عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

مخاطر تيار الانكفاء الأميركي

بعد كل الصخب الذي رافق العولمة على مدى سنوات، يبدو أننا ندخل اليوم عصر الانكفاء. فمع تفاقم الضغوط الاقتصادية، ومشاكل البطالة، وتهديدات الإرهاب، وأعباء موجات اللجوء والهجرة، تتزايد الأصوات الناقدة للآثار السلبية للعولمة، وينمو نفوذ اليمين المتطرف الداعي إلى إغلاق الأبواب أمام المهاجرين واللاجئين خصوصًا من مناطق التوتر في العالم الإسلامي، وتواجه الكثير من الحكومات ضغوطًا لتطبيق سياسات وبرامج متشددة لحماية صناعاتها واقتصادياتها، ولتقييد الهجرة.
المفارقة أن أميركا التي عرفت بأنها زعيمة العالم الحر، وكانت حتى الأمس القريب من أبرز أصوات العولمة، ستصبح في ظل إدارة رئيسها الجديد دونالد ترمب، محركًا بارزًا في تيار الانكفاء. فترمب رفع منذ يومه الأول شعار «أميركا أولاً» وأعلن سلسلة من الإجراءات لحماية اقتصاد أميركا وحدودها بما في ذلك بناء جدار على الحدود مع المكسيك، والانسحاب من اتفاقية الشراكة مع دول المحيط الهادي، والتوجه لمراجعة بنود اتفاقية التجارة الحرة مع كندا والمكسيك، والضغط على الشركات الأميركية لتصنيع كامل منتجاتها في الداخل. كذلك وقع الرئيس الجديد على قرارات للحد من أعداد اللاجئين الذين تستقبلهم أميركا، وللتشدد في إجراءات دخول القادمين من دول «مرتبطة» بمشكلة الإرهاب، وهي بالطبع إما دول عربية أو إسلامية.
هذه السياسات الأميركية ستؤدي عاجلاً أو آجلاً إلى سياسات مضادة من دول أخرى، وقد تشعل حروبًا تجارية، وتسهم في تصعيد التوترات السياسية وربما العسكرية أيضًا، خصوصًا أنها تترافق مع تلميحات قوية من ترمب بأنه سيقلل من التزامات بلاده الدفاعية حيال حلفائها التقليديين سواء في حلف شمال الأطلسي (الناتو) أو خارجه. فهو يرى أن هذه الالتزامات ترهق أميركا ماليًا، وأن الحلفاء «الذين لا يدفعون» إنما يستغلون بلاده، وبالتالي عليهم أن يتوقفوا عن توقع الاستفادة من مظلة الحماية الأميركية مجانًا.
هذه المواقف تثير قلق أوروبا على وجه الخصوص، لأنها تضرب الأسس التي قام عليها مفهوم الأمن والسلم في أوروبا، منذ الحرب العالمية الثانية. فأي إضعاف لحلف الناتو الذي تعتبر فيه أميركا الطرف الأساس والأقوى، سيعني تهديدًا مباشرًا للأمن الأوروبي، وإرباكًا خطيرًا لتوازن القوى في وقت تفرد فيه روسيا فلاديمير بوتين عضلاتها. ما يقلق الأوروبيين أكثر أن ترمب لم يكتف بالكلام عن التخفيف من أعباء بلاده، بل وجه انتقادات للناتو ووصفه بأنه «تخطاه الزمن». أضف إلى ذلك أن العواصم الأوروبية تنظر بقلق إلى الغزل بين ترمب وبوتين، وإلى التقارير الأميركية عن القرصنة الإلكترونية الروسية في موسم الانتخابات الرئاسية الأميركية بهدف مساعدة حملة ترمب. فليس سرًا أن عددًا من العواصم الأوروبية حذرت من أن الإشارات التي تبعث بها إدارة ترمب، تعتبر تشجيعًا لعدوانية روسيا في وقت تمر فيه العلاقات بتوتر شديد منذ الأزمة الأوكرانية. لهذا السبب فإن الدول الأوروبية الأعضاء في الناتو قادت مع إدارة باراك أوباما تحركًا لنشر قوات على حدود الدول الأعضاء المتاخمة للحدود الروسية مثل بولندا وليتوانيا ولاتفيا وإستونيا، وذلك قبل تولي ترمب للرئاسة.
هناك سبب آخر لقلق الدول الأوروبية. فالرئيس الأميركي الجديد وعدد من أعوانه المقربين أبدوا حماسًا وتأييدًا لتصويت بريطانيا بالخروج من عضوية الاتحاد الأوروبي (البريكست)، بل وأعربوا عن توقعاتهم بأن يؤدي ذلك إلى خروج دول أخرى من الاتحاد. وليس خافيًا أن هناك غزلاً بين اليمين الأوروبي المتطرف وترمب، يغذيه بعض أعوان الرئيس الأميركي مثل كبير المخططين الاستراتيجيين في البيت الأبيض، ستيف بانون، الذي دعم حملة البريكست ويدعم اليوم حملات اليمين المتطرف في دول مثل فرنسا وألمانيا وهولندا والنمسا.
لهذه الأسباب فإن هناك أطرافًا أوروبية مقتنعة بأن ترمب وبعض أعوانه يريدون تقويض الاتحاد الأوروبي، وأن ذلك مرده أن الاتحاد الأوروبي يمثل أكبر كتلة تجارية في العالم وبالتالي يشكل منافسًا لا يستهان به لأميركا. لكن مثل هذا التوجه، وإن عبر عن أقلية نافذة اليوم، إلا أنه لا يعبر عن مصالح وتوجهات الغالبية في أميركا التي ترى في أوروبا حليفًا استراتيجيًا مهمًا، وتستشعر خطورة الآثار السالبة لانهيار الاتحاد الأوروبي على كل الأصعدة، سياسيا واقتصاديا وعسكريًا.
الاتحاد الأوروبي ليس وحده الذي يترقب بقلق سياسات ترمب. فهناك مخاوف في اليابان وكوريا وحتى في الهند لما يمكن أن تعنيه سياسة «أميركا أولاً» على صعيد العلاقات الاقتصادية والسياسية مع واشنطن. الصين أيضًا تقف متحفزة وترى أنها المستهدف الأول من كل إجراءات الحماية التجارية والصناعية التي تتبناها الإدارة الأميركية الجديدة. وربما لا يكون بعيدًا عن ذهن المخططين في بكين أنهم ربما يجدون أنفسهم في مواجهة مع إدارة ترمب لا تقتصر على الحرب التجارية.
سياسات وشعارات إدارة ترمب تؤذن بالتأكيد بمرحلة من الانكفاء، والانعكاسات ستكون هائلة في التوازنات والاستراتيجيات والحسابات الدولية، وهو ما يجب أن تستعد له دوائر القرار في العالم العربي.