جاكلين جيل
كاتبة من خدمة «واشنطن بوست»
TT

الحرب على العلم لا تضر العلماء وحدهم

ينظم مئات الآلاف من الناس مسيرات من أجل العلم في نهاية الأسبوع الحالي في مختلف المدن في جميع أنحاء العالم، فيما يمكن وصفه بأنه أكبر حدث علمي في التاريخ. و«المسيرة من أجل العلم» المرتقبة هذه تأتي كرد فعل مباشر على الهجمات الأخيرة التي تناولت المؤسسات العلمية، حول العلوم المناخية والعلوم البيئية على وجه الخصوص (بما في ذلك العديد من العلماء الذين يقومون بهذه الأعمال والأبحاث العلمية) وحتى على قيمة صنع القرار المستند إلى الأدلة العلمية من قبل المسؤولين المنتخبين لدينا. ومنذ الإعلان عنها في يناير (كانون الثاني) الماضي، أصبحت «المسيرة من أجل العلم» أنموذجاً مصغراً للمشاكل التي نواجهها جميعاً في المجتمعات العلمية والبحثية: هل تخدم العلوم السياسية؟ وهل ينبغي على العلماء أن يكونوا أنصاراً أو حتى نشطاء؟ كيف يمكننا زيادة دعم الرأي العام لصالح العلم؟ من الذين تخلى العلم عنهم، ومن الذين أضر العلم بهم؟ إن التعامل مع ومعالجة هذه التساؤلات هو من الأمور المؤلمة ولكنها من الممارسات التي تشتد الحاجة إليها، ولا سيما إذا كان العلماء يطلبون من الآخرين الوقوف إلى جانبنا.
وتعتبر هذه المناقشات ضرورية، لأن «الحرب على العلم» هي، في جانبها الأكبر، حرب حقيقية على العلم العام، ونعني به العلم المتاح للجميع. واليوم، يتم تمويل أغلب البحوث العلمية في الولايات المتحدة من القطاع العام، وتشرف عليها المؤسسة الوطنية للعلوم، والمعاهد الصحية الوطنية، ووكالة حماية البيئة، ووكالة ناسا لعلوم وأبحاث الفضاء، وغير ذلك من الوكالات الحكومية. وتُجرى أغلب هذه الأبحاث في المؤسسات التعليمية الفيدرالية وعلى مستوى الولايات، بما في ذلك الجامعات والمختبرات الوطنية. وهذه العلوم التي يمولها دافعو الضرائب من المواطنين الأميركيين لديها التزام قائم بدعم المصالح الوطنية. إنه العلم من الناس، وبواسطة الناس، ولصالح الناس. إنني أشغل منصب أستاذ مساعد في جامعة ولاية مين – وهي من الجامعات الأهلية التي تتلقى التمويل من الحكومة الفيدرالية الأميركية مع هيئة من الطلاب مستمدة من السكان الذين هم في أغلبهم من قاطني الأماكن الريفية وأبناء الطبقة العاملة. ولقد نشأت في المناطق الريفية بالولاية، وفي المدن والبلدات التي تقطنها الطبقة العاملة والتي كثيراً ما سمعنا اسمها يتكرر في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. وإنني ابنة لوالدين خدما في القوات البحرية ثم عملا بعد ذلك في مصانع الصلب والفحم والنفط. وإنني عالمة أجري الأبحاث حول التغيرات المناخية والتنوع البيولوجي.
وهوياتي الشخصية كعالمة، ومعلمة، ومناصرة للعلوم، ترتبط ارتباطاً عميقاً بهويتي كمواطنة أميركية وبالتحديات التي نواجهها سوياً كأمة واحدة. وعلى الرغم من حقيقة مفادها أنني قد كرست حياتي لمهنتي في مجال العلوم، فإنني أعتقد أن أصحاب المصالح الحقيقيين في الحرب على العلم ليسوا هم العلماء، بل هم المواطنون جميعاً.
عندما يكون العلم للجميع، فإنه يتحلى بالشفافية، وسهولة الوصول إليه، وانتشاره على أوسع نطاق ممكن. وتكون له فوائد مباشرة على الصحة والاقتصاد، ويساهم في ثقافة الإبداع والابتكار والاكتشاف، ويدعم التعليم والمشاركة على كافة المستويات وفي جميع مراحل الحياة. والتقاطعات اللازمة ما بين العلم والسياسة قد تكون جديدة بعض الشيء، ولكنها على العكس من ذلك في حقيقة الأمر. فإن نتائج الأبحاث العلمية قد امتدت وعلى الدوام إلى ما وراء جدران المختبرات وغرف الاجتماعات. ولأعمالنا تأثيرها الواضح على البيئة، والصحة العامة، والحقوق المدنية، والاقتصاد، والتعليم، والدفاع الوطني، مما يعني أن العلم كان ولا يزال في خدمة السياسة، وإنني أعتقد أن هذا من المميزات وليس من العيوب.
لقد ولى زمن أبراج العلوم العاجية، ولا ينبغي له أن يعود من جديد. فالعلماء أصبحوا في كل مكان؛ في الفصول الدراسية، وفي دور العبادة، وفي المصانع، وفي المزارع. وأصبحنا نراهم في الشوارع، وفي المقاهي، وعلى موجات الأثير، وفي مدونات وتغريدات الإنترنت. إن دعم الرأي العام لصنع القرار المستند إلى الأدلة العلمية، والمؤسسات التي تجري الأبحاث وتدعم العلوم من أجل الصالح العام، لا يمكنها النمو إلا إذا كان الرأي العام يقدر العلم ويثمنه، ويدرك كيفية عمله وما الذي تصنعه الوكالات المعنية بالعلوم لصالحنا. ليس بإمكان أغلب الناس التعرف إلى شخصية أحد العلماء المعروفين الآن. والكثير من مجالات العلوم تفتقر وبشكل كبير إلى التعبير عن التنوع السكاني الواسع الذي نعمل على خدمته. ومع ذلك، فإن الناس يستفيدون بالفعل من أعمال العلوم في كافة المجالات اليوم بأكثر من أي وقت مضى. إننا نواجه تحديات غير مسبوقة خلال القرن المقبل: من إطعام نحو 10 مليارات نسمة بحلول عام 2100، ومواجهة الأمراض المعدية الناشئة، وتلمس السبيل الحقيقية بعيداً عن الحضارة القائمة على الوقود الأحفوري، والتعامل مع التغيرات المناخية وآثارها على الناس وعلى الحياة البرية. ومن أجل التعامل مع هذه التحديات الماثلة، فإن إحدى أقوى وأمضى الأدوات لدينا ستكون العلم، ولكن لا بد وأن يكون للجميع. إن «المسيرة من أجل العلم» قد تبدو مثل ردة الفعل المباشرة على الهجمات الخارجية، ولكنها – وهو الأهم – ساعدت على تحفيز المناقشات التي تشتد الحاجة إليها داخل المجتمع حول التداخلات بين العلوم والسياسة. في تلك المسيرة، يحمل الزميل وعالم الأحياء تيري ماكغلين لافتة كبيرة تقول «الجميع يحتاج للعلم والعلم يحتاج للجميع».
وأثناء المسيرة لا بد وأن نتذكر هذه الحقيقة: إذا كنا معنيين حقاً ببناء الثقة والدعم الذي نحتاج إليه للبقاء على قيد الحياة، وربما للنمو، فلا بد أن نعمل على خدمة العلم، ولا بد للعلم أن يكون للجميع، من لحظة إنشائه الأولى وحتى تطبيقه، ومن المشرفين عليه ورعاته وحتى أبسط المستفيدين منه بيننا.