من التاريخ: حوار الأثريين

من التاريخ: حوار الأثريين
TT

من التاريخ: حوار الأثريين

من التاريخ: حوار الأثريين

ساقني حظي السعيد إلى حوار مثمر للغاية مع عالمين للتاريخ والآثار متخصصين في التاريخ المصري الفرعوني والقبطي، ولقد أمضيتُ معهما رحلة زمنية فكرية عميقة تعكس ديناميكية الإنسان وتحركه التاريخي... ذلك المخلوق العظيم الذي صنعه المولى سبحانه وتعالى وميزه بالعقل والفكر. وتشعبت المناقشات وتفرّعت حتى إننا طُفْنا حول التاريخ سواءً أفقيًا أو رأسيًا أو في دوائر بعضها مفرغة وأخرى رأسية. وحقيقة الأمر أننا لم نملك زمام موضوع بعينه، فتحدثنا في كثير من المواضيع التي تمحوَرت حول مصر والمتوسط والشرق الأوسط، ولقد ارتأيت أن أشارك القارئ العزيز في بعض هذه الومضات التاريخية المتناثرة التي أحسب أنها تحتوي على بعض الإضافات الفكرية والتاريخية القيمة على النحو التالي:
أولاً: أن التاريخ الفرعوني يعكس حقيقة أساسية، هي أن الأخطار المحدقة بأرض الكنانة - سواءٌ تلك المتمثلة في الحروب التي خاضها الفراعنة أو المناوشات العسكرية ضدها من جانب القبائل المختلفة - تتسم بسمة أساسية هي أن مصر كانت تُوَاْجَهُ بتحالفاتٍ من دول الجوار وتجمّعات القبائل والعشائر ذات الرغبة في الإغارة على خيراتها على مرّ التاريخ الفرعوني. وكانت الأطراف تجتمع على تشكيل ما يشبه ائتلافًا هدفه إما الإغارة على الدلتا والوادي أو النيل من وحدة الدولة المصرية، وفقًا للظروف التاريخية، فمصر لم تواجه في معظم هذه الفترة التاريخية دولة منفردة بل كانت دائمًا تجمعات قبلية ضدها. ولقد تشكلت بعض هذه الائتلافات من مجموعات من القبائل الليبية والإثيوبية وفي فترات متناثرة يهودية أيضًا، ومن الثابت أثريًا، على سبيل المثال، تحالف القبائل اليهودية مع الليبية خلال الدولة الوسطى في مصر الفرعونية، إلا أن الدولة استطاعت مواجهة مثل هذه التحالفات والتغلب عليها بدرجات متفاوتة، وهو ما يعكس أن مستويات الحروب لم تنحصر فقط في دول بعينها، ولكن تجمعات قبلية أيضًا.
ثانيًا: أن جميع القبائل التي هاجرت إلى مصر سواءً كانت عرقية أو مذهبية الطابع لم تشكل أبدًا كيانًا مستقلاً في مصر، وذلك باستثناء الهكسوس (الملوك الرعاة) الذين احتلوا مصر في القرن السابع عشر قبل الميلاد إلى أن طردهم القائد العظيم أحمس قرابة نصف القرن السادس عشر قبل الميلاد، وهو ما جعل مصر بوتقة انصهار عرقي وفكري وثقافي على مر تاريخها. ذلك أن الثقافة المصرية من القوة بحيث تذوب فيها ثقافات المستعمِر على مر العصور، بعكس دول أخرى استطاع فيها الغازي أن يفرض نمطًا ثقافيًا جديدًا مرتبطًا بثقافته. ثم أن الدولة المصرية في العصر الفرعوني كانت من القوة حتى وهي في أضعف حالاتها السياسية بألا تسمح باستيطان بعض القبائل إلا بإذنٍ من النظام خصوصًا في الوادي والدلتا. بل وتؤكد بعض الاكتشافات أن بني إسرائيل سُمِحَ لهم بالإقامة في مصر فضلاً عن إنشاء علاقات تجارية خارجية شريطة دفع الضرائب والمكوس، وحدد الفرعون المقدار المالي المفروض لصالح الدولة على كل من يعمل في مجال التجارة، وكان من نتيجة عدم دفع الضرائب إما طرد هذه القبائل إلى خارج البلاد أو محاربتها وتأديبها تبعًا لقوة الدولة، بطبيعة الحال.
ثالثًا: يبدو واضحًا أن علاقة مصر بفارس كانت متوترة للغاية حتى قبل الاحتلال الفارسي لمصر على يد قمبيز عام 525 قبل الميلاد، إذ أثبتت الحفريات وجود دلائل قاطعة على حروب وليس مجرد ثورات أو مقاومة شعبية للحكم الفارسي أدت إلى إنهاء حكمهم قرابة عام 404 قبل الميلاد.
وأكد العالمان أن الحفريات أشارت بما لا يدع مجالاً للشك إلى أن المصريين دخلوا في حروبٍ مركزية منظمة ضد الفرس، وهو أيضًا ما يثبته التاريخ اليوناني الذي يؤكد أن من أسباب هزيمة الجيش الفارسي أمام اليونانيين كانت الحرب إبان حكم داريوس، ملك فارس، التي أدت إلى تشتيتٍ ملحوظٍ لقواته لدى محاولته إحكام السيطرة على مصر إبان حملاته على اليونان. ويشدد الخبيران في هذا الشأن أن الرفض الكامل للمحتل أو للانصهار في ثقافته يُعد سمةً أصيلةً ميزت الدولة الفرعونية. ويظهر أن حجم المعارضة المصرية للمحتل الفارسي على وجه الخصوص كانت من أقوى أنواع المعارضات عبر التاريخ المصري. بل ويرجح في هذا الصدد أن من الأسباب الرئيسية وراء قوة المعارضة المصرية للاحتلال الفارسي، إلى جانب فقدان الاستقلال كان سعي الفرس لفرض متغيرات على الهوية الثقافية المصرية، منها الديانة، وهو ما يمثل نقطة محورية في الوعي أو حتى اللاوعي المصري على ما يبدو عبر التاريخ.
رابعًا: يمثل الإسكندر الأكبر أحد أهم نماذج العمق الثقافي المصري. فلقد جاء الرجل وهو متشبّع بالثقافة اليونانية التي اعتبر أنها تسمو على كل الثقافات، بيد أنه كان يكن احترامًا خاصًا لمصر وثقافتها، خصوصًا أنها كانت مصدر الفكر والديانة اليونانية. فمنظومة الآلهة المصرية نُقلت بهياكلها إلى اليونانية وحرى منحها أسماءها الهيلينية (اليونانية). ثم إن مصر كانت مركزًا دينيًا مهمًا إن لم تكن المركز الديني الأساسي في شرق المتوسط. وتشير الروايات إلى أنه ذهب إلى معبد سيوة (غرب مصر) للقاء كبير كهنة آمون قرابة عام 330 قبل الميلاد. واتُفق على رفض فكرة أن الإسكندر زار المعبد تقربًا للمصريين، ذلك أن هذه أسطورة نسجها البعض. فالإسكندر لم يأبه كثيرًا برضا الشعوب عن حكمه ولم يسع أبدًا للتقرب إليهم اعتمادًا على تفوقه العسكري من ناحية. ومن ناحية أخرى لقناعته الشخصية بأن الثقافة الهيلينية كانت أكبر من أن تنزل لمستوى رضا الشعب المُستعمر من ناحية أخرى، وذلك على الرغم من تغير فكره مع مرور الوقت لمحاولة نسج ثقافة إنسانية موحدة مركزها الفكر الهيليني، وعدم إقصاء الثقافات الأخرى.
ولقد زار القائد الشاب بالفعل معبد آمون ليتعرف من كبير الكهنة إذا ما كان ابنًا لكبير الآلهة آمون (زيوس لدى اليونانيين)، في حين تشير تقديرات أخرى إلى أنه أراد إثبات نجاح اليونانيين فيما فشل فيه الفرس، وهو اختراق الصحراء الغربية وصولاً إلى الواحات. ويغلب التقدير الأول على باقي التقديرات الأخرى، إذ إنه من الثابت أن القائد الشاب استمع إلى جملة كبير الكهنة - وهي غير موثقة تاريخيًا - وفسرها على أنها تأكيد لكلام أمه التي كانت قد أقنعته بأنه ابن الإله «زيوس». وهذا ما يفسر تسجيل الإسكندر اسمه على لوح من الغرانيت في معبد الأقصر على أنه من سليل الآلهة. وهكذا، فإن تأثير الأم قد يكون في كثير من الأحيان سببًا مباشرًا إلى التدمير النفسي للابن، خصوصًا إذا ما أقنعته أنه فوق كل من حوله، ولعل هذا ما يفسر الاضطراب النفسي الذي لازم الإسكندر الأكبر طيلة عمره، والذي انعكس على كثير من سلوكياته.
لقد ارتأيت أن أشارك القارئ معي في هذه الومضات التاريخية، بعيدًا عن المواضيع الدسمة فكريًا وتاريخيًا، على أن نستكمل في الأسبوع المقبل نهاية الدولة العثمانية، ومولد تركيا الحديثة على أيدي القائد التركي مصطفى كمال، الملقب بـ«أتاتورك».



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».