خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

حكميات الجوع والشبع

الجوع والشبع ظاهرتان عرفتهما البشرية طوال تاريخها. ولعل أشهر مفارقة بشأن الجوع والشبع كانت ما قالته ماري أنطوانيت، ملكة فرنسا في هذا الصدد. رأت الناس متجمهرين أمام قصرها يهتفون ويصرخون. ربما لم تفهم ما كانوا يقولون، فقد كانت امرأة من النمسا. سألت ماذا يريدون؟ قالوا لها يريدون الخبز. قالت بكل براءة وسذاجة فليأكلوا كيك! خلدت هذه الكلمة منذ عام 1789 وشاعت بين كل الشعوب. سمعناها في مدارسنا منذ أيام طفولتنا.
وعبرت الكلمة عما يقوله العراقيون.. الشبعان ما يدري بهم الجوعان! لا بد أن قالها أيضاً أحد حاشيتها الملكية عندما سمع جوابها. وهي المحنة التي عاشها بنو آدم منذ الأزل في التفاوت بين المحرومين والمتنعمين. وجرت وشاعت كلمات كثيرة في هذا الصدد. كان مما قاله الشاعر الجاهلي «تأبط شراً» هذه الكلمات:

إذا لم أزر إلا لأكل أكلة
فلا رفعت كفي إلى طعامي
فما أكلة إن نلتها بغنيمة
ولا جوعة إن جعتها بغرام

ويقال إن لقول العراقيين أصلاً في حكاية مفادها أن شحاذاً طرق باب امرأة موسرة فاستجدى منها شيئاً يسد به رمقه. أجابته أليس لديك طباخ يطبخ لك أكلة؟ هز رأسه متعجباً متسائلاً: كلا لا يوجد لديّ. قالت اثرد اللحم مع الخبز واغله ساعة من الزمن. هز رأسه بالنفي. قالت إذا لم يكن لديك لحم فضع شيئاً من العسل على الخبز وكل. هز الرجل رأسه ومضى في طريقه يردد الكلمة «الشبعان ما يعرف هم الجوعان!» فأصبحت مثلاً.
قد تكون الحكاية حقيقية وقد لا تكون. ولكنني أتذكر أن صديقاً لي كان يعاني من البطالة وضيق الحال. عانى من وجع المعدة. راجع الطبيب في المستشفى وكان طبيباً من لبنان. فحصه ثم قال له: أنصحك بأن تبتعد عن أكل المكسرات والمعجنات ونحو ذلك من البقلاوة والحلويات. كان صديقي منكتاً وظريفاً فأجاب الدكتور بشيء من الهزء والسخرية قائلاً: «دكتور أستطيع أن أترك المكسرات والمعجنات ولكن سيصعب علي تماماً أن أترك البقلاوة»! ويظهر أن الطبيب اللبناني صدقه فقال له بكل برود «حاول». وخرج صاحبي من العيادة وهو يتمتم مع نفسه ذلك القول الشائع «الشبعان ما يعرف هم الجوعان»!
ذهب صاحبي للعمل في المملكة العربية السعودية ووجد القوم هناك يرددون المثل البغدادي في صيغة أخرى: «اللي يده في المويه مو زي اللي يده في النار». وكان الأعراب يرددون في مثل هذا الموضع فيقولون: «هو مني على قدر مجاع الشبعان» للدلالة على البون الشاسع بين الشبعان والجوعان.
ومن أدق الأقوال الواردة والعالقة بالبعد النفسي بين الاثنين، الجوعان والشبعان، قول الشاعر سعدي الشيرازي في ديوان شعره المعروف «حديقة الورد» (غولستان)، وذلك عندما ذكر فقال: «المحروم من الطعام يرى الكرنبة المغلية فيحسبها دجاجة مشوية»!