صالح القلاب
كاتب أردني. وزير إعلام ووزير ثقافة ووزير دولة سابق، وعضو سابق في مجلس أمناء المجموعة السّعوديّة للأبحاث والتّسويق.
TT

مأساة حلب: الرد بجبهة واحدة وقيادة موحدة!

المفترض أنَّ أهم الدروس المستفادة من: «حرب حلب»، إنْ بالنسبة للمعارضة السورية وإنْ بالنسبة لداعمي هذه المعارضة ومساندي الشعب السوري من العرب الشرفاء، هو إنهاء حالة التشرذم التي سادت على مدى نحو ستة أعوام ماضية واجتراح «معجزة» أنْ تكون هناك جبهة واحدة، وذلك أن ليس بالإمكان دمج كل هذه الفصائل المتقاربة الأسماء المتباعدة الرؤوس والتوجهات و«المرجعيات» أيضًا في تنظيم واحد موحد وبجناحين رئيسيين، جناح سياسي له وجود خارجي فاعل وجناح عسكري يكون كل وجوده في الداخل، على أرض المعركة، ويضم ألوف الضباط ومن كل الرتب الذين كانوا غادروا تباعًا جيش نظام بشار الأسد واضطر بعضهم للانضمام إلى قوافل اللاجئين.
الآن هناك حديث، لا بل إعلان عن تشكيل «جسم معارض» من عدد من التنظيمات «الإسلامية» ليكون وجوده الرئيسي كـ«دولة» في مناطق حلب الشمالية في اتجاه الحدود التركية ويقينًا ورغم نيات المؤسسين الطيبة فإن هذا سيعزز تهمة «الإرهاب» التي أُلصقت بالمعارضة السورية كلها وحتى بـ«الجيش» والائتلاف الوطني والهيئة العليا للمفاوضات مما ستكون له عواقب وخيمة على تطلعات الشعب السوري الذي بادر إلى انتفاضات متلاحقة أولها يعود إلى منتصف ستينات القرن الماضي من أجل «الانعتاق» والحريات العامة والديمقراطية والدولة المدنية التي يتساوى في إطارها الذين يشكلون الأغلبية مع الأقليات المذهبية والقومية والعرقية.
إن المسارعة، وبعد «حرب حلب» مباشرة، إلى الإعلان عن هذا الجسم المعارض الذي اقتصر على تنظيمات تحمل أسماء وأوصافًا إسلامية سيسهل على الروس والإيرانيين وبالتالي على نظام بشار الأسد مواصلة الادعاء بأنه لا توجد أي معارضة معتدلة، وأن هذا التشكيل الجديد الذي ضم عددًا من الفصائل التي كلها من لون واحد هو نسخة أخرى من تنظيم داعش الإرهابي ومن تنظيم القاعدة المتطرف، وأنَّ المنطقة التي سيحتلها هؤلاء على الحدود السورية - التركية سوف تكون «قندهار» ثانية، وسوف تكون هناك دولة «دينية» على غرار ما يسمى: «الدولة الإسلامية»، زورًا وبهتانًا، التي «عاصمتها» مدينة الرقة والتي حققت خلال الأربعة أعوام الفائتة سيطرة على بعض المواقع والمدن السورية والعراقية.
إن هذه المسألة يجب حلَّها بالتفاهم وبالحوار وبالسعي الجاد والسريع لتوحيد كل تنظيمات وكل قوى المعارضة والثورة السورية في جسم مركزي واحد بقيادة موحدة وعلى أن يكون هناك ذراع عسكري إلى جانب الذراع السياسي يضم الجيش الحر أساسًا وكل التشكيلات العسكرية الأخرى التي يبدو أنه من الصعب في ظل كل هذا التشتت والتشرذم حصرها ومعرفة من هو الفعلي منها ومن هو الوهمي الذي شكل ولا يزال يشكل عبئًا على المسيرة النضالية والوطنية منذ عام 2011 وحتى الآن.
إنه من الصعب تحميل مسؤولية كل هذا التشرذم والتمزق لطرف من الأطراف في ظل التدخل العربي الرسمي وغير العربي الرسمي المبكر في الشؤون الداخلية، التنظيمية والعسكرية والسياسية، للمعارضة السورية، وذلك مع أن المفترض أن تكون هناك استفادة ومنذ البدايات من التجارب العربية وغير العربية في هذا المجال، وحيث ثبت أن الفشل كان حتميًا بالنسبة لكل المحاولات الثورية التي لم تنأَ بنفسها عن التدخلات الخارجية والتي لم تحرص على استقلالية قراراتها ومنذ اللحظة الأولى وسواء كانت قرارات عسكرية أم سياسية.
فالثورة الجزائرية المظفرة، التي حققت الاستقلال بعد استعمار إلغائي هو الاستعمار الفرنسي الذي استمر لـ«132» عامًا، ما كان من الممكن أن تحقق استقلال بلدها «الجزائر» في نحو ثمانية أعوام (1954 - 1962) لو أنها لم تغلق أبوابها في وجوه المتطفلين وكل الذين حاولوا غزوها من الداخل وسواء كان هؤلاء عربًا أم غير عرب وأيضًا وحتى وإن كانوا جزائريين وبخاصة الذين منهم كانوا لا يرون أن هناك ضرورة لحمل السلاح والثورة المسلحة وكانوا ينادون بـ«المقاومة السلمية» التي كان جربها الشعب الجزائري على مدى سنوات طويلة وثبت فشلها أمام إصرار المستعمرين على أن الجزائر جزء لا يتجزأ من الدولة الفرنسية.
لقد رفضت القيادات التاريخية للثورة الجزائرية من سياسيين وعسكريين تدخل أي من دول الجوار (المغرب وتونس تحديدًا) في شؤونهم الداخلية، وهذا شمل حتى مصر في ذروة وقوف الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر إلى جانب هذه الثورة ودعمها بكل وسائل الدعم، كما شمل عددًا من الدول العربية المشرقية التي كانت قد حققت استقلالها في تلك الفترة المبكرة التي تلتها سلسلة الانقلابات العسكرية اللاحقة وبخاصة في سوريا والعراق.
ثم وحتى بالنسبة للثورة الفلسطينية فإنَّ المعروف أن حركة «فتح» التي كانت السبّاقة إلى إعلان الثورة المسلحة في الفاتح من عام 1965 قد شكلت العمود الفقري لهذه الثورة والقوة المهيمنة على منظمة التحرير سابقًا ولاحقًا وحتى الآن، وحرصت على أن تكون التنظيمات الأخرى، التي اقترب عددها في البدايات المبكرة من العشرين تنظيمًا، مجرد «ديكور» تجميلي، فالقرارات الرئيسية كانت ولا تزال قراراتها والتي كان أهمها قرار ولوج أبواب الحلول السياسية والذهاب إلى «أوسلو» وتوقيع تلك الاتفاقية المعروفة التي على أساسها ووفقًا لها تم إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية التي اعترفت بها الأمم المتحدة على أنها دولة فلسطين تحت الاحتلال.
وهذا يعني أنه على المعارضة السورية بعد كل هذه التجربة المرة فعلاً أن تستفيد من هذه التجارب الآنفة الذكر وغيرها وأنْ تبادر وعلى الفور، تفاديًا لمفاجآت غير محسوب حسابها، إلى تشكيل الجبهة الوطنية المستقلة المنشودة بذراع سياسي يضم «الائتلاف»، والهيئة العليا للمفاوضات وكل التشكيلات التي بالإمكان ضمها إلى هذه الجبهة، وذراع عسكري يكون أساسه الجيش الحر والضباط والجنود الذين حالت الظروف المعروفة دون التحاقهم الفعلي والعملي بالثورة السورية.
إن الاستمرار بوضعية ما قبل حلب سيعني الفشل المحتم وسيعني عودة إلى الوراء إلى ما قبل عام 2011 وهذا سيكون بمثابة جريمة تاريخية بحق مئات الألوف من الشهداء وبحق الملايين من اللاجئين والمفقودين، وأيضًا وقبل هذا وذاك بحق الشعب السوري كله الذي بقيت مسيرته مسيرة نضال وتضحيات منذ انقلاب حسني الزعيم في عام 1949 وحتى انقلاب حافظ الأسد في عام 1970.. وإلى الآن إلى هذه المرحلة التي هي الأصعب منذ «الاستقلال» الذي تم اجتراحه بالدماء الزكية وبالتضحيات الكبيرة.
لقد انتهت صيغة ما قبل «حرب حلب» وغدًا الاستمرار بها يعني المزيد من الفشل ويعني المزيد من هدر الدماء والمزيد من إضاعة الوقت، وهذا يتطلب القفز من فوق الحواجز السابقة كلها والبدء ببداية جديدة على أسس صحيحة والمطلوب مرة أخرى هو وحدة الثورة وأن يكون ثقلها العسكري داخل سوريا وهو ألا يكون هناك هذه المرة أيضًا تدخل في شؤونها الداخلية لا عربي ولا غير عربي وأن يكون قرار العمليات العسكرية للجناح العسكري الذي يجب أن يضم كل الضباط على مختلف رتبهم الذين كانوا اتخذوا موقفًا وطنيًا وغادروا جيش بشار الأسد وانحازوا لشعبهم في فترة مبكرة ومعهم كل الأجنحة العسكرية للتنظيمات، غير المتطرفة، التي تقبل بالانضمام إلى هذه الوحدة.