عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

احتكار الأخبار أم اصطناعها؟

يتردد تعبير «الأخبار المصطنعة» من الكلمتين: fake وتعني فالصو، أي تقليد للأصلي بغرض بيع بضاعة مقلدة رخيصة بثمن الأصلية المرتفع، وNews هي أخبار.
نواب مجلس العموم يدرسون ما تسميه الصحافة المؤسساتية (شبكات كبرى كـ«بي بي سي»، و«سي إن إن»، وصحف «النيويورك تايمز»، و«اللوموند») بالأخبار المصطنعة.
الحديث عن إيجاد وسيلة قانونية ترغم شركات كـ«فيسبوك» وتخزين ونشر المواقع كـ«غوغل» و«ياهو» ومثيلاتها على إنشاء لجان تحريرية «للتأكد من مصداقية الأخبار، ومصادرها» حسب قول اللجنة البرلمانية، ومنع نشر الأخبار المصطنعة.
المطلب يضعنا كصحافيين محترفين في مأزق. فمن ناحية لا يمكن أن يوافق صحافي يحترم مهنته على قوانين لتنظيم الصحافة، أو حجب ما ينشر، أو وضع حاجز بين المعلومة ومصدرها ومتلقيها؛ فحريتا التعبير والحصول على المعلومة مقدستان.
أهم تعريف أفضله للخبر، هو ما قاله اللورد نورثكليف (مؤسس «الديلي ميرور» و«الديلي ميل») قبل مائة عام: «الخبر هو معلومة يريد أحدهم منع الناس من معرفتها، أما غير ذلك فهو إعلانات».
الوجه الآخر لعملة المأزق أنه منذ انتشار الإنترنت قبل ربع قرن، ونحن نحذر من الاعتماد على معلومات غير معروفة المصادر. فصحافيو المدرسة القديمة يستخدمون وسائل مثل مباحث البوليس والطب الشرعي، للتأكد من الأدلة والمعلومات. ولذا يجد الصحافي نفسه في موقع الخيار الصعب بين الدفاع المطلق عن حرية التعبير والنشر وحرية الحصول على المعلومة، وبين مهنية المدرسة القديمة.
أنا منحاز للخيار الأول، حرية المعلومات والنشر والتعبير، حتى ولو كانت الأخبار مصطنعة؛ لأن لديً خيار التحقق من الأخبار، وأمام المتلقي خيار تنوع مصادر الأخبار ومنابر التعبير.
ويذكر قراء «الشرق الأوسط» قبل أربع سنوات تجربتي بالبحث عن اسمي على محركات البحث بعدة لغات، واكتشفت انتمائي لعقائد مختلفة وجنسيات متعددة وتيارات سياسية متناقضة، واتهمت بالعمالة لمخابرات بعضها معادٍ. وكانت هذه مفتاح بداية تحقيقي في الموضوع.
فأنصار إيران وإسرائيل يتهمونك بالعمالة للعرب، ويتهمك الشيوعيون بالعمالة للغرب، والقوميون العرب يتهمونك بالعمالة لإسرائيل والاستعمار. أي أن كلاً يغني على ليلاه، وتعددية وتوازن الاتهامات فيها عدالة الاستقلال؛ لأنها تنفي المصداقية عن أصحاب الاتهامات، كما تضفي على الأمر جوًا من المرح والدعابة والسخرية.
أصوغ الحكاية التافهة كمدخل للجدل في الموضوع.
مسألة عدم مصداقية المعلومات إذن قديمة قدم الإنترنت نفسها (بعض المعلومات مثلاً في صفحة اسمي على ويكيبيديا خاطئة، وفشلت أكثر من عشر محاولات لتصحيحها، إذ تعاود الظهور كما هي حتى استسلمت للأمر الواقع، خاصة أنها تجعلني عشر سنوات أصغر من عمري الحقيقي).
بديهيًا أنه عندما يكون الواقع لجانبين متصارعين أو ذي مصالح متضاربة، تصبح المواقع والإنترنت والأخبار المصطنعة سلاحًا في يد كل جانب، وليس حكرًا على طرف واحد.
جوزيف غوبلز وزير بروباغندا النازي، اخترع ترويج الأكاذيب والأخبار المصطنعة لقلب الحقيقة وخلق رأي عام يقبل إمكانية شروق الشمس من الغرب، وأن الأرض مسطحة لا كروية؛ وعبر شيطنة الآخر أو الخصم ونزع الصفات الإنسانية عنه، أو سلخه من أي صفات مشتركة مع أفراد ومواطني المجتمع الموجهة إليه الدعاية، يقبل المجتمع بالهمجية والوحشية عند التضحية بالخصم كأمر معتاد، كذبح الجزار لدجاجة كوجبة غداء.
وإذا كان غوبلز والنازي يمثلان أقصى اليمين الفاشي، فإن جرائم جوزيف ستالين ضد مواطنيه في الاتحاد السوفياتي كانت معاصرة أيضًا لجرائم النازي، وكان لها جهاز دعايتها الضخم المؤثر مثل جهاز غوبلز.
أي أن أقصى اليسار الشيوعي وأقصى اليمين الفاشي كان لهما نشاط الأخبار المصطنعة المتشابه، مثلما شرحها جورج أورويل في روايته 1984 عندما كانت الحقائق تعاد صياغتها، ليس فقط حقائق الحاضر، بل أحداث التاريخ لتلائم أكاذيب الحاضر.
الملاحظ أن «هوجة» الحملة على الأخبار المصطنعة وتعبير ما بعد الحقيقة post truth، وتعبير الشعبوية populism (الذي أطلقه اليسار الليبرالي على الناس العاديين احتقارًا) انتشرت بعد تصويت بريطانيا بالخروج من الاتحاد الأوروبي، ضد الحملة التي قادتها المؤسستان الحاكمة والصحافية التقليدية، في شكل الشبكات الكبرى، وارتبطت أيضًا بانتصار دونالد ترمب في الانتخابات الرئاسية الأميركية.
المؤسسة الليبرالية تحتقر التيارات الشعبية التي «بلا عقل» وترى أنها وقعت فريسة للأخبار المصطنعة.
حملة تقودها الـ«بي بي سي» والقناة الرابعة في التلفزيون البريطاني (من شبكات اليسار الليبرالي) لكشف ما يصفونه بمديري ومصممي مواقع الأخبار المصطنعة في بلدان شرق أوروبا. الحملة تركز على مواقع اليمين ويمين الوسط التي روجت لحملة ترمب، وللأحزاب التي تريد الانفصال عن الاتحاد الأوروبي. فهل اليسار الليبرالي، وأنصار هيلاري كلينتون وحملة البقاء قي الاتحاد الأوروبي كانت بريئة، ولم تروّج أخبارًا مصطنعة؟
مثلاً، ما الفارق بين خبر مصطنع وبين تضليل المتفرج باستقطاع جزء فقط من خبر حقيقي بالتواء مقصود كما تفعل الشبكات الكبرى؟
مستشفيات وزارة الصحة البريطانية تتعرض لضغوط من نقص التمويل وزيادة المرضى، بسبب تدفق ثلاثة ملايين مهاجر، وزيادة عدد المواطنين المسنين. الشبكات الليبرالية تركز فقط على زيادة عدد كبار السن وضغوط أمراض الشيخوخة، وفي الوقت نفسه تروج أن أصوات المسنين هي التي أدت للخروج من الاتحاد الأوروبي، والرسالة مقصودة، تعميق كراهية الجيل الأصغر لكبار السن؛ لأن الشبكات مع البقاء في الاتحاد الأوروبي.
الشبكات مثلاً لا تذكر للمشاهدين أن البلدان السبعة في الأمر الإداري للرئيس ترمب بتضييق إجراءات الفيزا، هي نفسها التي حددها الرئيس السابق باراك أوباما في أمرين إداريين في 2011 و2015. ولأن الشبكات الليبرالية اليسارية تستهدف المملكة العربية السعودية دائمًا، فإنها تكرر استثناء السعودية ومصر التي يحمل جنسيتهما مهاجمو 11 سبتمبر (أيلول) من الحظر؛ بينما لا تذكر أن سبب المنع أن البلدان السبعة لا يمكن الحصول منها على معلومات دقيقة عن طالبي الفيزا، أو لا تتعاون مع الأمن الأميركي كحال تعاون مصر والسعودية. فما الفارق بين الأخبار المصطنعة وبين التضليل بنصف الحقيقة كقول «لا تقربوا الصلاة»؟!
في الواقع أن الشبكات العملاقة والمؤسسات الضخمة رأت في الصحافة المستقلة الفقيرة ووسائل التواصل الاجتماعي وصحافة المواطن كـ«البلوغات» كسرًا لاحتكارها للأخبار والمعلومات، نتج عنه تمرد الناس العاديين عن نفوذها بالتصويت ضد الاتحاد الأوروبي، وبالتمرد على هيلاري كلينتون، عكسًا لما روجته للناس.
واستعادة لاحتكاراتها تريد من المؤسسة السياسية عالميًا استخدام أدواتها القانونية والسياسية والبوليسية لفرض رقابة مشددة على صحافة المواطن المستقلة.