عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

الحرب المفتوحة في واشنطن

ما يحدث في واشنطن منذ أسابيع لا يمكن وصفه إلا بأنه حرب مفتوحة، لم تنجح كل المظاهر الدبلوماسية في إخفائها؛ فالرئيس المنتخب دونالد ترامب والرئيس المغادر بعد أيام باراك أوباما بينهما رقعة شاسعة من الخلافات في السياسات، وتاريخ من العلاقات المتوترة يعود إلى الحملة الشرسة، التي شنها الملياردير المثير للجدل، للتشكيك في شهادة ميلاد وأهلية أول رئيس أسود للولايات المتحدة.
ما زاد الأمور سوءًا أن ترامب لا يعرف دبلوماسية الصمت، ولا يستطيع مقاومة إغراء «تويتر» الذي حل لديه محل المتحدث باسم الرئيس. هكذا خرج الرئيس المنتخب بمواقف وسياسات بدت متناقضة مع البيت الأبيض مما صعّد المواجهة بينه وبين إدارة أوباما، ووضعها في مجهر وسائل الإعلام التي وجدت فيها مادة مثيرة دسمة، تكسر رتابة الفترة الانتقالية.
القاعدة التقليدية في أميركا أنه لا يمكن لرئيسين أن يجلسا على كرسي واحد، وأن يحكم البلد برأسين، ولذلك جرى العرف على أن يمتنع الرئيس المنتخب عن التدخل في القرارات والسياسات خلال الفترة الانتقالية، وأن يسمح للرئيس المغادر أن يمارس دوره وصلاحياته حتى آخر يوم في رئاسته. لكن الأمور لم تسر دائمًا وفق ما يراد لها مما جعل تاريخ الفترات الانتقالية حافلاً بخلافات مشهودة.
توترات الفترات الانتقالية هي التي دفعت الرئيس الأميركي الأسبق فرانكلين روزفلت لتبني تعديل أقر في عام 1933 لاختصار الفترة الانتقالية التي كانت أربعة أشهر تمتد من انتخابات الرئاسة في نوفمبر (تشرين الثاني) وحتى موعد تنصيب الرئيس الجديد في 4 مارس (آذار). ووفقًا لذلك التعديل أصبح تاريخ تنصيب الرئيس المنتخب في 20 يناير (كانون الثاني) وصارت الفترة الانتقالية شهرين ونصف الشهر تقريبًا. روزفلت تبنى ذلك التعديل بعدما عانى من التوتر والتجاذبات مع سلفه هربرت هوفر، الذي قيل إنه كان يرفض الحديث مباشرة مع خلفه ويسعى لوضع عراقيل أمامه.
أوباما وترامب لا يرفضان التحدث مع بعضهما، ويحاولان تغليف التوتر في علاقاتهما الشخصية بشيء من الكياسة الدبلوماسية، لكنهما يخوضان في الوقت ذاته مواجهة شرسة. فعندما تصدى الرئيس المنتخب لقرار مجلس الأمن الدولي الذي يدين الاستيطان الإسرائيلي وسعى لإحباطه بالضغط على إدارة أوباما وبإجراء اتصالات مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وصف الأمر بأنه تجاوز من الرئيس المنتخب وتدخل في صلاحيات الرئيس الجالس في البيت الأبيض. وعندما دعا ترامب إسرائيل بعد تبني القرار في مجلس الأمن إلى أن «تبقى صامدة»، حتى 20 يناير، بدا أنه يوجه ضربة علنية لإدارة أوباما ويقوض موقفها وسياساتها أمام العالم.
أكثر تدخلات ترامب إثارة للجدل كان موقفه من اتهام إدارة أوباما وأجهزة الاستخبارات الأميركية لروسيا بالقرصنة الإلكترونية وسرقة وثائق وإيميلات من مسؤولي الحزب الديمقراطي وتسريبها بغرض التأثير على نتائج انتخابات الرئاسة. فقد شكك في هذه الاتهامات أكثر من مرة، وأوحى بأنها مؤامرة لإضعاف موقفه والتشكيك في فوزه بالانتخابات، وللتأثير على سياسته المزمعة للتقارب مع روسيا. وعلى الرغم من الانتقادات التي واجهها بسبب موقفه هذا، فإنه لم يتراجع عنه بل ذهب إلى حد تهنئة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على قراره بعدم الرد على خطوة إدارة أوباما بطرد 35 دبلوماسيا روسيًا على خلفية أزمة القرصنة الإلكترونية. كما قال لوسائل الإعلام إنه يملك ويعرف معلومات سرية لا يعرفها الآخرون تجعله يرفض الاتهامات لروسيا، مشيرًا إلى أن «أطرافا أخرى» ربما قامت بالقرصنة الإلكترونية خلال فترة الانتخابات.
إدارة أوباما من جانبها لا تقف مكتوفة الأيدي وترفض أن تتصرف على أنها «بطة عرجاء» في الفترة الانتقالية المتبقية من عمرها. فقد اتخذت سلسلة من الخطوات التي رأى فيها ترامب محاولة لتقييده، أو لوضع متاريس مشتعلة في طريقه على حد تعبيره. كما تبنت سلسلة من القرارات والإجراءات لحماية إرثها، الذي توعدت إدارة ترامب بأنها ستعمل على إزالته. من أوضح هذه القرارات على الصعيد الداخلي كان القرار الرئاسي الذي أصدره أوباما الشهر الماضي بمنع أي عمليات تنقيب جديدة عن النفط والغاز في مساحات شاسعة قبالة سواحل ألاسكا وقسم من ساحل المحيط الأطلسي، وهو قرار لحماية السياسات البيئية للإدارة المغادرة وعرقلة أي محاولة من الإدارة المقبلة للتنقيب في هذه المناطق.
أوباما سيقضي الأيام المتبقية من عمر إدارته، كما يبدو، في محاولة التصدي لخطط إدارة ترامب لإزالة إرثه السياسي. ولهذا الغرض اجتمع أمس مع قيادات الديمقراطيين في الكونغرس وتباحث معهم حول كيفية حماية بعض أهم إنجازات إدارته وفي مقدمتها نظام الرعاية والتأمين الصحي المعروف باسم «أوباما كير». هذا الاجتماع قد لا يكون كافيًا، مما يعني أن أوباما قد لا يلتزم سياسة الصمت بعد خروجه من البيت الأبيض، وتبقى الحرب بينه وبين ترامب متأججة لفترة طويلة مقبلة.