نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

محكمة ثقافية لنتنياهو

هي محكمة من نوع خاص، لا قاعة لها ولا قضاة يرتدون الملابس المميزة، ولا تصدر أحكامًا قابلة للنفاذ.
هذه المحكمة يقوم بدور الادعاء العام فيها أهم الساسة والمثقفين في إسرائيل، وقد اخترت ثلاثة منهم كنماذج لا يرقى إليها الشك في المكانة المميزة والقدرة على التأثير في الحياة العامة.
الأول: موشيه أرينز، مفكر وسياسي ليكودي عريق، لم يبق عليه إلا أن يشغل رئاسة الوزراء في إسرائيل، بعد أن شغل وزارة الخارجية والدفاع. اتهام أرينز لنتنياهو يأخذ جانبًا مهمًا من جوانب أداء وسلوك رئيس الوزراء، لقد اتهمه باللاإنسانية جراء دعمه وتبنيه لقرار هدم بيوت عرب النقب، كما اتهمه بالتنكر لمن وصفهم أرينز بالمسالمين في الدولة والمجندين في جيشها، واستخدم أرينز جملة خطرة إلى حد ما وهي أن نتنياهو بذلك يفتح الباب للحركة الإسلامية المحظورة في إسرائيل لتتغلغل في أوساط البدو، وتنتشر من بين ثنايا الظلم الواقع عليهم من الحكومة.
والشخصية الثانية - وأنا أتحدث عن نماذج -: هو نجم الصحافة الأول في إسرائيل ناحوم برنياع، الكاتب المواظب في «يديعوت أحرونوت»، لقد سخر من التهم السطحية الموجهة الآن لنتنياهو، مثل هدايا السيجار والشمبانيا، وبعض الحلي التي تتزين بها زوجته سارة، وطالب بأن يحاكم نتنياهو على الجرائم الأفظع التي يرتكبها، ومركزها سوء استخدام السلطة التي مارسها في مساوماته المفضوحة مع صاحب الجريدة الأولى في إسرائيل «يديعوت أحرونوت». لقد وجه بهذه المساومات ضربة سلطوية فظة لحرية الصحافة في إسرائيل، وحوّل من يعتقد الكتاب أنه منبرهم الحر، إلى سلعة يساوم عليها صاحب الجريدة، مقابل توجيه ضربات من تحت الحزام للجريدة المنافسة التي خربت الرأي العام الإسرائيلي وضربت الاقتصاد، لأنها جريدة توزع مجانًا، وليس لها من وظيفة إلا الترويج لنتنياهو، أما ضررها غير المهني أي الاقتصادي فقد بلغ خسارة مقدارها 750 مليون شيقل انتزعت من جيب دافع الضريبة الإسرائيلي، حتى وصفت بالجريدة العائلية التي قدمها ملياردير يهودي كهدية لنتنياهو ليبقى رئيسًا للوزراء أطول فترة ممكنة.
الشخصية الثالثة: هي المحلل الاستراتيجي الشهير أليكس فيشمان، الذي طرح حكاية تضليل نتنياهو للكابينت المصغر في كل ما يتعلق بحرب الرصاص المصبوب التي وقعت على غزة، ويستشهد الكاتب بقرارات حرب ارتجالية كثيرة خسرت فيها إسرائيل قتلى كثيرين وأسرى كذلك، ونزفت من السلاح والذخيرة والنفقات الأخرى، ما يقدر بمليارات الدولارات، ولقد توصل فيشمان إلى خلاصة مفادها: «لو كانت هنالك عدالة في إسرائيل لحوسب نتنياهو على ذلك، خصوصا أن لا نتائج تذكر على صعيد توفير الأمن للإسرائيليين، فحماس هي حماس وتزداد قوة وتهديدًا و(حزب الله) هو (حزب الله)، ويزداد قوة وخطرًا، والإسرائيليون الذين مولوا كل هذه الحروب لا يشعرون بأي قدر من الأمان والطمأنينة».
اخترت هؤلاء الثلاثة الذين يمثلون قطاعًا عريضًا من المثقفين الإسرائيليين، وحتى من الجنرالات الذين قيد الخدمة أو خارجها.
أحيانًا وربما دائمًا ما يستخدم الخطأ الصغير للفت الأنظار عن الخطأ الجسيم، وهذه معادلة كرستها المساءلات الإسرائيلية التي تصلح لادعاء الحوكمة النموذجية والتباهي بالديمقراطية المتفردة، فنتنياهو الذي يتهم بكل هذه الرزايا، وهي تهم ثابتة بأي حال، صاغ خلال فترة حكمه الطويلة معادلة المساءلة التي تخرجه في كل مرة أكثر قوة وتكرسًا في الموقع، وكلمة السر في هذه الحالة، أن إسرائيل لها جوهر وقشرة، الجوهر دولة «عالم ثالث» يحكمها شخص يكيّف المؤسسة والقوانين على مقاس بقائه في السلطة، أما الديمقراطية وحكم القانون والحضارية، فهي قشرة بدأ مثقفو إسرائيل بكشطها والتحذير مما تحتها.