في الحلقة السابقة نشرنا آراء لعدد من الكتاب والنقاد العرب حول الإنتاج الأدبي والربيع العربي، وهل ارتفع هذا النتاج، فنيًا وجماليًا، إلى مستوى الحدث، بوعوده وإلهاماته ومآسيه ومآله أيضًا، أم جاء سريعًا، منفعلاً، أو تسجيليًا قد ينتهي مع انتهاء الحدث ذاته؟
هنا آراء عدد من الكتاب من مصر والمغرب:
حمودة: نحتاج لوقت طويل
يرى الناقد د. حسين حمودة، أستاذ الأدب العربي بجامعة القاهرة، أن «الوقائع التي أحاطت بثورات الربيع العربي كان لها تأثير متعدد في الأدب، على مستوى تناولها كموضوعات للكتابة، وعلى مستوى ما ارتبط بها من وعي جديد، ومن أحلام وتوقعات، ومن إحباطات أيضًا. وهذه الوقائع حاضرة في عدد كبير من القصائد والقصص والروايات، وبغض النظر عن التعبير عنها في بعض هذه الأعمال بشكل متعجل أحيانًا، أو إقحامها على بناء أعمال أخرى. وهناك عدد كبير من الأعمال التي قمت بتحكيمها أقحمت تجربة ميدان التحرير في بنائها الروائي. على أية حال، فالوقائع الكبرى، مثل الثورات، قد تحتاج إلى وقت طويل للوصول إلى نظرة موضوعية مكتملة لها، ولتقييمها، ولاستكشاف آثارها القريبة والبعيدة. وعلى ذلك يمكن تصور أن هذه الوقائع التي ارتبطت بثورات الربيع العربي سوف تظل، لزمن طويل قادم، مادة غنية للكتابات الأدبية المتنوعة».
ويعتبر د.حمودة أن «ستة أعوام ليست فترة طويلة، ولا كافية لنظر لتجارب ثورات الربيع العربي. فهناك أعمال أدبية عالمية كبيرة، تناولت تجارب ثورات، بعد عشرات الأعوام من مرورها ومنها مثلا «الحرب والسلام» لتولستوي، ولهذا فلا يجب التعجل في كتابة أعمال عن تجارب مثل ثورات العربي لا يزال بعضها في طور الإكمال ولا تزال امتداداتها قائمة في كثير من البلدان العربية، ولا يزال المشهد الأخير لها لم يكتمل بعد».
وحول ما إذا كانت خشية بعض الأدباء من تصنيفهم «ضد أو مع» الثورة أثرت على المنتج الإبداعي في البلدان التي شهدت الثورات، يجد د. حمودة أن: «حرية التعبير بالنسبة لكثيرين من الكتاب العرب، حرية ليست كاملة، ولم تكن كاملة في أي زمن من الأزمنة، وبالتالي فالمساحة المحدودة التي يتحرك فيها بعض الكتاب الآن في تعبيرهم عن قضايا سياسية ليست قاصرة على الوقت الحاضر فقط، وإنما لها امتدادات قريبة وبعيدة في تاريخينا الأدبي والثقافي».
طلب: احذروا الأدباء الموسميين
«الأحداث السياسية ليست مقدمة للأدب الجيد»، هكذا لخص الشاعر والناقد د. حسن طلب، عضو لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة، وجهة نظره بالقول: «إن الأدب رفيع المستوى لا يكون أبدًا انعكاسًا للأحداث السياسية. فالأحداث تظهر، والثورات تقوم، والتغيرات تحدث، وتأتي بعض الكتابات لتعبر عن هذه الأشياء، وهذا النوع من الأدب الذي يكتب في ذيل الأحداث السياسية، عادة لا يعتبر الوجه المشرق للأدب، لذا فمن وجهة نظري أن الأدب يستطيع أن يثور في ذاته حتى لو لم تقم ثورة».
ويتحفظ د. طلب على معظم النتاج الأدبي الذي ظهر انعكاسًا لثورات الربيع العربي لأنه «ليس أدبًا رفيعًا بالمعنى الجمالي»، قائلا: «الأدب الرفيع هو الذي يثور ويهيئ للثورة ويمهد لها». ويقول: «علينا أن نبحث في الشعر الذي كان يقاوم الاستبداد قبل الثورات... فالأدب يقود ويشعل الثورة في النفوس يقود لكي يكون أدبًا حقيقيًا».
ويعتبر صاحب ديوان «إنجيل الثورة وقرآنها» وقصيدة «مبروك مبارك» التي توقعت برحيل مبارك وسخرت من ترشيحه لنفسه في الانتخابات أن هناك من انتهزوا قيام الثورة وظهروا كفقاعات الهواء وركبوا موجة الثورة من أجل ألقاب «شعراء الثورة» أو «أدباء الثورة»، وهؤلاء سرعان ما تلاشت فقاعاتهم، «علينا أن نحذر من هؤلاء (الأدباء الموسميين)». ويضيف: «إذا نظرنا للأحداث الكبرى وما كتب قبلها وما بعدها، مثل النكسة وحرب أكتوبر (تشرين الأول)، فلا يمكن تقييم الكتابة عنها في الفترة اللاحقة لها دون النظر لأهمية الأدب الذي كتب قبلها، في تلك الفترة كانت هناك أصوات في الشعر والرواية تتحدث عن الحريات والانتصار، مثل قصائد أمل دنقل».
عبد المجيد: اخترت الكتابة المباشرة عن الثورة
وحول استعانته بقالب الفانتازيا في روايته الصادرة بداية هذا العام «قطط العام الفائت» عن الدار المصرية اللبنانية، وإذا ما كان ذلك تفاديًا للوقوع في تصنيف نقدي للأعمال التي تناولت الثورة، يقول الروائي إبراهيم عبد المجيد: «الفانتازيا موجودة في رواياتي السابقة كلها ولكن بدرجات، وأكثرها وضوحًا في رواية (مسافات) و(بيت الياسمين) حتى (لا أحد ينام في الإسكندرية) فقد كان المشهد الأخير في نهايتها في قالب فانتازي». ويشير: «اخترت الكتابة عن الثورة بشكل مباشر جدًا في كتابي (لكل أرض ميلاد: أيام التحرير) وهي عبارة عن سيرة ذاتية لمعايشتي لأحداث الثورة. أما فيما يخص (قطط العام الفائت)، فقد عبرت عن الآراء السياسية في صورة مواقف لشخصيات الرواية وعبر الاستعانة بأساطير من الميثيولوجيا اليونانية (بيغاسوس) أو (الحصان المجنح) أو (الكنتاروس) أو (جسد حصان وجذع ورأس إنسان) وتدور الأحداث عام 2011 في بلد اسمه (لاوند) قامت فيه الثورة في اليوم نفسه الذي حدثت فيه الثورة في (مصرايم) المجاورة لها، لكن الحاكم بدلاً من أن يهرب أو يتخلى عن السلطة يلقي بجميع المتظاهرين إلى العام السابق ويقنع الشعب بأن العام هو 2010».
وحول «قرار» الكتابة عن الثورة، قال: «المسألة لا تخضع لقرار ولكن الفكرة ألحت علي وتركتها حتى تختمر وتخرج بتلقائية. بعد الثورة لم أفكر في كتابة الرواية وتركت الفكرة وأثناء إقامتي في مدينة (لاروشيل) الفرنسية على المحيط وجدت الفكرة تلح علي من جديد وبدأت الكتابة وأنجزتها في شهرين، وحينما عدت إلى مصر خلال 6 أشهر وساعدني وجود وقت فراغ كاف للانتهاء منها».
خاض عبد المجيد تجربة إبداعية في روايته «في كل أسبوع يوم جمعة» تلك التي صدرت قبل وقوع الثورة بثلاث سنوات وقدمت رصدًا لحالة التشتت والضياع التي كان يعاني منها المجتمع المصري وهروبه إلى الواقع الافتراضي والتي تسببت في اندلاع الثورة. وهو يعتقد أن «الكتاب الموهوبين عادة ما يسبقون الأحداث السياسية ولا يكونون تابعين لها».
سيد محمود:
أدب انكسار الثورة
أما الناقد والشاعر سيد محمود، رئيس تحرير جريدة القاهرة الثقافية، فقد رصد من خلال قراءاته عددًا من الظواهر التي تجسدت في المشهد الأدبي في الوطن العربي في أعقاب الثورات، ويقول متحدثًا عن المشهد الأدبي السوري: «ما جرى له أصداء في أعمال إبداعية كثيرة وهو أمر نلمسه بوضوح في سوريا حيث كان الأدب كاشفًا لحالة الاحتقان داخل المجتمع وتقدمت أصوات مثل: سمر يزبك، ومها حسن وفواز حداد، خالد خليفة، وخليل صويلح، وياسين حسن، ومنهل السراج ومصطفى خليفة على صعيد الكتابة الروائية، هذه الأصوات كانت تشي بحدوث شيء ما إيجابيًا أو سلبيًا. وحينما حدثت الثورة السورية أصبح هناك نصوص تعبر عن الحالة السورية في الخارج والداخل، تكاد تكون متطابقة لأنه ما أنتج كان خارج الشعار السياسي. وكان لديهم نضج في تجاربهم الأدبية والفنية وقدموا تصورًا عما جرى من منظور فني وإنساني بالغ الأهمية، ومن بين هذه النصوص ظهرت نصوص مباشرة تتبنى فكرة الشعار السياسي سواء مع أو ضد».
وعن المشهد الأدبي المصري قال: «الأمر نفسه موجود في مصر، حيث ظهرت نصوص تمهد لحالة التغيير وتمثلت في ظهور كثير من الكتاب المنخرطين في الحركات السياسية وبعضهم بدأ يقدم رواياته لما جرى، حتى إبراهيم أصلان الذي توفي بعد عام من الثورة كتب عدة نصوص صدرت في كتاب (انطباعات صغيرة حول حادث كبير). وظهرت نصوص تلبي الاحتياج السريع لفكرة الثورة».
ويعتبر محمود أن «الشعر بحكم طبيعته وتكوينه كان أسرع في أن ينخرط مباشرة في دعم الثورة ويلبي خطابها، وكان خطابًا إنشائيًا أكثر من أنه فني. إذا قمنا باستثناء نصوص مهمة في العامية مثل: نصوص مصطفى إبراهيم، أو بالفصحى نص عماد أبو صالح (كنت نائمًا حين قامت الثورة)، لكن ظهرت نصوص كثيرة لشعراء في أجيال مختلفة كانت ذات نبرة خطابية».
أما عن المشهد الروائي فيقول: «مع تقدم الحدث ظهرت نصوص مختلفة عن الثورة، مثل: الإطار الفانتازي في رواية (قطط العام الفائت) لإبراهيم عبد المجيد، و(جبل الزمرد) لمنصورة عز الدين، و(بياض ساخن) سهير المصادفة، و(أن تحبك جيهان) لمكاوي سعيد، و(التماسيح) ليوسف رخا، و(تجربة سيد الأهل) لأحمد صبري أبو الفتوح وكانت كلها عن السياق الثوري».
وتعتبر ظاهرة أدب «الديستوبيا»، وهو الأدب المضاد لـ«اليوتوبيا» - المدينة الفاضلة - هي الملمح الأهم من وجهة نظر الناقد سيد محمود، الذي أفرزته الثورات كرد فعل لانكسار الثورة، أو الواقع المرير، وهو نوع أدبي يمكن أن نسميه الأدب الكابوسي، ومن أبرز الأعمال في هذا النوع: رواية «يوتوبيا» لأحمد خالد توفيق، و«عطارد» محمد ربيع، و«نساء الكارنتينا» نائل الطوخي، و«استخدام الحياة» لأحمد ناجي. هذه الروايات خلقت أحداثها من «المكان الخبيث» وكأنه ملاحق بلعنة ويدفع بالنصوص لتصور مستقبل له طابع كابوسي، وتكون الرواية عنيفة ومتجردة من الإنسانية وكاشفة عن كوارث وجو قابض وتذهب مباشرة للعصب العاري في المجتمع؛ لأن هدفها تعرية الواقع بدلا من تجميله وتختفي وراء المستقبلية والتنبؤ بالمستقبل لتتحرر من سطوة الماضي وقهره».
وحول ما إذا كانت «الديستوبيا» خيارًا مرضيًا للهروب من سطوة التصنيف النقدي والسياسي للأدباء، قال: «أعتقد أنه كان اختيارًا فنيًا أكثر منه خيار سياسي، فمن الأمور الإيجابية أن معظم الكتاب كانوا منخرطين في دعم خطاب الثورة، وقد ظهرت نصوص ممتازة ورصدنا من خلالها تنوعًا جيليًا كبيرًا ما بين الشاب وجيل السبعينات مثلا».
يجد محمود أن «الديستوبيا» هي الملمح الطاغي على المشهد الأدبي في مصر والعراق واليمن كرد فعل للثورات العربية ومآلاتها. ويقول: «نجد هذا الملمح الكابوسي طاغيًا على الأدب المصري الجيد في الفترة الأخيرة، وخصوصًا الشباب الذين كانت لديهم خسارة مباشرة من تراجع الأمل. وهذا النوع من الكتابة موجود في اليمن أو العراق التي تعاني من الصراع السياسي، وأبرزها: «فرانكشتين في بغداد» لأحمد سعداوي، و«يا مريم» لسنان أنطون، وأعمال الروائي العراقي علي بدر».