فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

الإرهاب في أوروبا... نقمة الآيديولوجيا على الحضارات

منذ فبراير (شباط) من هذا العام شهدت ألمانيا صنوفًا من الإرهاب المنظّم. من طعن الشرطي، إلى حادثة معبد السيخ، مرورًا باعتداء شاب هارب من أفغانستان على ركاب أحد القطارات. ولم تنتهِ عند أحداث قتل واغتيال للشرطة، وتسريب فيديوهات تهدد الألمان بـ«الانتقام». معلوم أن ألمانيا غامرت بإيواء قدرٍ كبيرٍ من اللاجئين، مما منح أصوات اليمين مشروعيةً بالطرح، بوصفها حاميةً للهويّة الأصلية، ومدافعة عن ألمانيا قومًا وجذرًا، وهو تحوّل بالثقافة الألمانية الباردة تجاه الأجنبي وذلك ضمن اعتياد ثقافي ورسم قانوني.
الصوت المناوئ للاجئين والمهاجرين أخذ تصاعده بعد حادث الدهس بسوق عيد الميلاد ببرلين، الذي أودى بحياة اثني عشر شخصًا، وأكثر من أربعين جريحًا. ردة الفعل الأكثر دويًا كانت من حزب البديل لأجل ألمانيا «إيه إف دي» المعارض للاتحاد الأوروبي والمعادي للاجئين، حيث دعا صراحةً إلى: «تطبيق حظر فوري على دخول أي أشخاص غير معروفي الهوية إلى ألمانيا».
كل هذه التعليقات تعيدنا إلى مشكلة الهويّة الإسلامية، وعلاقتها مع الهويّات الأوروبية الأخرى.
لقد شكّلت عواصم أوروبية في الثلث الأخير من القرن العشرين جنةً باردةً لرموز الإسلام السياسي، مستغلين الحريات، ومتسللين من «روح القوانين» على حد تعبير مونتسكيو. استغلوا الحقوق، واستفادوا من القيم الأوروبية، المتيحة للغريب فرص العودة إلى هذه الديار حين يخر السقف من فوقهم، أو تضيق بهم ديارهم، أو تطاردهم حكوماتهم، أو تزلزل الأرض من تحتهم.
غير أن المرحلة لن تطول، وآية ذلك أن البركان النقدي ضد المهاجرين والغرباء والمتطرفين قد تفجّر بفرنسا منذ أحداث «شارلي إيبدو». على سبيل المثال، نشر آلان غريش رئيس التحرير السابق لـ«لوموند ديبلوماتيك» بعد الحادثة كتابًا بعنوان: «الإسلام، الجمهورية، العالم» المؤلف مشهور بانتمائه اليساري. مباشرةً وبعد أن افتتح الكتاب بقراءةٍ لحادثة «شارلي إيبدو»، خصص أبوابًا عن «حرب وصدام الحضارات» تضمّن بالطبع أمنيات ومواعظ حسنة للساسة والحكومات الغربية بأن يكونوا جيدين تجاه المسلمين، لأنهم غير مضرّين، ومن يمارس الأعمال الإرهابية لا يمثلهم.
يردّ غريش بالكتاب على أطروحة برنارد لويس التي تقول: «إن الحقد يذهب إلى ما هو أبعد من حالةِ العداوة إزاء بعض المصالح أو الأعمال الخاصة، أو حتى إزاء بلدانٍ معيّنة، ليصبح رفضًا للحضارة الغربية كما هي، وهو كره ليس لما تفعله فقط، وإنما لما هي عليه وللمبادئ والقيم التي تطبقها، أو تجاهر بها». يردّ غريش: «هذا التصوّر يستتبع أن لا جدوى من إيلاء الأولوية لإزالة الظلم الذي يعصف بالعالم الإسلامي كما في فلسطين أو العراق، أو حالة المشكلات الاجتماعية». ثم سرعان ما يعترف بأن المسلمين مهما فعلنا فهم يكرهون الغرب!
هذا الاتجاه من المؤلف هدفه غبن الحضارة الغربية باعتبارها شريكةً في التصوّر التقليدي عن أوروبا، وهو هارب من نقاش الجزء إلى الكل، ومن التفاصيل إلى العموميات، لم يتطرّق إلى أدوار عودة الهوية، وأسس الاستقبال الإسلامي للحضارة الغربية؛ ذلك أن الآتي إلى إحدى عواصمها يدلف المدينة وبجعبته مشروع لإصلاح أوروبا وتفصيلها على مقاسه هو ولو بالسلاح. كانت هناك مداراة أخلاقية للمهاجرين، وبخاصة ما يتعلق بالطعام، والحجاب، وأماكن العبادة، والدعوة للإسلام، وبناء المراكز الإسلامية، وفسح المجال للجمعيات الخيرية... تبيّن فيما بعد أن كارثة كبرى قد نسيت طوال أكثر من ثلاثة عقود في فرنسا وبريطانيا تحديدًا، وفي هذا درس لألمانيا تجاه فاعليتها مع أعمال الإسلام السياسي، ذلك يحتاج إلى وعي دقيق واستيعاب لتجارب دول الجوار.
لكن ما هي الكارثة التي حلّت على حين غرّة؟!
الكارثة التي حلّت أن الصراع كان خفيًّا بين الآيديولوجيا الزائرة، والحضارة القائمة. صراع يبدو في الثيمات والعلامات، بالرموز والإشارات، بالألبسة واليافطات، كانت الصورة النمطية عن الخطب والتحركات والآراء والألبسة والأزياء أنها «آراء أخرى» ولأن الحضارة الأوروبية بصمتها الأساسية التي صارعت لأجلها طوال خمسة قرون هي «الفردية» واحترام «الغيرية» منذ هيغل وحتى ليفناس.
كان لدى داريوش شايغان كراسة صغيرة طبعت بباريس عام 1992 وترجمت للعربية عام 1993 بعنوان «أوهام الهويّة» وأشار إلى هذا الصراع كاتبًا: «إن الحضارات غير الغربية لم تشهد هذه التغييرات بل تلّقتها بالوكالة، لم يكن من سبيلٍ إلى أصل الفكر الغربي وفصله، ولا إلى حركته الديالكتيكية، بحيث غدت الآيديولوجيا بمعنى ما الشكل الوحيد المتيسّر للحضارات غير الغربية، وبه تمكنت من الاضطلاع بدورٍ ما بالتاريخ». من قول شايغان هذا تستبين حالة التعويض عن الفقر الحضاري بتشجيع الآيديولوجيا المعتادة على الصراع وأساس بنائها معتمد دائمًا على نتائج ومبادئ مفعمة بـ«النزق الفكري».
مارست آيديولوجيا الإسلام السياسي بأوروبا حماقات الإصلاح بدلاً من حضاريّة التكيّف، من الممكن بالنسبة لأوهامها القيام بإصلاحات من خلال نفوذ في برلمان الدولة، وتغيير القوانين. كانت هناك غيبوبة حكومية رسمية منذ السبعينات عن مؤسسات الإسلام السياسي التي وصلت إلى فيينا، وسويسرا، تلك كانت غلطة فظيعة جرّت ويلاتٍ على الأوروبيين، وأي ويلات؟!
لن نتحدث عن نماذج متشددة مشهود لها بالجهل مثل أبو حمزة المصري، بل عن كاتب يقدّم بوصفه مفكرًا وله أطروحة عن نيتشه ويتحدّث عن الهويّة الفرنسية مثل حفيد حسن البنا طارق رمضان الذي كتب عن فرنسا قائلاً: «إن الأمر بنهاية المطاف يتعلق بتصوّرنا لمفهوم الهوية، فإذا كنا نعتقد أن التاريخ يغير المجتمعات والبشر، فيجب أن نقبل بتطوّر هويتنا الجماعية، من المشكلات التي تطرحها بعض التيارات الفكرية والسياسية في فرنسا هي المطالبة بهويّة فرنسية، والمطالبة حتى بفرنسا التي لم تعد توجد، بفرنسا التي لم تتطوّر».
إذا بقيت أوروبا ملاذًا ومنطلقًا لعمل الإسلام السياسي ورموزه فإن التطرّف سيزداد، لكن بحال تم لجم هذا التغول قانونيًا وسياسيًا فإن الخطر سيتضاءل، صرخ مرةً أستاذ فرنسي بكتابٍ لم يعجب آلان غريش حمل عنوان: «فرنسا حاذري فقدان روحك»... قد يصحّ هذا النداء القاسي على بقية الدول الأوروبية وعواصمها قاطبة.