خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

فنون المطبخ

لا أقصد قط بفنون المطبخ، الأكل والطبخ. قصدي أبعد شيء عن ذلك. ولأفصح عن مقصدي، أقول إنه موضة اجتاحت عالم الفن في بريطانيا، بل وأوروبا وأميركا، قبل سنوات. ابتدعها عدد من الفنانين الإنجليز؛ قادها الرسام هاردي الذي هام حبًا بتلميذته، وهامت هي بطبخ الأطباق النفيسة له. وأوحى له كل ذلك برسم سلسلة من اللوحات تصور المطبخ والمطبوخات والطباخة الحسناء، فلم يتمالك النقاد من نعت فنه هذا بفن المطبخ، الذي شاع من لندن والمدن الأخرى، بحيث هام الرسامون بإنتاج لوحات من وحي ذلك، وأصبح هذا الفن صرعة الموسم التي استمرت لعدة سنوات.
بيد أن لفن المطبخ تاريخًا أبعد، يرجع إلى أيام الثورة الفرنسية. والثورة الفرنسية طبعًا بشرت بعشق الطبيعة. أدى ذلك إلى ظهور ما سمي بأدب طاولة المطبخ. وكان المقصود به الحوار الجاري بين الخدم والطباخين وست البيت. شاع هذا الأدب المطبخي، واستظرف القوم طرائفه وقفشاته ولهجته العامية. ولع به الكاتب الإنجليزي أنطوني ترولوب، ونشر في عام 1855 روايته الشهيرة «الحارس» التي أمعنت في هذه اللغة السوقية المطبخية.
يصب ترولوب فكاهته في هذه الرواية على المحامي أبراهام هابهزرد (وتعني بالإنجليزية «عشوائي»). يتكلم بالعجرفة والاستعلاء، فيقول: «لم يتشاجر السير أبراهام مع زوجته قط لأنه لم يتكلم معها مطلقًا. ليس لديه الوقت ليتكلم مع أي أحد، إنه يخطب فقط». كأكثر المحامين، ينغمس أبراهام هابهزارد في عالم السياسة. وعندئذ، تتعاظم رغبة الكاتب في السخرية منه، ومن لغته النحوية. يقول:
«انشغل السير أبراهام هابهزرد بصورة كبيرة بتقديم لائحة قانونية للبرلمان تنص على مكافحة الكاثوليك باسم قانون مراقبة الأديرة. ويرمي إلى إعطاء أي رجل دين بروتستانتي يتجاوز عمره الخمسين سنة حق تفتيش أي راهبة يشتبه في حيازتها أي وثائق ضد الوطن، أو رموز للطائفة اليسوعية. ولما كانت هذه اللائحة تتكون من 137 مادة، تتضمن كل واحدة منها شوكة في أعين الكاثوليك، ولما كان من المتوقع أن يقوم الخمسون نائبًا من النواب الآيرلنديين الكاثوليك بمحاربة هذه اللائحة في كل خطوة من خطواتها، فإن صياغة اللائحة وتنسيق موادها بشكل بارع ماكر قد استغرق وقتًا طويلاً من السير أبراهام هابهزرد، بحيث حاز كل ما كان يقصده فيها من أثر. بيد أنها لم تكتسب بالطبع صفة القانون، ولم يبرمها البرلمان، ولكنها قسمت صفوف النواب الآيرلنديين بصورة كاملة، بعد أن تآزروا على طرح لائحة جديدة تلزم جميع الرجال بشرب الشراب الآيرلندي، وتلزم جميع النساء بلبس قماش البوبلين الآيرلندي.
كان أنطوني ترولوب، وسواه من الكتّاب والفنانين المحدثين، يقصدون بذلك إشاعة اللهجة العامية والحياة الشعبية، سواء في الكتابة أو الفنون التشكيلية التي أصبحت تعرف بفنون المطابخ وكلام الشغالين والغوغاء.