عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

لن تتراجع عزيمتنا في مواجهة الإرهاب

«بالأمس حاول الإرهاب إسكات الديمقراطية، واليوم نجتمع كما تعودنا، وكما تعودت أجيال سبقتنا، وكما ستتعود أجيال المستقبل كي نوصل للعالم رسالة بسيطة: لن نخاف. ولن تتراجع عزيمتنا في مواجهة الإرهاب. إننا نجتمع في أقدم البرلمانات، لوعينا بأن الديمقراطية، بكل ما تتضمنه من قيم، سوف تنتصر دائماً. هذه القيم، كحرية التعبير، وحرية الفرد، وحقوق الإنسان وحكم القانون تتجسد في هذا المكان، لأنها قيم مشتركة بين جميع الشعوب الحرة حول العالم».
هكذا بدأت رئيسة الوزراء تيريزا ماي كلمتها أمام مجلس العموم، في وستمنستر أم البرلمانات وأقدمها، في اليوم التالي لدهس خالد مسعود المارة بسيارة مستأجرة، وقتله رجل بوليس على مدخل قصر الديمقراطية العريق الذي يقف على زاويته الجنوبية الشرقية برج ساعة بيغ بن.
في محطة مترو الأنفاق علقت يافطة «فلنصب قدح شاي، وننزل في المحطة المقبلة... كالمعتاد». الروح البريطانية الساخرة في وجه الأزمات.
كانت رئيسة الوزراء في مساء يوم الحادث ألقت كلمة مقتضبة هادئة بأعصاب باردة، ناشدت فيها الشعب عدم السماح للإرهاب بإزعاج مسيرة الحياة اليومية، والتماسك والتضامن، والأهم الاستمرار في الحياة اليومية كالمعتاد.
«لن نخاف»، «والاستمرار كالمعتاد»... عبارتان هما الأكثر تردداً.
لندن بوتقة انصهرت فيها ثقافات وسلالات متعددة، لكنها اكتسبت ثقافة خصوصية جعلت اللندنيين نوعاً خاصاً من البريطانيين، المتعاملين مع أي أزمة بأعصاب ثلجية دون حاجة لتوجيهات من الزعيمة التي تعاملت مع الموقف بهدوء وحكمة، نابعين من غريزة ثقافة المكان وتراكم الأحداث تحت السحب التي غالباً ما تظلل أشهر مدن العالم ومحل ميلاد الديمقراطية الحديثة.
روح الدعابة، وصلابة الشفة العليا بمعنى عدم إظهار الألم وعدم التوتر عند الطوارئ، والاستمرار في الحياة العادية كأن شيئاً لم يكن، هي درع الحماية والذخيرة الثقافية القومية للتغلب على الصعاب. في السنوات الثلاث الأولى من الحرب العالمية الثانية وقفت بريطانيا وحدها بعد أن سقطت كل أوروبا في أيدي النازي. وطوال عام 1940 حتى منتصف 1941 تعرضت لندن لقصف جوي لم يسبقه مثيل، وصمدت أمام أعتى آلة حرب جهنمية في ذلك الوقت، وتهدمت مبانيها وبات أهلها على أرصفة أنفاق المترو، واستمرت فيها الحياة كالمعتاد، واستمرت روح الدعابة. وعند زيارة الملكة إليزابيث الأم (والدة الملكة إليزابيث الثانية) الشوارع التي هدمتها غارات النازي، كانت تضع أكثر ملابسها أناقة وكامل جواهرها، وتطلب من نساء لندن التزين والتجمل ووضع الماكياج لإظهار الصمود، وهزيمة إرادة هتلر بالاستمرار في الحياة اليومية المعتادة.
جاء خطاب رئيسة الوزراء السيدة ماي هادئاً معبراً بحكمة تراكمات ثقافة تاريخ المكان.
بعكس ما حدث في بلدان أخرى سواء في أميركا أو أوروبا أو بلدان الشرق الأوسط، لم يحدث هلع أو ذعر جماهيري. الحكومة لم ترفع درجة التوتر وهي حالياً «حادة» منذ بضعة أشهر، تليها درجة «حرجة»، أي هناك معلومات استخباراتية عن وقوع هجوم وشيك، ولم تتغالَ في إجراءات الأمن، ولم تكن ردود الفعل مبالغاً فيها أو متسرعة. فأي تغيير مهما كان بسيطاً في نمط الحياة المعتادة يعتبر انتصاراً للإرهابيين.
عملية الأمن تمت بدقة، حيث تغلق الأبواب وفواصل الممرات أوتوماتيكياً.
معلومة ضرورية للقراء لأن الصحافة الأجنبية (غير البريطانية) ربما أعطت انطباعاً خاطئاً بأن هجمة هذا الإرهابي شلت الحركة، لكن الحقيقة أن الخطة المعدة مسبقاً، التي تدرب عليها العاملون في البرلمان نفذت بدقة تحسباً لأي هجوم.
أجهزة الأمن في بريطانيا تعد من بين الأفضل عالمياً، وتعمل بمبدأ الوقاية خير من العلاج.
في العامين الأخيرين وبالطرق المباحثية ومراقبة المشتبه بهم، تمكنت هذه الأجهزة من إحباط 13 محاولة ومخططاً إرهابياً، وانتهى أكثر من نصف عدد الشبكات المخططة إلى السجن بأدلة أقنعت القضاة والمحلفين. لكن هجمة الأربعاء كان من شبه المستحيل اعتراضها. ليس فقط لأنه مجرد «ذئب منفرد» لم يكن يعمل عبر شبكة معروفة، بل إنه خارج البروفايلات المعتادة لمن تجندهم الشبكات الإرهابية كـ«داعش» و«القاعدة». إنه ليس شاباً متحمساً أو غاضباً من معيشته تعرض لغسل الدماغ، وليس مراهقاً جذبه بريق المغامرات في الفيديو الذي يضعه «داعش» على الإنترنت، لكنه رجل بالغ في الثالثة والخمسين من العمر. وكان معروفاً لأجهزة الأمن، ليس لأسباب سياسية أو أخرى تتعلق بالتطرف، بل لنشاطه الجنائي الطابع، وقضى عقوبات في السجن، وغيّر اسمه بعد اعتناقه الإسلام.
وحتى الآن لم تكشف التحقيقات ماذا كانت الحادثة جزءاً من مخطط أوسع أم لا، فالانتماء لشبكة أو بناء صلات معها يسهل لأجهزة الأمن مراقبة تحركاته واعتراضه قبل تنفيذ أي هجوم، مثلما حدث في السنوات السابقة. فما بين 2005 واليوم، هناك حادثتان إرهابيتان فقط على مستوى دعائي (الدعاية هدف تكتيكي للإرهابيين)؛ الأولى تفجيرات 7/ 7 في 2005، والثانية حادثة هذا الأسبوع. كان هناك حادث فردي قبل عامين عندما قتل مهووسان بالإسلام السياسي جندياً خارج الثكنات في جنوب شرقي لندن. أي أن بريطانيا، أمنياً، أفضل من البلدان الأخرى التي تتعرض للتهديد.
معرفة أين تم تجنيد مسعود لعمل إرهابي ستكون مفتاحاً للغز مهم، لأن كشف المحاولات الأخرى كان يتم بالتعاون مع برامج أخرى، وكشفت محاولات أخرى مثل مؤامرة للسيطرة على مناهج التعليم في مدارس مناطق المسلمين في برمنغهام (فيها تجمع إسلامي كبير وكشفت فيها شبكات أخرى)، لكن تجنيد نزلاء السجون لمنظمات إسلامية متطرفة تبقى نقطة الضعف في برنامج مكافحة الإرهاب والتطرف.
ففي السجون يتقرب دعاة التطرف المنتمين لمنظمات متطرفة من سجناء يقضون عقوبات جنائية، لكنهم مختلون سيكولوجياً. يقدمون لهم الخلاص من الذنوب بالمفهوم الديني لدى هؤلاء الدعاة. العلاقة تنشأ بشكل يعتمد فيه الوافد الجديد، بإرادة مسلوبة، على من أخذ بيده من طريق الإجرام إلى طريق الخلاص. وطبعاً لا يعرف من الدين إلا ما يقدمه له من أخذ بيده، والخطوة التالية تكون بإقناعه أن «الجهاد» و«قتل الكفار» سيكونان مرحلة التطهير من الذنوب السابقة التي دخل بسببها السجن. السجون في بريطانيا مزدحمة، وتعاني نقصاً شديداً في عدد الزنازين، وفي الحراس والإمكانيات، مما يجعل التجنيد للجماعات المتطرفة في السجون مشكلة، يصعب التغلب عليها في الظروف الحالية.