فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

الترفيه شريك الجيش بهذه الحرب

على هذه الأرض؛ بسبخها وجبالها وهضابها، ما يستحق الحياة... بها نبضت الفنون حين كانت النفوس بريئة، تطرب للربابة، وترقص «السامري»، وتزف الأفراح بالطبول... والأغنية بمفهومها الأعمّ تعاش من شروق الشمس إلى مغيبها، مع الطبيعة والطين، والخضرة النضرة، والمشي الراقص على الجبال الوعرة.
كان الفن أصيلاً في النفوس، وجزءاً من الحق، ولم يكن يوماً ترفاً، وفي ذروة الجوع، حيث الرحّل من رجال «العقيلات»، كان للحدو حضوره، حتى والأرض رمضاء لاهبة، والنعال ممزقة.
مرّت عاصفة غير معقولة على المجتمع البريء، وساطه ذوو الألسنة الحداد بوعظ مسيس، ليخرجوه من نعيم البراءة وأصالة الحب والفن والمرح، إلى جحيم الشك والوسوسة والهزال تجاه الدنيا. وحين دخلنا الحرب، كانت طبول العرضة السعودية ضمن إعلانها، فلا تناقض بين التقوّي بالفن، وإغاظة الأعداء بقصائد الحرب، وارتبطت العرضة بحروب التوحيد على يد الملك عبد العزيز، فالطبل مع قصيد العرضة يثير الهلع، ويفتّ من عضد العدو، فلا تناقض أبداً ومطلقاً بين الحرب والفن.
وهتلر إبان حروبه، كان مغرماً بموسيقى ريتشارد فاغنر، وبالأخص معزوفة «ذا فالكيري»، وأطلق اسمها على قوّة ضاربة في جيشه، وتجسّد دور هذه الموسيقى في حرب النازية بشكل واضح في فيلم توم كروز «فالكيري»، (2008)؛ إذ يصوّر مؤامرة العشرين من يوليو (تموز) إبان الحرب العالمية الثانية من ضباط الجيش الألماني لاغتيال هتلر، وتعزف الموسيقى بمفاصل محددة بالفيلم. المقطوعة يندر أن يسمعها طفل إلا ويبكي، لشدة إيقاعها العسكري، ونبرتها الانتقامية الشرسة. لقد وظف السياسي الفن كما يجب ضمن وظائف الحرب، ولهذا شواهد لا تحصى.
ثم إن الحرب والفن يشتركان في «إرادة البقاء»؛ فالفنّ حرب، والرقص مثل الحرب؛ مقاومة للسكون، وخروج عن الثبات والجمود، كما أنه يتضمن صورة القوة، ولنتذكّر الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي كان يجيد العرضة السعودية بشكل نادر، ويا لها من رقصة فنيّة وحربية في آنٍ معاً، وعلى حد تعبير كانغيلام، فإن الحرب «صراع، وخلق ومخاطرة، ومعاناة»، وكذلك الفن. والعجب أن جل الممانعين ضد الفن بحجة الحرب يعتبرون هوليوود تقوم «بغزو» فكري؛ إذن لماذا تعتبرونه هناك غزواً وحرباً، وهنا تفسخاً واستهتاراً؟!
وبالعودة إلى تاريخ اليونان، نرى انتعاش الفنون بالحروب، ذلك أنها غذاء المجتمع للقوة، وبها يستعرض استرخاءه، وعدم تأزمه في إدارة الحرب، وبها يمكن أن يكون الفن رسالة إغاظة للأعداء، فالحرب يقودها الشجعان الأشاوس، ويخوضونها باقتدار لدرجة أن المجتمع في مدنه وقراه يستمع إلى الفنون؛ رسالة حرب: «هنا الفن والغناء، نحن في ذروة الاسترخاء»، بدلاً من إشاعة روح التثبيط وكأن العدو قد كسب جولة!
يؤرخ بيرتراند راسل في الجزء الأول من كتابه «حكمة الغرب» لنمو الفن باليونان، قائلاً: «في فترة قصيرة، لا تزيد على قرنين، فاضت العبقرية اليونانية في ميادين الفن والآداب والفلسفة، سيلاً لا ينقطع من الروائع التي كانت منذ ذلك الحين مقياساً عاماً للحضارة الغربية»، هذا مع حروب طاحنة دائمة.
لنأخذ اليونان وحروبها وفنونها نموذجاً؛ في كتاب «تاريخ الفلسفة السياسية من ثيوكيديديس حتى أسبينوزا»، نشر ديفيد بولوتن بحثاً عن ثيوكيديديس (400 قبل الميلاد)، (مؤلف كتاب «حرب البيلوبونيز والأثينيين»)، وفيه يقول: «ما قاله الأثينيون في إسبرطة قد أسهب فيه بيركليس فيما بعد بخطبة تحدث فيها عن الشعب الأثيني، بوصفه محباً للجمال والحكمة، وفضلاً عن ذلك، فإنه يمدح الأثينيين لرغبتهم في أن يكونوا شجعاناً في المعركة دون حاجتهم إلى الاعتماد على تدريب طويل وشاق»، ثم يشير إلى أن المدينة بكل تفاصيلها، بما فيها الفن، جزء من القوة الحربية، لأنها تصبح آنذاك مدينة مكتملة، يضيف: «القول بأن الأثينيين قد اختاروا بحرية أن يستخدموا ذكاءهم ومواهبهم الأخرى لصالح المدينة، كما أنهم على استعداد لأن يخاطروا بحياتهم من أجلها، جانب حاسم من وجهة نظرهم عن أنفسهم من حيث أنهم نبلاء»، ولهذا تفصيل أطال فيه، خلاصته أن الحرب ترفد برسائل مدنية أيضاً، حيث الفن يبدي الاستقرار بذروته، بينما الظلمة والشعور بالهلع يعارضان هدف الحرب وهو ترسيخ الاستقرار «وإرادة البقاء»، وإثارة الهلع والخوف والرعب الكاسر لظهور الأعداء، وذلك بالسلاح، والصورة، والصوت... بالقصيدة والكلمة، بالموسيقى والاستعراض الشامل.
تلك هي المسألة: الترفيه ليس ترفاً، بل حق أصيل يرتبط بالفرد، وجزء من كينونة الإنسان بهذا العالم... لسارتر مقولة متداولة في كتابه «ما الأدب»: «ليست المسألة أن نختار العصر الذي نعيش فيه، بل أن نختار كيف نكون ضمن هذا العصر».