مشعل السديري
صحافي وكاتب سعودي ساخر، بدأ الكتابة في الصحف السعودية المحلية، ثم في صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية، تتميز كتاباته بالسخرية اللاذعة، ويكتب عموداً ثابتاً في «الشرق الأوسط».
TT

كله عندي إلا الغباء والتسرع

صناعة الأخشاب عالم قائم بذاته، وهناك في هذا المجال شركات أوروبية وأميركية وصينية تشبه الإمبراطوريات.
وعلى سبيل المثال نأخذ دولة (كالسويد)، وهي مكتظة بالغابات التي تستغلها أفضل استغلال بواسطة شركاتها، التي تزرع كل سنة عددًا محددًا من الأشجار، ولا تقطعها وتستفيد منها إلا بعد (50) سنة، وهكذا دواليك، ففي كل سنة هي (تزرع وتقطع).
وعندما كنت في المرحلة الابتدائية من دراستي بالطائف، سأل المدرس كل تلميذ في فصلي: ماذا تتمنى أن تكون عندما تكبر؟!، فالغالبية قالوا: إما طبيبًا، أو مهندسًا، أو ضابطًا، أو تاجرًا، وعندما وصلني الدور قلت له: أتمنى أن أكون نجارًا، فضحكوا جميعًا من أمنيتي.
والواقع أنني شغفت بهذه المهنة عندما كنت أتابع نجارًا كان يعمل دولابًا للملابس في منزلنا، وعندما لاحظ شغفي أهداني منشارًا ومطرقة ومسامير وأخشابًا، وفرحت بها ورحت أعمل بيوتًا لسرب من الحمام في منزلنا، ومن شدّة انهماكي بالنشر كدت أقطع إبهامي، ورغم مرور الأعوام ما زال أثر القطع في إصبعي لم ينمحِ.
ومن ضمن قراءاتي عن هذا العالم: أن شركة لصناعة الأخشاب، أخذت عقدًا من شركة زراعية محتكرة جزءًا من غابة، ومن شروط العقد أنهم يقطعون أكبر كمية من الأشجار خلال ثلاثة أيام فقط، فاستمروا بالقطع بهمة ونشاط يسابقون الزمن ليل نهار، وفي اليوم الثالث صدموا عندما عرفوا أنهم قد أخطأوا بالمكان، ونالوا غرامات باهظة من البلدية، ومن الشركة التي قطعت أشجارها، وكانت النتيجة أن تلك الشركة المتهورة أو المتسرعة أعلنت في النهاية إفلاسها، وهي ذكرتني بموقف حصل لي مع أحد أصدقائي، وكنا وقتها في القاهرة.
حيث طلب مني ذلك الصديق أن أرافقه لزيارة رجل بينه وبينه مصلحة أو عمل. وعندما وصلنا لعمارة مكونة من تسعة طوابق وكان الرجل يسكن في الدور التاسع، واكتشفنا للأسف أن المصعد كان متعطلاً، واضطررنا أن نستعمل السلالم أو الدرج، وكلما صعدنا طابقًا كنت أدعو على العمارة أن يصيبها زلزال يدمرها مع ساكنيها.
وما إن وصلنا إلى الطابق التاسع ونحن نلهث من جراء التعب، إلا ويتذكر متأخرًا صديقي الغبي أننا قد أخطأنا بالعمارة، حيث إن العمارة التي كان يريدها ملاصقة للتي أرهقتنا.
ولا تتصورون ساعتها مقدار الإحباط الذي اجتاحني، وخطر على بالي أن أعمل فعلاً خناقة مع صديقي، غير أنني تراجعت، حيث إن صديقي صاحب عضلات ورياضي ووزنه ضعف وزني، وسرعان ما غيرت استراتيجيتي، وركبت رأسي رافضًا بكل حماقة أن أذهب معه للعمارة الثانية. وعندما نزلت إلى الشارع وأنا أتشهد، أشرت لأول تاكسي، وركبته دون أن أودع صديقي الغبي، فكله عندي إلا الغباء والتسرع.