خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

الحالمون الثلاثة الحالم الأول شارل فوريير

انطلقت في أوائل القرن التاسع عشر الثورة الصناعية في أوروبا، وعلى الخصوص في بريطانيا، حيث سادت المدرسة العقلانية، وبفضلها برزت الاختراعات والاكتشافات، ما أدى إلى تدفق الإنتاج الصناعي بمكننة الأعمال وانتقالها من الزراعة إلى الصناعة. صحب ذلك تدهور اجتماعي مرير؛ فقر ومرض وظلم وقذارة وجهالة، ما حرك ضمير الكثيرين من المفكرين والفلاسفة، ممن سعوا لتحسين الأوضاع في البلاد. كانوا نفراً ممن حلموا بحلول إنسانية وروحية وعقلانية تستطيع أن تقلب الأوضاع فتزيل الظلم والفقر والمرض والتعاسة بسائر فروعها وأنواعها وتحل العدالة محلها.
كان في طليعة ذلك الفرنسي شارل فوريير (1772 - 1837). كان موظفاً صغيراً يعيش من أجوره اليومية البائسة. لم يتلق أي دراسة جامعية، ولكنه نشر عدة أبحاث، اشتهرت منها نظرية الحركات الأربع والمصير العام. وبعد أن أدان بكل قسوة النظام الرأسمالي اقترح اتباع ما سماه نظام الانسجام. تضايق من تضخم السكان واتساع المدن. سعى في نظام الانسجام الذي دعا إليه لإقامة مجتمعات صغيرة سماها فنستري. وهو عبارة عن بناء مربع يضم ورشات عمل وصناعة ومكتبة ومسرحاً غنائياً ونحو ذلك من المرافق. وللمواطن هنا أن يختار ما يريد من عمل، بحيث يكون هناك نحو 810 أنماط من أنماط الحياة البشرية. يبدأ المواطنون يومهم بتقسيم أنفسهم بين هذه الأنماط حسب ما يختارونه بأنفسهم وعلى هواهم. وعند انتهاء الإنتاج يقسمون الحاصل بينهم بالتساوي. ليس هناك أي أجور تدفع بالمفهوم الذي نعرفه.
وفي هذا المجتمع يصبح الحيوان المفترس صديقاً وأخاً للإنسان، بحيث يركب الإنسان ويتنقل على ظهر النمور. ويتحول البحر إلى عصير من الليمون. وتنضم للقمر في السماء خمسة أقمار أخرى تضيء دروب البشر ليلاً. ويعيش الناس أحلامهم التي يصبون إليها، بما في ذلك أنواع الأطعمة والموسيقى والملابس وكل ما نعتبره الآن خيالاً.
وبعد أن أعلن عن مجتمعه هذا، جلس في بيته ينتظر من يتبنون المشروع ويشاركونه في تصميمه وصقله. وراح يحلم ويتأمل. رأى أن مجتمعه هذا سيتم بسمة ما سماه «الفراشة»، بحيث يمكن للإنسان أن يتنقل فيه من حب إلى آخر ومن عمل إلى عمل. ارتأى شتى النتائج الخيالية، ومنها أن الفنستري سيوجد رجالاً ونساء تنمو لهم ذيول فيها عيون تمكنهم من النظر في أي زاوية يشاءون. جنون! أليس كذلك! لا عجب إن لم يلتحق أي شخص بمشروع الفنستري هذا. إنه نوع من أضغاث الأحلام. ولكنه كان جزءاً شاذاً من الحركة الرومانطيقية التي سادت النصف الأول من القرن التاسع عشر. بيد أن حالمين آخرين في أماكن أخرى من القارة فكروا في حلول أكثر عملية وعقلانية. كان منهم سان سيمون والإنجليزي روبرت أوين. وسأكرس المقالات القادمة لما ذهب إليه هؤلاء من حلول واقعية وأفكار مثالية في عين الوقت.