مينا العريبي
صحافية عراقية-بريطانية، رئيسة تحرير صحيفة «ذا ناشونال» مقرها أبوظبي. عملت سابقاً مساعدة لرئيس تحرير صحيفة «الشرق الأوسط»، وقبلها كانت مديرة مكتب الصحيفة في واشنطن. اختارها «منتدى الاقتصاد العالمي» ضمن القيادات العالمية الشابة، وتكتب عمود رأي في مجلة «فورين بوليسي».
TT

هل العزلة مصير أميركا بقيادة ترامب؟

أيام قليلة تفصل دونالد ترامب عن تسلم مقاليد الحكم في الولايات المتحدة. طبيعة الرئاسة الأميركية المقبلة ستحددها شخصية ترامب والدائرة المقربة المحيطة به، بالإضافة إلى مدى تعاون الكونغرس مع البيت الأبيض، علمًا بأن الحزب الجمهوري ما زال منقسمًا بخصوص التعاطي مع ترامب حول قضايا عديدة. فعلى عكس العادة، ترامب غير ملتزم بآيديولوجيا معينة ولم يخرج من أوساط حزبية تحدد نهجه. وذلك يزيد من غموض المرحلة المقبلة. ولكن شعار «أميركا أولاً» الذي تبناه ترامب خلال حملته الانتخابية وجعله إحدى ركائزها، يوحي بطريقة تعاطيه مع السياسة الخارجية. كما أن إعلان ترامب بانتهاء عهد سياسات «بناء الدول»، على غرار ما وعد به جورج بوش الابن وفشل، يؤكد عزمه تقليص مساهمة بلاده بأوساط التنمية في العالم. ومع تعهده بإنهاء اتفاقيات تجارة خارجية مثل اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية «نافتا» (بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك) وفرض قيود على الشركات الأميركية في تعاملاتها الدولية، يبدو أن ترامب يفضل عزلة بلاده.
ولكن ليس كل ما يتعهد به الرئيس يمكن تحقيقه، خصوصًا في دولة بتعقيد الولايات المتحدة وتمددها عالميًا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. فلدى الولايات المتحدة أكثر من 800 قاعدة عسكرية في نحو 70 دولة، كما أنها تقود التحالف الدولي ضد «داعش» وتقوم بعمليات عسكرية في العراق وأفغانستان واليمن والصومال وليبيا وباكستان - بعضها عبر الطائرات دون طيار وأخرى ضمن وجود عسكري فعال. وعند وصول ترامب إلى البيت الأبيض، سيكون هناك 8400 جندي أميركي في أفغانستان، وأكثر من 5 آلاف جندي في العراق. ومن المرتقب أن يؤثر الجنرالات المحيطون بترامب، خصوصًا وزير الدفاع المرشح الجنرال جيمس ماتيس ومستشار أمنه القومي مايكل فلين، في قراراته العسكرية. وإذا كان النظر إلى «العزلة» على أنها سياسة عدم التدخل العسكري الخارجي، إلا في حال الدفاع عن النفس، فسيكون على إدارة ترامب الخروج من العراق وأفغانستان خلال مرحلة حرجة.
وأما من الناحية الاقتصادية، فإن ترامب يعلم من خلال تجارة شركاته، أهمية التعاملات الدولية. وبحسب مكتب الإحصاء الاقتصادي الأميركي، أضافت الأذرع الخارجية للشركات الأميركية 869.1 مليار دولار للاقتصاد الأميركي عام 2014. وبما أن الدولار الأميركي يمثل 80 في المائة من إجمالي معاملات العملة حول العالم، فمن المرتقب أن تعمل الإدارة الجديدة على تعزيز مكانة الدولار عالميًا. لكن ذلك لن يحد من جهود ترامب في إحراج شركات كبرى من أجل تركيز نشاطاتها داخل الولايات المتحدة بدلاً من الخارج. وهذا ما شهدناه مع شركة «فورد» التي وصف خططها ببناء منشأة في المكسيك بـ«الشائنة» خلال الحملة الانتخابية، لتعلن الشركة بداية العام بأنها ستلغي المشروع الذي كان من المرتقب أن يكلف 1.6 مليار دولار، مستبدلة بذلك المشروع استثمار 700 مليون دولار في منشأة موجودة بولاية ميشيغان.
المصالح الاقتصادية والترتيبات العسكرية الأميركية تشير إلى بقاء الولايات المتحدة لاعبًا أساسيًا على المسرح الدولي، ولكن بنكهة جديدة خلال رئاسة ترامب. العزلة الأميركية المحتملة ستأتي عند معالجة المشكلات العالمية بالعمل الجماعي. فبناء التحالفات الدولية يعتمد على قيادة حكيمة تستطيع التنازل في الوقت المناسب. ولكن كل ما نعرفه عن ترامب يدل على انعدام قدرته على التنازل. كما أن هذه التحالفات بحاجة إلى دبلوماسية مرموقة لم يثبت ترامب قدرته عليها بعد، بل على العكس خرجت منه تصريحات بعيدة كل البعد عن الدبلوماسية وخطاب رجل الدولة.
ومنذ إعلان فوز ترامب بالرئاسة الأميركية صباح 9 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أخذ العالم يراقب الأخبار الخارجة من «برج ترامب» وسط مانهاتن، حيث يقوم الرئيس الأميركي المنتخب بوضع اللمسات الأخيرة على إدارته التي ستتولى مهام قيادة الولايات المتحدة ابتداء من يوم 20 يناير (كانون الثاني) الحالي. وبترشيحه الرئيس التنفيذي لشركة «إكسون موبايل» ريكس تليرسون لمنصب وزير الخارجية وجيمس ماتيس لمنصب وزير الدفاع، اختار ترامب شخصيتين منفتحتين على العالم. لكن من غير المعلوم حتى الآن مدى الحرية التي سيتمتعان بها في التأثير في قراراته الدولية.
وهناك مخاوف في عواصم عالمية مثل طوكيو وسيول وبرلين وبغداد وكابل ولندن من تبعات العزلة الأميركية المحتملة. ولكن السؤال هو: ماذا نعني بالوجود الأميركي؟ فإذا كان المقصود الوجود العسكري، فهو مستمر في العراق وأفغانستان بعد 8 سنوات من وعود الرئيس الأميركي باراك أوباما بالانسحاب منهما. وإذا كان الوجود الاقتصادي، فتصريحات ترامب تظهر رغبته في تقوية الاقتصاد الأميركي، وهذا أمر مستحيل من دون اقتصاد عالمي قوي. ولكن الأمر متعلق بالوجود السياسي واستخدام النفوذ الأميركي. وهنا التأثير الروسي على ترامب قد يقلص النفوذ السياسي الأميركي، كما أن وجود رئيس أميركي مستعد للدخول في مهاترات عبر «تويتر» يقلل من ذلك النفوذ.
إلا أن ترامب يعتبر أن هذا ما يريده الناخبون الذين أوصلوه إلى البيت الأبيض. وتشير استطلاعات الرأي إلى تفضيل أكثر من 50 في المائة من الناخبين الأميركيين للانعزال عن العالم في الفترة الحالية. ففي أعقاب الحرب في العراق والأزمة المالية العالمية عام 2009، لم يعد الشعب الأميركي يكترث للعب دور دولي. ومن المرتقب أن تستحوذ السياسة الداخلية ونقض قرارات وقوانين الرئيس الأميركي المنتهية ولايته أوباما، خصوصًا تلك المتعلقة بالرعاية الصحية، على اهتمام ترامب.
ولكن إذا نظرنا إلى التاريخ، فإن حقبات الانعزال الأميركي عادة تنتهي مع وقوع أحداث من الصعب التنبؤ بها، مثل الهجوم على «بيرل هاربور» عام 1941 وهجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001. ومع اضطرابات العالم الحالية، ليس من المستبعد أن تجبر الأحداث ترامب على اتخاذ مواقف مختلفة عن تلك التي صدرت منه قبل أن يحمل عبء مسؤولية قيادة الدولة الأقوى عالميًا.