د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

سوريا في مهب الريح

عنوان المقال قد يبدو متأخراً للكثيرين، فسوريا باتت في مهب الريح منذ وقت طويل، سواء عندما قامت واحدة من موجات ما بات معروفاً بالربيع العربي أو عندما فشلت الحكومة السورية في التعامل معها، وانتهى أمرها إلى حرب أهلية شاملة متعددة الأبعاد. لم تعد سوريا دولة بالمعنى المعروف للكلمة، حتى لو كان لها رئيس وعاصمة وعلم، فما عدا ذلك فإن البلد مقسم فعلياً بين مناطق تُباشَر فيها أنواع مختلفة من الحكم، سواء في ذلك الحاكمون أو معارضو النظام السوري، أو حتى حلفاء لهم أجندتهم ومطامعهم الخاصة. وعندما يكون عدد الضحايا بمئات الألوف، والجرحى بالملايين، والمهاجرون واللاجئون والنازحون أكثر من نصف الشعب السوري، فإن أية سلطة تدعي تمثيل الشعب السوري هي في حقيقتها فاقدة تماماً لشرعيتها، ويصبح ادعاؤها ذلك وهي مستندة للحراب الروسية والإيرانية لا يزيد على نوع من البلاهة السياسية.
ومع ذلك، فإن العنوان يظل مناسباً عندما تصير الريح عواصف كبرى، وقد نشبت هذه المرة من جراء استخدام النظام السوري الأسلحة الكيماوية ضد شعبه في «خان شيخون»، بمحافظة إدلب، مخالفاً بذلك ليس فقط اتفاقية معاهدة منع الأسلحة الكيماوية التي وقعتها سوريا عام 1997، وإنما أيضاً الالتزام الذي قبلت به الحكومة السورية في عام 2013 بعد استخدامها للسلاح، وما تعهدت به بالنزع الكامل للأسلحة الكيماوية من أراضيها. مجزرة «خان شيخون»، في 4 أبريل (نيسان) الحالي، كان عدد ضحاياها حتى وقت كتابة هذا المقال 84 قتيلاً و550 جريحاً، ولا يزال العدد قابلاً للتزايد.
ومن المدهش هذه المرة أن كلا من روسيا وسوريا لم يتفقا على قصة الضربة الكيماوية، فبينما اتهمت موسكو «داعش» مباشرة باستخدام السلاح الكيماوي، فإن دمشق ادعت أن طائراتها ضربت مخزناً للأسلحة الكيماوية احتفظت به المعارضة السورية. أياً كانت القصة، فإن تاريخ النظام السوري يشهد بقوة على تحمله المسؤولية. فقبل وبعد كل شيء، فإن بشار الأسد وجماعته أسقطوا الآلاف من قنابل براميل غاز الكلورين الحارقة، أثناء اتباعهم سياسة الأرض المحروقة في سوريا كلها. لم تكن السلطة السورية تدافع عن سوريا والسوريين، وإنما كانت تقتلهم وتحرقهم دون اعتبار لدواع إنسانية. ويبدو أن بشار هذه المرة قد شعر بالقوة بعد استرداد حلب بالمعاونة الروسية، وإرسال الإدارة الأميركية الجديدة رسائل تفيد باعتمادها وجود بشار الأسد في السلطة خلال المرحلة الانتقالية التي بعدها يترك الأمر للشعب السوري.
الضربة الكيماوية في «خان شيخون» تضع سوريا في مهب الريح أكثر من أي وقت مضى، لأنها قادت لسلسلة من التغيرات في الموقف الدولي من الأزمة السورية. وليس سراً على أحد أن الإدارة الأميركية الجديدة منذ بداية الحملة الانتخابية الرئاسية، وبعد الفوز في الانتخابات والوصول إلى البيت الأبيض، اتخذت موقفاً ليناً من العلاقات بين واشنطن وموسكو، وكانت وجهة نظر الرئيس ترمب أن نظيره بوتين ليس فقط قائداً قوياً محترماً، وإنما يمكن الاتفاق معه على قضايا كثيرة في العالم.
فعل ترمب ذلك رغم المعارضة القوية من داخل الحزب الجمهوري، الذي لا تزال أغلبيته تنظر إلى العلاقات مع روسيا من منظور الحرب الباردة، التي كانت قائمة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي خلال الفترة من 1949 حتى 1989. مذبحة «خان شيخون» وضعت متغيراً جديداً في الموقف، فقد اعتبرها الرئيس الأميركي «عملاً يدعو إلى الاشمئزاز»، و«لا يمكن للعالم المتحضر أن يتجاهله».
وانطلاقاً من هذه النظرة، بدأ مجلس الأمن في الانقسام حول مشروع القرار المقدم من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، الذي يمكن الاستناد إليه في عقاب النظام السوري. ومع تزايد احتمالات استخدام روسيا لحق «الفيتو»، فإن الإدارة الأميركية قامت بقصف القاعدة الجوية السورية التي انطلقت منها الطائرات التي قصفت «خان شيخون». لم يكن أمام الرئيس الأميركي، بعد تصريحاته المشار إليها، أن يكتفي بتغريداته الخشنة على «تويتر»، وإنما كان لا بد له أن يستخدم القوة العسكرية.
هذه الخطوة تضع سوريا كلها في مهب رياح عاتية جديدة، خصوصاً مع احتمال تصعيد الخلافات بين واشنطن وموسكو. فالشائع في العاصمة الأميركية الآن هو دفع الرئيس ترمب لكي يمضي في الطريق ذاتها، ويفرض وجود منطقة أو مناطق آمنة في سوريا، وهذه سوف تستلزم وجود قوات عسكرية أميركية حتى يمكن دعوة قوات من قوى إقليمية للمشاركة. ولكن معنى ذلك أن تقع سوريا في مهب ريح الانقسام بين معسكر يضم سوريا وروسيا وإيران و«حزب الله»، ومعسكر آخر يضم الولايات المتحدة وقوى المعارضة السورية، من أكراد وعرب، مضافاً لهم دول إقليمية أخرى. حدوث ذلك يعني وقوع سوريا وسط إعصار لا يعرف أحد إلى أين سيذهب، ومتى سوف ينقضي.
ولكن الموقف الراهن على دقته وحدته قد يفضي إلى أن تصير العواصف نسيماً، فربما كان على ترمب أن يستخدم القوة العسكرية حتى يبدو أكثر قوة من غريمه التاريخي (باراك أوباما)، فاتهمه دوماً بالضعف، وحمله المسؤولية عما رآه ضعفاً أميركياً في سوريا والعراق. الآن، وقد وصلت الرسالة بأن الرئيس الأميركي يعني ما يقول إلى روسيا والعالم، فإن ترمب الذي لم يسحب موقفه من الرئيس السوري بعد، قد يكون أكثر استعداداً للجلوس على مائدة المفاوضات، خصوصاً أن موسكو التي جرى إخبارها بالغارة الصاروخية الأميركية أصبحت تدرك حدود الصبر الأميركي تحت قيادة ترمب. وعلى أي الأحوال، وسواء كانت سوريا في مهب ريح الانقسام والاستقطاب الروسي الأميركي أو أنها وسط ريح التوافق والاتفاق بين موسكو وواشنطن على سوريا، فإن سوريا بشار الأسد ذاتها لن يكون لها حول ولا قوة، وربما لن يبقى لها إلا الأحضان الإيرانية وأذرع «حزب الله» التي تقاتل في سوريا.
التاريخ يسير أحياناً في طرق غريبة وغير معتادة. وعندما افتتح الستار عما بات معروفاً بالأزمة السورية، فإن أحداً لم يتوقع أن نصل إلى المشهد العجيب الذي نراه الآن. لقد كانت القصة السورية التاريخية هي قصة الهروب من التقسيم والاقتسام إلى «وحدة الأمة العربية ذات الرسالة الخالدة» التي تبناها حزب البعث. ولكن الحزب الذي كان يريد توحيد الأمة من المحيط إلى الخليج، كان في جوهره حزباً طائفياً يعبر عن جماعة صغيرة. كان الهروب إلى الأمام تجربة فاشلة على أية حال، وعندما بدأ الهروب إلى الخلف، بالتمسك بالسلطة السياسية مهما كان عدد الضحايا، والكم من المدن الذي جرى تدميره، فإن الرياح لم تترك من سوريا الكثير. الغريب أن كثيراً من السوريين، والعرب أيضاً، تألموا من اتفاق سايكس - بيكو لأنه جعل سوريا أقل مما يجب. والآن، فإنهم ربما سوف يواجهون ألماً أكبر، ويصل التوجع إلى أقصى مبلغه، عندما تصل الرياح إلى نهايتها. ساعتها، سوف يكون المشهد مختلفاً، والقطع على رقعة الشطرنج قد تثير الحيرة لقرن آخر مقبل فيه أحزان كثيرة.