محمد الرميحي
أستاذ الاجتماع السياسي في جامعة الكويت. مؤلف عدد من الكتب حول مجتمعات الخليج والثقافة العربية. رئيس تحرير مجلة «العربي» سابقاً، ومستشار كتب «سلسلة عالم المعرفة». شغل منصب الأمين العام لـ«المجلس الوطني للثقافة» في الكويت، وعضو عدد من اللجان الاستشارية في دولة الكويت. مساهم بنشر مقالات ودراسات في عدد من الصحف والمجلات المختصة والمحكمة.
TT

التعذيب في سجون الأسد

«كان من الواضح عندما أُعيدَت جثة حازم علي الخطيب إلى أهله، أنه تعرض لتعذيب مبرح؛ كان جسده محرقًا بأعقاب السجاير، وجلده ممزقًا، وفكه وركبتاه قد سُحقت، وقُطع عضوه الذكري»، ما تقدم ليس مقطعًا من منشورات أو أدبيات المعارضة السورية، وليس أيضًا من مجموعات عربية معادية للنظام السوري.. المقطع هو باختصار مقدمة لمقال طويل نُشر في مجلة «إيكونوميست» البريطانية، عدد الأسبوع الماضي، وفي هذا المقال مجموعة متنوعة من أشكال التعذيب الموثقة التي يتعرض لها المواطنون السوريون، ومن يقرأ التفاصيل الكثيرة يقشعِر بدنه ويصل إلى اقتناع بأن من قام بكل ذلك يجب ألا يُصنّفوا من ضمن نوع البشر، ولا ربما حتى الشياطين، هو جنس آخر له مواصفات أخرى، كل جريمة حازم التي استحق عليها التعذيب إلى الموت أنه اشترك فقط في مظاهرة سلمية تعبِّر عن رأيه ورفاقه بأنهم ضاقوا ذرعًا بهذا النظام المخابراتي الذي أصبح فيه الإنسان السوري ليس إنسانًا، بل مُجرد رقم، وأصبحت فيه السجون والمعتقلات أكثر من المشافي والمدارس على الأرض السورية. غير مرة رُفعت مطالبات من المجتمع الدولي لإدانة النظام السوري في المؤسسات الدولية على أنه نظام يجب أن يُدانَ بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، حسب القانون الدولي، ولكن في كل مرة تقف روسيا أمام تلك المطالب في مجلس الأمن باستخدام قوة الرفض! فتسقط المطالبة، لا يتوقع أحد أن يكون كل المجتمع الدولي عادلاً وإنسانيًا، فبعض الدول تضرب بالقيم الإنسانية الكبرى عرض الحائط، لأنها تمارس ضد شعوبها قدر العسف نفسه الذي يفرضه الدكتاتوريون على شعوبهم، كما يفعل بشار الأسد.
ما يحدث في سوريا أعظم من جرائم ضد السوريين. إنها جرائم ضد الإنسانية، بما تحتويه من تنوع وحتى اختلاف. لقد أصبح اللاجئون السوريون مشتتين في كل مكان من المعمورة، فارين بجلدهم من الجحيم، بعضهم يلقي بأطفاله في البحر، لربما التقطتهم أي من سفن الإنقاذ لتقدم لهم في مكان آخر فرص الحياة الكريمة، وبعضهم قد انتهى به المطاف في مخيم يفتقد الحد الأدنى من الاحتياجات الإنسانية الأولية. أسر بسيطة ومؤهلون في الطبابة والهندسة ومثقفون ومعلمون وعدد لا يحصى من البسطاء من الشعب، جميعهم طاردهم نظام بشار الأسد، واقتلعهم من مسكنهم إلى المجهول، وكانوا أمام خيارين لا ثالث لهما؛ إما التعذيب حتى الموت، أو القتل المباشر بقنابل الأسد وبراميله المتفجرة.
من جهة أخرى، فإن بشار الأسد يعلن من خلال مقابلة مع وسائل الإعلام الفرنسية أنه مُستعد لأن يبحث كل شيء في مؤتمر آستانة، ما عدا ذهابه وتخليه عن السلطة، لأن ذلك «مخالف للدستور»، ليس أكثر من الاستهانة بالعقول إلا عند الحديث عن الدستور السوري، الذي كما يعرف الجميع غيرت نصوصه في أقل من ساعات كي يتمكن بشار من المجيء إلى السلطة بعد أبيه حافظ، وأطيح بالحد الأدنى لسن الرئيس في الدستور كي تنسجم مع سن الشاب الصغير بشار الأسد!
إن كان تعديل الدستور بهذه البساطة وبهذه الخفة ليلائم سن الحدث الصغير، فالأولى أن يغير بعض نصوصه بعد قتل نصف مليون سوري، وتهجير أربعة ملايين على الأقل، ومحو مدن وبلدات بكاملها من الخريطة السورية!
في مؤتمر آستانة، إذا عُقد، سوف يُستهزأ من جديد بالعقول، لأن المطلب الوحيد والأساسي للشعب السوري هو ذهاب بشار الأسد، وتسليم الحكم في سوريا إلى الشعب السوري، غير هذا يعني ببساطة استمرار المأزق السوري، واستمرار حرب شعواء قد تأكل ما بقي من سوريا، وأيضًا التقسيم المؤكد لخريطة سوريا. ليس من المتوقع أن يفهم بشار ومعاونوه أن المخرج الحقيقي لكل هذه المأساة الإنسانية أن يرحل! فهو من خلال نشوة ما بعد حلب يعتقد أن انتصارًا ما قد حدث، وأنه يُمكن أن يبقى، والفخ المنصوب في آستانة للشعب السوري بكل طوائفه أن «اقبلوا بالأسد في مرحلة انتقالية»، وإن وافقت المعارضة السورية أو بعضها على ذلك، فإنها سوف تقع في الفخ الذي نُصِبَ لها، لأن ما وراء هذا العرض هو أن تتفتت مع الزمن عزيمة الشعب السوري للمطالبة برحيل من قتَلَ أبناءهم وهدم مدنهم، ومن ثم تتفرق قوتهم، وتضعف شكيمتهم، ويسحب البساط من تحت المطالب المحقة للشعب السوري، التي هي لا أكثر من أن يعيش شعب في بلده بحرية دون وصاية الأجهزة ورقابتها على أنفاسه!
وجب على المعارضة السورية بكل توجهاتها أولا أن ترص صفوفها وتمنع الاختراق لصالح أي من القوى المجاورة، وثانيًا أن تقرأ الحراك الروسي على حقيقته، فروسيا تبين لها أنها دخلت في «عش زنابير» في سوريا، وأن استمرار الصراع يعني استمرار استنزاف الموارد الروسية التي هي في الأصل شحيحة نسبيًا، وبدأ بعض محلليها يتنبهون إلى أن إطلاق يدهم في سوريا جاء من جانب الغرب لغرض، هو أن تغوص أكثر في مشكلة طرفها شعب يرغب في التحرر، ومستعد لأن يقدم التضحيات. سوريا لروسيا الاتحادية، هي مثل أفغانستان للاتحاد السوفياتي، تختلف التفاصيل، ولكن الجوهر يبقى ثابتًا، لذلك ما إن تُوصِّل إلى اتفاق مبدئي للذهاب إلى آستانة، حتى أعلنت روسيا فورًا وللمرة الثانية خلال السنة والنصف سنة الماضية، بدء الانسحاب! هي إشارة إلى الداخل الروسي المتململ والمحمل بعقد أفغانستان التاريخية. في الطرف التركي، واضح أن الثمن الذي تدفعه تركيا في الأزمة أصبح غاليًا لا قبل لها باستمراره؛ فهي تبحث من طرفها عن مخرج، وليست طهران ببعيدة عن ذلك، فبعد نحو ست سنوات من استنزافها وحلفائها في الساحة السورية لم تعد قادرة على الاستمرار، على الرغم من القناع الشجاع الذي يضعه النظام السوري على وجهه، ويبشر أنصاره بقدوم الانتصار، فإن ذلك لا يعدو أن يكون للاستهلاك المحلي، فهو أضعف بكثير مما بدا، وأول من يعرف أن الشعب السوري المقاوم للنظام لديه الاستعداد والقدرة على مواصلة استنزافه، حتى لو اشترى بعض الوقت في حلب أو في غيرها من المدن السورية.
على تلك الخلفية يجب أن تعمل قوى المقاومة السورية، لا على غيرها، والمطلوب اليوم هو الثبات على مبدأ رحيل النظام من جهة، ومبدأ المحاسبة من جهة أخرى، فيجب ألا يذهب دم ومقاومة حازم علي الخطيب ومئات الآلاف من أمثاله سدى، ذلك لن يسمح به الشعب السوري، كما أنه ضد منطق التاريخ!

آخر الكلام:
نبارك لصديقنا وزميلنا في هذه الصحيفة الدكتور رضوان نايف السيد حصوله على الجائزة العالمية (جائزة الملك فيصل للدراسات الإسلامية) التي أثبتت على مر السنين قيمتها المعنوية العالية في مسيرة الدعم العلمي العربي والإسلامي، وتحمل اسم أحد رجالات العرب التاريخيين.