سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

نصف قرن على مائة عام

فعلتُ أفضل ما يمكن أن أفعل في هذه المناسبة: أعدت قراءة «مائة عام من العزلة» في ذكرى 50 عاماً على صدورها. وكانت مفاجأتي عظيمة. إنها ليست أبداً الرواية نفسها التي قرأتها منذ أربعين عاماً. ثم منذ ثلاثين. ثم منذ عشرين. ثم منذ أقل من ذلك.
ولما لم يكن معي نسخة من الرواية في باريس، فقد اشتريت واحدة. هذه عادة قديمة مع مؤلفين عدة، خصوصاً غابرييل غارسيا ماركيز، ولا يستطيع المرء أن يحمل مكتبته معه، لكنه يضمن غالباً أنه سوف يعثر على ما يفتقد. فوجئت بأنني لا أعرف الرواية. بالكاد تذكرت اسم بطلها الرئيسي، خوسيه أركاديو بونديا. والكولونيل. وبائع البيانو الإيطالي. لكنّ هناك بحراً من الأسماء يبدو في الرواية وكأنه مجرد ذر للأشخاص لا معنى له. ترى هل أنا الذي تغيّر؟ وإلى هذا الحد؟ ربما أن سحر ماركيز لا يدوم. أو لا يدوم دوماً. فما زلت أذكر بمتعة «حكاية موت معلن». و«خريف البطريرك»، وأعمالاً كثيرة أخرى. ما هو السر إذن؟ هل هو الحجم الكبير الذي يجعلني الآن أضيع في متاهة الأسماء والأمكنة والأجيال، في حين أن أعماله الروائية الأخرى محدودة الحجم، محدودة الأشخاص، عادية الإطار؟
شعرت حقاً بقلق أن الذوق يتغير ويتبدل ويتناقض أحياناً، ولكن قيمة العمل الأدبي هل تتعرض هي أيضا لخفوت الألق؟ بحثاً عن جواب، أعدت قراءة عملين كلاسيكيين، الأول للروسي ألكسندر بوشكين، والثاني لفيكتور هوغو. كلاهما يقع في نحو 60 صفحة، من المطبوعات الكلاسيكية المجتزأة التي تنشرها «بنغوين». وفرحت إذ تبيّن لي أن القدرة على القراءة لم تنخفض، والعثور على الألق الأدبي كفي. إلا أن هذا يزيد المحنة ولا يخفف منها. فمن أنا لكي أعيد النظر في عمل أدبي لا يزال يبهر عشرات الملايين حول العالم في معظم لغاته؟
كان أحرى بي أن أترك هذا الانطباع الشخصي لنفسي، بدل أن أشكك في أثر عالمي أعطي نوبل الآداب. ولكن أيضاً الرأي الشخصي حق، مهما كان قابلاً للنقاش.
إنني أتساءل، هل زال عصر «مائة عام من العزلة»، وليس عصر ماركيز بالتأكيد. لا تزال أعماله الأخرى تشكل في مجملها ملحمة الحياة في أميركا اللاتينية. وحتى الصور الشعبية التي لم تعد قائمة. تظل تاريخاً أدبياً لعله أفضل مَن دوّنه بألوانه السحرية وأسلوبه الآسر. وفي أي حال، تحية للكولونيل أورليانو بونديا، الذي سمع اليوم أنباء عن إصلاحات جديدة اتفق عليها المحافظون والأحرار تضمن بقاء الرئيس في الحكم، مائة عام.