سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

ذئب لندن!

في حادث إرهاب لندن، الذي نفذه المدعو خالد مسعود في محيط البرلمان البريطاني، قبل أسبوع من الآن، تستوقفك ثلاثة أشياء ذات معنى؛ أما الأول فهو توقيته، وأما الثاني فهو ما صدر عن تنظيم داعش حول الموضوع، وأما الثالث فهو تصريح رئيسة وزراء بولندا إزاء الهجوم!
التوقيت له دلالة لا تخفى على متابع لوقائع الإرهاب التي تروع العالم كل فترة، وإلا فما معنى أن يشرع مسعود في هجومه، ثم ينفذه، في اللحظة ذاتها التي كان وزراء خارجية التحالف ضد التنظيم مجتمعين في واشنطن، ليروا من هناك إلى أين وصلت مراحل الحرب عليه، وفي أي طريق عليها أن تسير في مقبل الأيام!
ويبدو الشيء الثاني وثيق الصلة بالأول لأن ما خرج عن «داعش» بعد وقوع الهجوم بساعات، يقول إن التوقيت في حد ذاته مقصود، لأن التوقيت يأتي وكأنه رسالة مسجلة بعلم الوصول، من الشاطئ الشرقي للأطلسي إلى الضفة الأخرى فيه، ثم كأنه كذلك يتحدى، ويراهن، ويقول!
وليس أسوأ من التوقيت إلا ما قيل فيه موجهاً، فيما بدا منه، إلى المجتمعين على الشاطئ الغربي للمحيط تارة، ومخاطباً العالم من بعد المجتمعين، فيما بدا منه، تارة أخرى. وما قيل فيه خطير بقدر ما هو نذير، لأنه في الوقت الذي كانت الشرطة البريطانية تعلن خلاله أنها تعتقد أن منفذ العملية قد تصرف من تلقاء نفسه، باعتباره ذئباً منفرداً، كان التنظيم يعلن من جانبه أن خالد مسعود جندي من جنوده، وأنه (أي خالد) قد نفذ ما قام به استجابة لنداءات استهداف رعايا دول التحالف ضده، كتنظيم متطرف!
ولا يعرف متى صدرت تلك النداءات، ولا كيف وصلت إلى ذلك الجندي في مكانه، ولكن ما أعرفه أن على الذين يعنيهم وقف التطرف الزاحف على العالم أن يتوقفوا طويلاً، ليس أمام النداءات، ولا أمام الطريقة التي وصلت بها، وإنما أمام حكاية أن المنفذ جندي من جنود التنظيم!
فليس واضحاً من العبارة ما إذا كان جندياً بالانتماء المباشر، أو حتى غير المباشر، إليه أم أنه جندي بالتعاطف مع أفكار «داعش» المتطرفة الداعية إلى ممارسة العنف والتحريض عليه، لا أكثر. فأخطر ما في الأمر أن يكون الاحتمال الثاني هو الراجح على الأول، وخطورته تبقى في عواقبه أكثر مما تبقى في معناه.
إن عواقبه أن أي جهاز أمن في العالم لن يكون في إمكانه، مهما كانت قوته، ومهما بلغت قدراته، أن يستوقف مثيل خالد في المستقبل قبل أن يحصد أرواحاً بريئة في طريقه. وكيف يستوقفه، فضلاً عن أن يعرفه أو يميزه، إذا كانت القصة كلها قصة تعاطف مع أفكار؟! إن كلمة جندي تعني فيما تعني أن رجلاً مثل مسعود من الممكن جداً ألا يكون قد رأى داعشياً في حياته، ولا خرج من مكانه حيث نشأ وعاش إلى أي موضع يكون الدواعش المباشرون موجودين فيه، ولا حتى تواصل مع أي داعشي في يوم من الأيام!
القصة كلها يمكن أن تكون مُلخصة في أنه سمع عن التنظيم، وقرأ عن أفكاره، فاقتنع بها لأسباب تخصه وحده، وقرر بينه وبين نفسه أن يكون واحداً من جنوده الذين لم يكلفهم «داعش» ذاته بشيء، ولا بعث إليهم بتعليمات من نوع ما تبعثه التنظيمات المماثلة إلى أعضائها في العادة! جندي متطوع متبرع يتجه بوحي من داخله إلى تنفيذ ما لم يطلبه منه أحد، ولا كلفته به جهة من الجهات.
يبقى أن الشيء الثالث الذي أشرت إليه أول هذه السطور يتجلى في تصريح رئيسة وزراء بولندا، وفيه تقول إن الحادث يثبت صحة وجهة نظر بلادها التي تقف ضد استقبال اللاجئين في الاتحاد الأوروبي! إن رئيسة الوزراء البولندية تتكلم وكأنه قد ثبت أن منفذ الهجوم لاجئ، أو أنه على الأقل متعاطف مع اللاجئين في مواجهة الحكومات التي تتبنى رفض دخولهم إلى أوروبا، وهو ما لم يثبت في الحالتين.
إن المعلومات المتوافرة عن منفذ العملية تقول إنه ولد في مقاطعة بريطانية، وإنه عاش في مدينة بريطانية أيضاً، وإنه متزوج، أو كان متزوجاً من آسيوية، وإن له عند البوليس الإنجليزي سجلاً جنائياً، وإن تحقيقاً قد جرى معه في وقت من الأوقات للاشتباه في إيمانه بأفكار التطرف. ولو تبين من التحقيق شيء يدينه، في مسألة التطرف تحديداً، لكان قد تم التعامل معه منذ وقت مبكر على هذا الأساس، ولو أنصفت رئيسة وزراء بولندا لقالت إنه ليس لاجئاً، وإن سيرته لا تضعه على قوائم اللاجئين، وإن الظلم بعينه أن يؤخذ أي لاجئ لا يؤمن بالعنف، ولا يحرض عليه، بذنب هذا الذئب المنفرد!
ذئب لندن المنفرد لم يكن لاجئاً في أي يوم لأن مولده كان على أرض بريطانية، لا على أرض خارجها، ولا يجوز لهذا السبب حسابه على اللاجئين. وإذا جاز حسابه على شيء، فإنما على أجواء عاش فيها، فخلقت منه جندياً لم يجنده أحد، ودفعت به إلى اعتناق أفكار لا يعتنقها إنسان سوي، ولا يُسلم بها عقل سليم، ولا يتقبلها إلا وجدان سقيم!
ذئب لندن المنفرد وقود جاهز في مكانه، ليس لـ«داعش» كتنظيم، ولكنه وقود جاهز لـ«داعش» كفكرة ضلت الطريق. وإذا لم يكن هذا المعنى قد استقر في يقين الجالسين حول المائدة في العاصمة الأميركية، وقت وقوع الهجوم، فما أتعس حظ العالم مع هذه الذئاب!
ذئب لندن المنفرد جندي لم يجنده أحد، ولكنه جند نفسه، وتلك هي المشكلة التي على العالم أن يتعامل معها، هكذا، بوصفها حقيقة عارية!