ساقني حظي السعيد إلى حوار مثمر للغاية مع عالمين للتاريخ والآثار متخصصين في التاريخ المصري الفرعوني والقبطي، ولقد أمضيتُ معهما رحلة زمنية فكرية عميقة تعكس ديناميكية الإنسان وتحركه التاريخي... ذلك المخلوق العظيم الذي صنعه المولى سبحانه وتعالى وميزه بالعقل والفكر. وتشعبت المناقشات وتفرّعت حتى إننا طُفْنا حول التاريخ سواءً أفقيًا أو رأسيًا أو في دوائر بعضها مفرغة وأخرى رأسية. وحقيقة الأمر أننا لم نملك زمام موضوع بعينه، فتحدثنا في كثير من المواضيع التي تمحوَرت حول مصر والمتوسط والشرق الأوسط، ولقد ارتأيت أن أشارك القارئ العزيز في بعض هذه الومضات التاريخية المتناثرة التي أحسب أنها تحتوي على بعض الإضافات الفكرية والتاريخية القيمة على النحو التالي:
أولاً: أن التاريخ الفرعوني يعكس حقيقة أساسية، هي أن الأخطار المحدقة بأرض الكنانة - سواءٌ تلك المتمثلة في الحروب التي خاضها الفراعنة أو المناوشات العسكرية ضدها من جانب القبائل المختلفة - تتسم بسمة أساسية هي أن مصر كانت تُوَاْجَهُ بتحالفاتٍ من دول الجوار وتجمّعات القبائل والعشائر ذات الرغبة في الإغارة على خيراتها على مرّ التاريخ الفرعوني. وكانت الأطراف تجتمع على تشكيل ما يشبه ائتلافًا هدفه إما الإغارة على الدلتا والوادي أو النيل من وحدة الدولة المصرية، وفقًا للظروف التاريخية، فمصر لم تواجه في معظم هذه الفترة التاريخية دولة منفردة بل كانت دائمًا تجمعات قبلية ضدها. ولقد تشكلت بعض هذه الائتلافات من مجموعات من القبائل الليبية والإثيوبية وفي فترات متناثرة يهودية أيضًا، ومن الثابت أثريًا، على سبيل المثال، تحالف القبائل اليهودية مع الليبية خلال الدولة الوسطى في مصر الفرعونية، إلا أن الدولة استطاعت مواجهة مثل هذه التحالفات والتغلب عليها بدرجات متفاوتة، وهو ما يعكس أن مستويات الحروب لم تنحصر فقط في دول بعينها، ولكن تجمعات قبلية أيضًا.
ثانيًا: أن جميع القبائل التي هاجرت إلى مصر سواءً كانت عرقية أو مذهبية الطابع لم تشكل أبدًا كيانًا مستقلاً في مصر، وذلك باستثناء الهكسوس (الملوك الرعاة) الذين احتلوا مصر في القرن السابع عشر قبل الميلاد إلى أن طردهم القائد العظيم أحمس قرابة نصف القرن السادس عشر قبل الميلاد، وهو ما جعل مصر بوتقة انصهار عرقي وفكري وثقافي على مر تاريخها. ذلك أن الثقافة المصرية من القوة بحيث تذوب فيها ثقافات المستعمِر على مر العصور، بعكس دول أخرى استطاع فيها الغازي أن يفرض نمطًا ثقافيًا جديدًا مرتبطًا بثقافته. ثم أن الدولة المصرية في العصر الفرعوني كانت من القوة حتى وهي في أضعف حالاتها السياسية بألا تسمح باستيطان بعض القبائل إلا بإذنٍ من النظام خصوصًا في الوادي والدلتا. بل وتؤكد بعض الاكتشافات أن بني إسرائيل سُمِحَ لهم بالإقامة في مصر فضلاً عن إنشاء علاقات تجارية خارجية شريطة دفع الضرائب والمكوس، وحدد الفرعون المقدار المالي المفروض لصالح الدولة على كل من يعمل في مجال التجارة، وكان من نتيجة عدم دفع الضرائب إما طرد هذه القبائل إلى خارج البلاد أو محاربتها وتأديبها تبعًا لقوة الدولة، بطبيعة الحال.
ثالثًا: يبدو واضحًا أن علاقة مصر بفارس كانت متوترة للغاية حتى قبل الاحتلال الفارسي لمصر على يد قمبيز عام 525 قبل الميلاد، إذ أثبتت الحفريات وجود دلائل قاطعة على حروب وليس مجرد ثورات أو مقاومة شعبية للحكم الفارسي أدت إلى إنهاء حكمهم قرابة عام 404 قبل الميلاد.
وأكد العالمان أن الحفريات أشارت بما لا يدع مجالاً للشك إلى أن المصريين دخلوا في حروبٍ مركزية منظمة ضد الفرس، وهو أيضًا ما يثبته التاريخ اليوناني الذي يؤكد أن من أسباب هزيمة الجيش الفارسي أمام اليونانيين كانت الحرب إبان حكم داريوس، ملك فارس، التي أدت إلى تشتيتٍ ملحوظٍ لقواته لدى محاولته إحكام السيطرة على مصر إبان حملاته على اليونان. ويشدد الخبيران في هذا الشأن أن الرفض الكامل للمحتل أو للانصهار في ثقافته يُعد سمةً أصيلةً ميزت الدولة الفرعونية. ويظهر أن حجم المعارضة المصرية للمحتل الفارسي على وجه الخصوص كانت من أقوى أنواع المعارضات عبر التاريخ المصري. بل ويرجح في هذا الصدد أن من الأسباب الرئيسية وراء قوة المعارضة المصرية للاحتلال الفارسي، إلى جانب فقدان الاستقلال كان سعي الفرس لفرض متغيرات على الهوية الثقافية المصرية، منها الديانة، وهو ما يمثل نقطة محورية في الوعي أو حتى اللاوعي المصري على ما يبدو عبر التاريخ.
رابعًا: يمثل الإسكندر الأكبر أحد أهم نماذج العمق الثقافي المصري. فلقد جاء الرجل وهو متشبّع بالثقافة اليونانية التي اعتبر أنها تسمو على كل الثقافات، بيد أنه كان يكن احترامًا خاصًا لمصر وثقافتها، خصوصًا أنها كانت مصدر الفكر والديانة اليونانية. فمنظومة الآلهة المصرية نُقلت بهياكلها إلى اليونانية وحرى منحها أسماءها الهيلينية (اليونانية). ثم إن مصر كانت مركزًا دينيًا مهمًا إن لم تكن المركز الديني الأساسي في شرق المتوسط. وتشير الروايات إلى أنه ذهب إلى معبد سيوة (غرب مصر) للقاء كبير كهنة آمون قرابة عام 330 قبل الميلاد. واتُفق على رفض فكرة أن الإسكندر زار المعبد تقربًا للمصريين، ذلك أن هذه أسطورة نسجها البعض. فالإسكندر لم يأبه كثيرًا برضا الشعوب عن حكمه ولم يسع أبدًا للتقرب إليهم اعتمادًا على تفوقه العسكري من ناحية. ومن ناحية أخرى لقناعته الشخصية بأن الثقافة الهيلينية كانت أكبر من أن تنزل لمستوى رضا الشعب المُستعمر من ناحية أخرى، وذلك على الرغم من تغير فكره مع مرور الوقت لمحاولة نسج ثقافة إنسانية موحدة مركزها الفكر الهيليني، وعدم إقصاء الثقافات الأخرى.
ولقد زار القائد الشاب بالفعل معبد آمون ليتعرف من كبير الكهنة إذا ما كان ابنًا لكبير الآلهة آمون (زيوس لدى اليونانيين)، في حين تشير تقديرات أخرى إلى أنه أراد إثبات نجاح اليونانيين فيما فشل فيه الفرس، وهو اختراق الصحراء الغربية وصولاً إلى الواحات. ويغلب التقدير الأول على باقي التقديرات الأخرى، إذ إنه من الثابت أن القائد الشاب استمع إلى جملة كبير الكهنة - وهي غير موثقة تاريخيًا - وفسرها على أنها تأكيد لكلام أمه التي كانت قد أقنعته بأنه ابن الإله «زيوس». وهذا ما يفسر تسجيل الإسكندر اسمه على لوح من الغرانيت في معبد الأقصر على أنه من سليل الآلهة. وهكذا، فإن تأثير الأم قد يكون في كثير من الأحيان سببًا مباشرًا إلى التدمير النفسي للابن، خصوصًا إذا ما أقنعته أنه فوق كل من حوله، ولعل هذا ما يفسر الاضطراب النفسي الذي لازم الإسكندر الأكبر طيلة عمره، والذي انعكس على كثير من سلوكياته.
لقد ارتأيت أن أشارك القارئ معي في هذه الومضات التاريخية، بعيدًا عن المواضيع الدسمة فكريًا وتاريخيًا، على أن نستكمل في الأسبوع المقبل نهاية الدولة العثمانية، ومولد تركيا الحديثة على أيدي القائد التركي مصطفى كمال، الملقب بـ«أتاتورك».
من التاريخ: حوار الأثريين
من التاريخ: حوار الأثريين
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة