د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

جبن النّخب العربيّة

الزمن هو أقدم حكيم في هذا الكون: ينطق بحكمته حرفاً حرفاً، ويكشف عن حقائقه حقيقة حقيقة، وفي منتهى الهدوء. لذلك فإن الزمن هو أشبه ما يكون بتلك النّار الهادئة الخجولة جداً، التي تُطبخ فوقها الأحداث الكبرى في تاريخ المجتمعات.
أينما ذهبت اليوم، وتنقلت بين العواصم العربيّة، خصوصاً التي عرفت ما سمي الثورة، أو التي طالتها تداعيات الثورة والتوترات بين الدول الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط، وحتى التي عرفت كيف تضمن أقل الخسائر من هبوب رياح الثورة، ومن تأجج نيران التوترات وشظايا بؤر التوتر... أينما حللت ووليت وجهك صوب عواصمنا العربية، شعرت بنوع من استبطان الخيبة وعدم الشعور بالحاجة حتى إلى إظهارها.
لا مجال للإنكار طبعاً أن ثورتي تونس ومصر قد نشّطتا معظم المجتمعات، وأحيتا فيها حماسة التغيير والإصلاح، والخروج من الحكم الشمولي إلى تجربة مغايرة تحتكم إلى الديمقراطية وفكر المواطنة وقيمها وحقوق الإنسان. وفي سياق الصراحة أيضاً، لا مفر من الاعتراف بأن المجتمع التونسي والمصري تحديداً عاشا لحظة تاريخية صادقة من الحلم بالتغيير، ارتفع فيها منسوب الأمل عالياً جداً.
ولكن الجدير بالتّوقف عنده اليوم، بعيداً عن المغالطات وتزييف كتابة التاريخ من خلال تلميع واقع الحاضر، أن النخب العربية لم تقم بدورها إبان الثورات، واختارت الاصطفاف وراء الشعوب دون إعمال العقل وتأطير تلك اللحظات الفارقة في تاريخ بلداننا. فهل تفتقر النخب العربية إلى القدرة على إدراك جوهر الهزات التاريخية، وهل كانت مصدومة مثلها مثل سائر الشعوب، أم أنها التقطت الرسائل وتفطنت إلى الثغرات، واختارت الصمت جبناً وانتهازية ظرفية؟
لا شك في أن الغالبية لم تتوقع أن تسقط أوراق التوت بالسرعة التي تمت عليها؛ الأصوات العالية المهللة التي فرضت بقوة الهيمنة والنبرة العالية موقفها، سواء النخب الإسلامية أو الأخرى التي كانت معارضة.. كانت ذات نظرة قصيرة جداً؛ كل طرف نظر إلى مصلحته العابرة، كل طرف كان يريد أن ينتهز فرصة اللحظة التاريخية بأي ثمن. من ذلك، مثلاً، تسرع الأحزاب الإسلامية في تونس ومصر في الوصول إلى الحكم دون أخذ بعين الاعتبار الافتقار إلى ممارسة الحكم.
لقد غاب العقل عن الجميع إلا الذين كانوا موالين للأنظمة السابقة: اختاروا الصمت والانزواء، والترقب والجلوس في الركن البعيد.
والخطورة التي نتجت عن إقصاء العقل في لحظة تاريخية مصيرية، ومخاض اجتماعي هائل، في البلدان العربية، التي شهدت انتفاضات أو التي كانت تنظر بعين الغبطة إلى تونس ومصر آنذاك... الخطورة تتمثل في أن الأطماع الصغيرة في تلك البلدان، وشهوة الحكم التي استفاقت من سبات عميق، هي التي تحكمت في مصيرنا، وجعلته رهين خليط من مشاعر الحرمان من الحكم، والرغبة في الانتقام، والتمتع بالضوء الإعلامي.
إن فشل النخب العربية في تحمل مسؤولياتها، والاضطلاع بدورها التّاريخي في ممارسة النّقد، قد جعل الفعل السياسي يفتقر في غالبيته إلى العقل وإلى الإبصار.
ها هي مصر غارقة في التأزم، ومستهدفة إلى درجة يحق لنا معها أن نتساءل: هل صبت الثورة المصرية فعلاً وحقيقة في رصيد المصريين والعرب؟ ألم نفقد مصر الدولة المركزية الكبرى؟ وهل كان يمكن للتأزم أن يبلغ كل هذا الحد، وأن تكون الخسارة مكلفة مصرياً وعربياً، لو أن النخب في مصر أدركت أهمية اللحظة، وعملت على عدم إهدارها، واستثمارها بما يُقوي مصر لا يُضعفها؟
وتونس أيضاً؛ لصالح من ما تعرفه من بطء قاتل في حل المشكلات الاقتصادية التنموية؟ وإلى أي مدى يمكن الوثوق في بناء حياة سياسية على أسس تتقاطع بشكل جذري مع مرحلة ما قبل الثورة؟ أليس التعايش هو القائم بين الطرفين الحاكمين في تونس، أي حركة النّهضة وحركة نداء تونس، أكثر منه سياسة تستند إلى رؤية توافقية وفاقية تاريخية صلبة؟
أعتقد أنّه لا بدّ من طرح هذه الأسئلة ومواجهتها لأن ما يحصل اليوم في البلدان التي عاشت الثورة، والأخرى التي تعيشها بالدم والقتل والتدمير، أبعد ما يكون عن التأسيس لواقع أفضل. فالنّخب تراقب من بعيد، ولا تجهر إلا بالرأي المطلوب منها، وهو ما يكشف عن انشغال تلك النخب بهمومها الصغيرة، بدلاً عن الانشغال بهموم شعوبها.
أعتقد أن الجبن لا يصنع مواقف، ولا يصنع نخباً. كما أنه يجعل الشعوب بلا بوصلة، وبلا عقل ينقدها ويؤطرها.
منذ تاريخ 2011 ونحن نسير دون خريطة طريق: الخريطة الوحيدة هي خريطة الشعوب؛ خريطة تتحكم فيها الانفعالية والاحتقان والبحث العنيف عن الاعتراف بالذات والصراع الطائفي الدموي.
لم تطرح النخب العربية اليوم الأسئلة الشجاعة بكل شجاعة: لصالح من ما حصل منذ تاريخ ثورة تونس 14 يناير (كانون الثاني) 2011 إلى اليوم؟
هل هو فعلاً لصالحنا، ويخدم توقعاتنا؟ الواقع يغص بالإجابات المرّة.