إميل أمين
كاتب مصري
TT

حديث لا تنقصه الصراحة

لعل الحوار الشيّق الذي أجراه الزميل الأستاذ داود الشريان، قبل عدة أيام، مع ولي ولي العهدالسعودي الأمير محمد بن سلمان، قد أكد لكل من شاهده أو قرأه أنه أمام «رجل دولة» Un homme d›État من طراز فريد، يجمع بين الرؤية الواضحة والتفكير السياسي العميق المصحوب بالمسحة الفلسفية التي تضع الحدود وتقيم السدود بين ما هو مطلق وما هو نسبي، لفك الاشتباك بين خيوط وخطوط السياسي والديني.
لا يتسع المسطح لمناقشة كل ما ورد بالحوار الثري، رغم قصره الزمني، غير أن الرؤية الخارجية، سواء الإقليمية أو الدولية، للأمير محمد تستوقف الباحث المحقق والمدقق.
خذ لديك على سبيل المثال، كيفية تعاطي ولي ولي العهد مع المشهد الإيراني، وقد أجاد جداً في وصف البناء التكتوني لإيران، وبين أنه آيديولوجي، عقائدي، ما يجعل محاولات التقارب أو المواءمة مع نظام الملالي غير ممكنة، ذلك أن إيران تتبنى نهجاً مطلقاً، يسعى لسيادة أفكار عقائدية ونشرها في العالم الإسلامي.
كارثة المطلقات أنها لا تتعدد، ولهذا لا تقبل فلسفة الشراكات التي تعرفها حياة السياسة وأفعال السياسيين، كما في الأمور النسبية الأخرى كالاقتصاد مثلاً. ومن هنا، فإن إيران تمضي قدماً في برنامج الهيمنة عبر فلسفة تسويف الوقت، واللعب على المتناقضات، ما يجعل الخليج العربي بنوع خاص غير مستقر في الحال أو الاستقبال.
يؤمن الأمير محمد بقاعدة استراتيجية فكرية وحربية في الوقت ذاته، أشار إليها المعلم والمفكر أوغسطينوس، في مؤلفه الأشهر «مدينة الله»: Si vis pacem، para bellum، أي «إن أردت السلم، فاستعد للحرب». ومن هنا، يفهم معنى الكلام عن نقل المعركة إلى إيران، وعدم انتظار لهيب النار، وهنا فالأمر من قبيل البراغماتية المستنيرة التي تسعى للدفاع عن النفس، في مواجهة أطماع المشروع الإيراني، وأذنابه التي يريد من خلالها السطوة على العواصم العربية.
رؤى الأمير محمد بالنسبة لليمن لا تنقصها الموضوعية أو المصداقية، ذلك أن الحرب، وإن كانت خياراً سيئاً، فإنها تظل أحد أشكال العمل السياسي والدبلوماسي، كما يقول الجنرال والمؤرخ البروسي الكبير كارل فون كلاوزفيتز، ذلك أنه لم يكن من المعقول أو المقبول انتظار إيران وهي تبسط سيطرتها على الأراضي اليمنية، ولهذا فإن الحرب هناك كانت نوعاً من الدفاع الاستباقي، إن جاز التعبير، كما أن إنهاء المشهد ولم يتبق للمخلوع صالح وجماعة الحوثي سوى 15 في المائة من الأرض تقريباً، يمكن أن تجري به المقادير في بضعة أيام، غير أن الخوف على حياة جنود قوات التحالف، وكذلك حياة الآلاف من أبناء الشعب اليمني، يمنع من الإقدام على تلك المغامرة غير مأمونة العواقب، ولذا يفضل الانتظار حتى لو طال أمد المعركة قليلاً، عوضاً عن خسائر بشرية لا يرغب فيها أحد، أمس، ولا اليوم، ولا غداً.
الملف المصري لم يكن ليغيب عن أعين الأمير محمد. وللحق، فإن القاهرة والرياض عاصمتان تكادان تكونا عمودي الخيمة العربية الوحيدين الباقيين في هذه الأيام المضطربة، وأي اهتزاز لأساساتهما يمكن أن ينعكس بشكل كارثي على ما تبقى من العرب والعروبة.
لم يغب قط عن أعين ولي العهد أن هناك فعلة إثم يعيشون في تخوم للشر، أشار إليهم بوضوح، إن كانوا على جانب الإخوان المسلمين، أو على الجانب الآخر للتيارات الفكرية التابعة لإيران، وكلاهما لا يريد للمودة أن تتصل بين المصريين والسعوديين.
لغة الأمير محمد، في وصف الحالة المصرية - السعودية، تليق فعلاً برجل دولة من الطراز الكلاسيكي المحنك... لغة تصالحية تسامحية، توحد ولا تشتت، تقرب ولا تفرق، وهي المدخل الأول لقلوب العالم العربي بأكمله، لا سيما أن الخلافات العربية - العربية طوال العقود الماضية لم تولد إلا الانتكاسات، ولم تترك في العقل والقلب سوى الندوب التي يصعب شفاؤها، رغم مرور الزمن.
ما كان من الممكن في حديث ولي ولي العهد الأمير محمد الصمت تجاه ما يحدث في سوريا، لا سيما بعد أن اختلط الحابل بالنابل، وأضحت سوريا ساحة أممية خلفية، تعيد التذكير بقصة «لعبة الأمم» لمايلز كوبلاند، وكأن التاريخ يكرر نفسه من جديد.
تحليل الأمير محمد للموقف الأميركي، إبان حكم أوباما، من الأزمة السورية، هو عين الصواب، فالتراخي والصمت، عطفاً على الإحجام وعدم الإقدام الأوباميين، أديا إلى تفاقم أبعاد الأزمة، وصار الحل عسيراً، بل أدى إلى استيلاد كارثة أشد هولاً، تتصل بالإرهاب الداعشي، الذي تفشى هناك، وتحول لاحقاً من خلايا عنقودية هيراركية إلى منظومة فكرية لها أجنحة تطير عبر وسائط الاتصال الاجتماعي، التي باتت في جزء كبير منها اليوم وبالاً على البشرية برمتها.
أما رؤى الأمير محمد بن سلمان للمملكة من الداخل، وبرامج التنمية فيها، خصوصاً «رؤية 2030»، فإنها تؤكد وبصدق أننا أمام رجل دولة يتخذ من المكاشفة والمصارحة، ثم الدعوة لإعادة البناء، طريقاً خلاقاً لمستقبل أفضل.