سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

وأخيراً وصلت «أمازون»

«إنه اتفاق تاريخي» ذاك الذي استحوذت بموجبه «أمازون» على «سوق دوت كوم»، هذا رأي رونالدو مشحور صاحب الشركة الأخيرة التي بيعت بـ650 مليون دولار للعملاق الأميركي. وأهمية الصفقة ستتضح، بالتأكيد، بشكل أعمق في السنوات المقبلة، حين يلمس المستهلكون العرب أن سلوكهم مسّه تغيير هائل.
مشحور، الحلبي ابن تاجر تلك المدينة التاريخية التي عُرِفت بأسواقها العتيقة والعريقة، تعلّم في جامعة «نورث إيسترن» الأميركية هندسة الكهرباء والكومبيوتر، قبل أن يشارك في تأسيس موقع كان رائداً عام 2005، يوم لم يكن سوى 15 في المائة من العرب يستخدمون الإنترنت. لم تكن المغامرة في الإمارات سهلة، ولا السبل مذلَّلَة. ومع ذلك يُحسَب للرجل إيمانه العميق بأن الأبواب ستُفتَح له، وهو ما حصل حين انهالت عليه الاستثمارات الحاتمية. جمع بين إرثه التجاري التقليدي، وخبرته بالبيع الإلكتروني، وأسس منصته، فصار الخليج كله له سوقاً، ومطوروه في الأردن والهند يعملون على تذليل العقبات التقنية. وحين أضاف إلى منطقة الخليج مصر، وخَصَّها بموقعه هي الأخرى، صارت بضائعه في متناول عشرات ملايين الزائرين والمشترين الإضافيين.
صَبَر رونالدو ضعف الوقت الذي يحتاج إليه أي مشروع مماثل في الغرب، لكنه بجلده ومثابرته، شيّد شركة وجدت فيها «أمازون» موطئ قدم صلباً تستطيع أن تنطلق منه، وقاعدة متينة في منطقة لا تزال شِبه بكر، وجاهزة لتشتري حتى الثمالة.
المزاج الاستهلاكي وهَّاج لدى العرب، ويصير أكثر اشتعالاً حين تكون الأسعار مخفَّضَة وتنافسية. المداخيل في العالم كله تتقلص، والحاجات تتزايد، والوقت يداهم الراغبين في التسوق، و«أمازون»، تلك الإمبراطورية الأكبر لعشاق الشراء تحطّ بيننا، بكل مغرياتها وتسهيلاتها وتخفيضاتها، وشهرتها بمراعاة زبائنها، كأفضل دعاية يمكن أن تحظى بها، دون أن تدفع فلساً واحداً.
لم تتمكن أي من المواقع الإلكترونية العربية الطموحة أن تبلغ مستوى «أمازون»، التي بقيت عينها على المنطقة. «سوق دوت كوم» كانت الأذكى والأكثر نمواً عربياً رغم معايبها وتعدد المواقع غيرها. ما بين الخليج ومصر تمكّن مشحور من الوصول إلى 130 مليون نسمة، 45 مليوناً منهم يدخلون شهرياً إلى المنصة ويستكشفون محتوياتها.
رفضت «سوق دوت كوم» سعراً أكبر بـ150 مليون دولار من الذي ارتضته، تقدمت به «إعمار مولز». التضحية ليست مجانية. عين مشحور على المستقبل، وما ستقدمه «أمازون» له من خبرات تنقل شركته صوب أفق أوسع. جيف بيزوس، بدأ عمله من جراج سيارات في واشنطن عام 1995، وبعدها بأربع سنوات فقط أطلقت عليه مجلة «تايم» لقب «رجل السنة» تقديراً لنجاحاته في البيع الإلكتروني. صار «أمازون»، الذي انطلق مجرد موقع للكتب، «أكبر متجر في العالم» يبيع من التلفزيون والكنبة والسرير إلى الشاي والقهوة والشوكولاته وعبوات المياه، وبسرعة في التوصيل، في بعض المناطق، تكاد تشبه «دليفري» وجبات الطعام. صحيح أن الجانب المعروض علينا يشي بافتراضية مذهلة، لكن الشركة العملاقة لها مخازن وموظفون. مساحتها في ولاية أريزونا وحدها 365 كلم مربع، أي أننا نتحدث عن مدينة.
سينضم موظفو «سوق دوت كوم»، بحسب الاتفاق، إلى 117 ألف موظف يشغّلهم بيزوس، والأعداد يُفتَرض أن ترتفع. هذا يعني أنه مقابل المتاجر التي تقفل، أشغال جديدة تولَد في هذه المخازن، أضف إليها خدمات التوصيل وتسلم المعاملات، والرد على المراسلات. العمل كثير في الميادين الافتراضية، وهو ليس وهمياً.
وصلت «أمازون» إذن بكل خبراتها وأساليب توزيعها وروبوتاتها ومنتجاتها وحسوماتها، لكن أيضاً باستراتيجياتها، وطائرات «الدرون» التي تخدم زبائنها. تمركزها سيستغرق وقتاً، توطيد خدماتها يحتاج إلى سنوات. لكن التسهيلات آتية، وما ستطرحه «أمازون»، لن يغير «سوق دوت كوم» وحدها، وإنما سيحفز آخرين على ابتكار وسائلهم في التسويق على الأرض، كما في الفضاء العنكبوتي، وسيدفع بأصحاب دكاكين الحي إلى مراجعة طريقة تعاملهم مع زبائنهم اليوميين.
الاعتراض على العولمة لن يجدي نفعاً، كما في مرات سابقة. التهافُت على تشكيل شركات ناشئة، يعرف مؤسسوها أنها إنما تولد بهدف أن تبتلعها بشهية شركة كبرى، بسعر مغرٍ، بات هو القاعدة. تنجح بقدر ما تتمكن من غواية المؤسسات العشر الأولى التي تمتلك زمام قيادة الأعمال في الكوكب. بكل فخر أعلنت «سكاي سكنر» الاسكوتلندية الضخمة للخدمات السياحية التي لها مواقع بثلاثين لغة ويستفيد منها 60 مليون مسافر في الشهر، أنها باعت نفسها للشركة العملاقة «سي تريب» بمبلغ 1.74 مليار دولار. الشركة التي مقرها شنغهاي ولها 30 ألف موظف، أدركت أن غالبية زبائنها لا تزال من الصين، وأن استحواذها على شركة أوروبية جاهزة سيفتح لها أبواب الغرب على مصراعيه.
ليست «سوق دوت كوم» هي الشركة العربية الوحيدة التي أغوت أكبر منها بشرائها، لكنها الأولى في مجالها ومن بين الأغلى ثمناً. رونالدو مشحور أثبت أنه رائد، وإنجازه لم يكن بالقليل. ما ستبني عليه «أمازون» سيكون لها رئيسياً، وإلا لما أقبلت ودفعت.
استحوذت «غوغل» خلال عمرها القصير الذي لا يتجاوز 16 عاماً على 194 شركة وتطبيقاً ومنصة، تعود إلى 19 بلداً، بينها إسرائيل، لكن ليس بينها أي دولة عربية. لعل أشهر ما اشترته هو «آندرويد» وموقع «يوتيوب» الذي دفعت سعره عام 2006 المبلغ نفسه الذي تدفعه «أمازون» اليوم للحصول على «سوق دوت كوم».
ربما مرّ خبر بيع «سوق دوت كوم» عابراً، ولم يعره البعض اهتماماً كافياً، بسبب موجة أحداث دموية، منهكة تهزّ المنطقة، ولا تترك فسحة للتفكّر. لكن العرب سيستيقظون يوماً، ويتذكرون بامتنان، وكثير من التقدير، اسم ابن حلب رونالدو مشحور، الذي أسهم بذكاء وكدّ، في إدخالهم عالمياً إلى كوكب «التسوق العنكبوتي» وأطلقت عليه «غلوبل ريسك انسيت»، لقب «ملك التجارة الإلكترونية في الشرق الأوسط».