أمل عبد العزيز الهزاني
أستاذة في جامعة الملك سعود في السعودية. باحثة في علوم الوراثة الجزيئية. خبيرة في الإدارة الأكاديمية. كاتبة سياسية منذ عام 2009. كاتبة مقال أسبوعي في «الشرق الأوسط».
TT

المتغير والثابت مع «مرحلة ترمب»

لا شك أنه عهد جديد. خلاصة للتحولات الاقتصادية والسياسية والثقافية التي عاشها العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وازدادت وتيرتها في الأعوام الخمسة الماضية، مع أزمتين اقتصاديتين متتاليتين ضربتا الولايات المتحدة أولاً ثم أسعار النفط. ومع ظهور البديل الصخري، والكهرباء بدلاً من وقود المركبات، ونزاع هائل في الشرق الأوسط، من تداعياته تكرار وصول الإرهاب إلى قلب أوروبا وأفريقيا، والهاجس الأمني الذي بات عنوان المرحلة، ومعيار القوة، وأساس العلاقات بين الدول. حتى الثقافة بما فيها عادات الشعوب وأفكار وسلوك الأفراد وقيمهم وتراثهم، تبدلت استجابة للمتغيرات. اللغة، التي تعتبر أهم أدوات الثقافة، أنتجت مصطلحات جديدة أو أنعشت ما كان باهتًا، بتنا نقرأ عن «الشعبوية»، و«الحمائية»، وغيرها، التي تبدو مغايرة لمفهوم العولمة في شقها الثقافي.
ولأن الولايات المتحدة هي الدولة الرائدة في الحضارة الغربية، التي أسست لنظام عالمي رأسمالي وأطلقت مصطلح العولمة وألغت الحدود أمام الثقافات، هي اليوم التي تقود العهد الجديد، مع مؤشرات التغيير التي ظهرت كذلك في ألمانيا وفرنسا وشرق أوروبا. لكن يبقى نموذج شخصية دونالد ترمب الذي قدمته الولايات المتحدة للعالم أمثولة للتحليل.
العالم الغربي أسس نظامًا اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا مبنيًا على احترام القانون، وتعاقبت الأجيال التي تحمل قناعات أبائها بأن دولة القانون هي الضامن لحياة كريمة، مهما تبدلت الأحوال الاقتصادية أو السياسية. لذلك بعد هزيمة هيلاري كلينتون أفرغ الغاضبون حنقهم في الشارع وفق نظام يحميهم ثم عاد كل إلى بيته. في حالة الغضب أو الرضا لا صوت يعلو فوق صوت القانون. والنظام الديمقراطي وحرية الرأي والتعبير والحقوق المدنية، كلها أطرت وفق قوانين تحميها. هذا الإرث العظيم الذي تأسست عليه الحضارة الغربية تعرض لتهديد من الدخلاء، بعد أن شرعت الدول الغربية أبوابها لهم، فاعترتها خشية من انهيار القيم الغربية الحرة أمام التطرف المنغلق المتخلف. الهاجس والخوف تضخم خلال عقود مضت، مما جعل من القوة الأمنية خصوصًا في جناحها الاستخباراتي، هي معيار القوة اليوم، على الأقل معيار لدى الدول الكبرى التي تهيمن على القرار الدولي، وكل ما عداه يبقى في الظل. لذلك من ينتقدون ترمب على جرأته واندفاعه وتصريحاته النارية، هم ينسون أنه يمثل 160 مليون أميركي، بخلاف الأوروبيين المؤيدين له، وأنه لم يكن ليحقق هذا الفوز قبل سنوات قليلة، لكنه اليوم خرج من خلف الكواليس التي تدار فيها أحاديث القلق على الهوية والإرث الثقافي الثمين.
هذا من الناحية النظرية. عمليًا، كيف انعكست «الترمبية» على الفرقاء؟
في آسيا، شعرت كوريا الجنوبية واليابان بأنهما في مأمن رغم التجربة الباليستية الأخيرة لكوريا الشمالية، لأنها تثق في شخص ترمب ونزعته للدفاع عن حلفائه ضد من يراهم يمثلون الجهة الدخيلة. الصين اكتسحت بضائعها الولايات المتحدة، وأسست لأسماء تجارية في كل الولايات، وتشعر بالقلق من رجل الأعمال الذي يعتقد أن لعبة أطفال صينية الصنع رخيصة تهدد مصانع أميركية تتفنن في ابتكار الترفيه المرتبط بتعليم الصغار. وللشرق قليلاً يرى الهند التي تهدد وادي السليكون، تقدمت في علوم الحاسب والبرمجة، وأصبحت حاضنة لطلبة أميركيين. ومن باكستان وحتى نهاية الشرق الأوسط، باستثناء إسرائيل، هي خطر محدق، حيث تجاور دول حليفة دولاً خصيمة، وتتداخل المصالح، ويتحتم الفرز. ولأن المنطقة هي مصدر التهديد الأمني الأكبر للغرب، كان من الطبيعي أن تكرّم الاستخبارات الأميركية ولي العهد السعودي وزير الداخلية الأمير محمد بن نايف بميدالية «جورج تينت» التي تقدم للعمل الاستخباراتي المتميز في مكافحة الإرهاب. الذين تنبأوا بأن العلاقات السعودية الأميركية انهارت بعد أزمة أسعار النفط قرأوا المشهد بسطحية. السعودية الدولة الوحيدة في المنطقة التي تملك مواقف سياسية ثابتة من كل القضايا، وقوة أمنية وعسكرية حققت نجاحات مذهلة. وهي لذلك خيار واشنطن الوحيد لردع الإرهاب الذي يقلق ترمب وإدارته.
ترمب متفق مع الرياض على أن إيران هي مصدر الإرهاب العالمي، وأنها تتخذ من اليمن وسوريا أرضًا لنشره وتغذيته. هذه خطوة كبيرة في سبيل مكافحة الإرهاب؛ توحيد الرؤية حول المصدر. التحرك السعودي في اليمن لتثبيت الشرعية جاء بعد استيلاء عملاء إيران على العاصمة وتهديدهم لحدود المملكة الجنوبية، ولا تزال من خلال التحالف تنفق مليارات الدولارات على هذه الحرب، ويشعر الإيرانيون اليوم أن أيديهم قيدت بعد هذه المدة وبعد التحركات الأميركية الأخيرة، مما يرجح احتمال تعاون الحوثي مع تنظيم القاعدة في تنفيذ عمليات انتحارية.
موقف المملكة كذلك من سوريا لم يتبدل رغم تبدل الظروف والمتغيرات التي فرضت نفسها؛ أصرت الرياض على أن لا وجود للأسد في مستقبل سوريا، وأنها مستعدة لأن تتدخل عسكريًا تحت مظلة التحالف الدولي لمحاربة «داعش». دول أخرى مثل تركيا تراجعت عن موقفها من رحيل الأسد مثلما رأينا في الصيف الماضي، بعد ضغوطات من الروس، لكنها اليوم تعود لموقفها الأصلي بعد أن رفعت الحماية عن الأسد والإيرانيين، وهي اليوم أكثر استعدادًا كذلك على الانفتاح على العالم العربي وزيادة تعزيز علاقتها بإسرائيل والتخلي عن تعاطفها مع الإسلامويين. حتى الإعلام العربي الذي كانت بعض مؤسساته تدعم الإسلام السياسي وتروّج لقوة إيران وضرورة التفاهم معها، وحلم الأمة والخلافة، تبدل خطابها الإعلامي وأصبح أكثر موضوعية وواقعية.
لا مهرب من التماهي مع التحولات الجديدة التي لن تتوقف عند سنوات ترمب، بل ستكون سمة العقود المقبلة، حتى تتم محاصرة الإرهاب الذي يهدد الأمن العالمي، وتحجيم مصادره.

[email protected]