الأبوكريفية المنحولة.
تتوقف دراسة «فورين أفيرز»، عند المشهد الدولي، الذي بات سباقاً على القطبية العالمية بين موسكو وبكين من جهة، وواشنطن من جهة ثانية، وتؤكد سطور الوثيقة أن للولايات المتحدة مصلحة في عرقلة صعود مهيمن يمكنه أن يتدخل ليحول دون تدفق النفط من المنطقة، وبالتالي إلحاق الضرر بالاقتصاد العالمي عامة، وتهديد الازدهار الأميركي خاصة.
ترتبط الاستراتيجية الأميركية لمكافحة الإرهاب التي ستصدر في واشنطن بعد ثلاثة أشهر، ارتباطاً جذرياً بنظرية «التوازن خارج المجال»، بل لا نغالي إن قلنا إنها البيئة الفكرية الحاضنة لها، فواشنطن، بحسب ميرشايمر ووالت، عليها أن تحمل المسؤولية للقوى الإقليمية، ما دام لدى هذه القوى مصلحة عظمى في الحيلولة دون أن تسيطر أي دولة عليها.
استراتيجية مكافحة الإرهاب، التي صدر عنها ملخص في 11 صفحة قبل أيام، تهتم بأن تبقى واشنطن بعيدة قدر الإمكان عن الانزلاق في مغامرات عسكرية قائمة أو مقبلة، لكن ذلك لا يعني عدم جهوزية واشنطن لحروب جديدة، عبر شراكات إقليمية سواء في الشرق الأوسط، أو غيره من بقاع وأصقاع العالم.
يسعى ترمب وإدارته لبلورة تحالفات جديدة، بعضها عسكري، مثل فكرة «الناتو العربي»، وحكماً سوف تساند مثل هذه الأحلاف في مواجهاتها العسكرية إن اقتضى الأمر، مما يعني أن فجراً جديداً للعلاقات الأميركية - الشرق أوسطية، والأميركية - العربية، سوف ينبلج في الأسابيع القليلة المقبلة.
السؤال الذي يدعو للأسى: «أين رجالات الفكر العربي، ومرجعيات البحث الأكاديمي والاستشرافي في عوالمنا وعواصمنا من التجرؤ على تقديم مثل هذه الدراسات والقراءات لزخم صاحب القرار العربي في الحال المأزوم والمستقبل الذي يراه البعض مشؤوماً؟».