أشخاص طويلة، مبالغ في طولها ونحيفة جدا، بعضها يتخذ وضع المشي وآخر يقف بقامة طويلة وحيدة، منها من اجتمع مع آخرين ومنها ما ظل واقفا وحيدا. تلك منحوتات الفنان السويسري ألبرتو جياكوميتي والتي تعرض في معرض ضخم لأعماله في متحف «تيت مودرن» بلندن انطلق أول من أمس ويستمر حتى شهر سبتمبر (أيلول) القادم. يضم المعرض مجموعة ضخمة من القطع المختلفة التي تسرد تاريخ الفنان منذ العشرينات من القرن الماضي وحتى الستينات وتتوزع على ثماني غرف، كل غرفة تبدأ باقتباس من الفنان يلخص فلسفته وتطور أسلوبه الفني.
في الغرفة الأولى والتي خصصت لعدد ضخم من المنحوتات تمثل رؤوس أشخاص مختلفين، بعضها يمثل شخصيات قريبة من الفنان مثل شقيقه دييغو وزوجته أنيت وبعض أصدقائه مثل الكاتبة والمفكرة الفرنسية سيمون دو بوفوار، بعضهم جلس أمامه أثناء عمله وفي الحالات الأخرى نحت جياكوميتي رؤوسهم معتمدا على ذاكرته. ليس صدفة أن تنال الرأس اهتمام الفنان فهو مهتم بالوجه البشري وتعبيراته وخاصة بالعين، وهو اهتمام أكده الفنان عندما قال: «عندما ننظر للوجه البشري، يتجه اهتمامنا دائما للعيون، هناك شيء خاص يميزها».
الغرفة الثانية تأخذنا لاتجاه مختلف، فليس هناك أشكال محددة للمنحوتات، إنها تلك الفترة في عشرينات القرن الماضي التي اتجه فيها الفنان للأسلوب التجريدي، وصف الفنان أعمال هذه المرحلة بقوله: «هي أعمال ممتعة قضيت وقتا جميلا في تكوينها. لا أعرف ما العمل التالي ولا كيف سيكون وهذا إحساس جميل».
اتجه جياكوميتي لمجال التصاميم التزينية «الديكور» والقطع التي تخاطب الحاجة لتزيين المنزل، ليكسب المال، وفي خزانه ضخمة بالقاعة الثالثة من المعرض نجد بعض تلك القطع، مثال مشجب صغير يحمل رأسا منحوتا من الخشب، أو قاعدة مصباح وتمثالين من البرونز يمثلان أما وابنها، وهي قطع لاقت نجاحا تجاريا وفنيا أيضا واحتلت صفحات مجلات الأناقة والديكور أمثال «فوغ» و«هاربرز بازار».
في الأربعينات عاد جياكوميتي إلى جنيف وظل هناك حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وفي تلك الفترة تحول الفنان لأساليب فنية جديدة وبدأ في إنتاج المنحوتات المصغرة، ويضم المعرض مجموعة منها، تلفت الأنظار بدقة حجمها ومدى التأثير الذي تتركه لدى الزائر. يمكننا تمييز الأشخاص الواقفين أو التماثيل النصفية التي لا تتجاوز النصف سنتيمتر في حجمها. وهنا نرى مقولة للفنان حول ذلك التوجه: «عندما تصنع قطعا لا يتجاوز طولها نصف سنتيمتر فإنك ستصل لإحساس عميق بالكون قد لا تصل إليه إذا حاولت رسم السماء». تبدو تلك الشخوص الدقيقة وكأنها محاولة لرؤية أشخاص بعيدين وهو ما ألهم الفنان «أردت أن أصنع تمثالا لامرأة يجسد صورتها كما رأيتها من مسافة بعيدة».
غير أن المنحوتات الصغيرة سرعان ما تترك مكانها للقطع التي أصبحت تميز أعمال جياكوميتي وهي الأشخاص المطولة والنحيفة والتي تعكس اهتمامه بنقل مشاعر الوحدة والبحث عن الذات واليأس التي سادت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. ويضم المعرض أشهر تلك التماثيل مثل «الرجل الذي يسقط» و«الرجل السائر» و«رجل يشير بيده» إلى جانب عدد من اللوحات المرسومة التي تمثل شخوصه جالسين وكأنهم التماثيل المطولة قد انتقلت إلى رقعة الرسم تحملق بعيون مفتوحة على فراغ وإحباط.
يتطرق المعرض أيضا إلى تأثير الفن الأفريقي والفن المصري القديم على منحوتات جياكوميتي ويعرض ذلك عبر قطع فائقة الإبداع مثل «العربة» و«القناع». ويبقى للمعرض أنه أوضح هذا الجانب من الفنان الذي خلط التقاليد الفنية المختلفة ما بين القديم والحديث وكسر كل الحواجز بينها كما أزالها من بين الفن الرفيع والفن الزخرفي.
المعرض يعد الأكبر للفنان في بريطانيا ويقدم للجمهور ألبرتو جياكوميتي النحات والرسام ويضعه في مصاف نحاتين ورسامين آخرين من القرن العشرين مثل بيكاسو وديغا وماتيس. ومن خلال 250 عملا هناك أعمال لم تظهر للجمهور كثيرا وغيرها لم تعرض من قبل كاللوحات والتماثيل المصنوعة من الجص، يستعرض المعرض تطور ألبرتو جياكوميتي عبر خمسة عقود.
* معرض ألبرتو جياكوميتي في متحف تيت مودرن لندن من 9 مايو وحتى 10 سبتمبر