إميل أمين
كاتب مصري
TT

أوروبا المضطربة... واستحقاقات اليمين المتطرف

إلى أين تمضي القارة الأوروبية المضطربة؟ تساؤل مثير للتأمل بعد الأحداث المتسارعة في دولها الكبرى، فالزلزال الذي أحدثه خروج بريطانيا من الاتحاد، ها هو يستتبع بموجة يمينية شعبوية تزعج وتهدد أسس أوروبا العلمانية بل والتنويرية على حد سواء.
«يحيا ترامب، يحيا بوتين، تحيا لوبان، تحيا الرابطة»، هكذا كتب ماتيو سالفيني زعيم حزب الجبهة الشمالية الإيطالية، اليميني المتطرف المعادي للأجانب، تعليقًا على هزيمة رئيس الوزراء المنتمي إلى يسار الوسط ماثيو رينزي، مما دفع مارين لوبان، رمز اليمين الفرنسي، للتعليق بالقول: «إن الناخبين الإيطاليين تبرأوا من الاتحاد الأوروبي ومن رينزي معًا».
هل انتصر اليمين في إيطاليا هذه المرة؟
الناظر لأحوال الإيطاليين يدرك عمق القضايا التي يواجهها الشعب هناك، وهي مسائل جوهرية لم تكن قائمة في أوراق الاستفتاء الأخير، وفي مقدمتها الهجرة التي باتت تهدد التوازنات الديموغرافية في البلاد، وتشعر فيها إيطاليا بأن أوروبا لم تكن عونًا لها، عطفًا على أزمات البطالة المتزايدة، وأزمة مصرفية تنتظر حلولاً جذرية، بالإضافة إلى ديون بلغت 132 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وبلا حلول شافية وافية في الأفق.
هل فوز ترامب في الولايات المتحدة فتح الباب لعدد من السيناريوهات المشابهة في أوروبا، حتى إن بيبي جريللو الممثل الكوميدي السابق وزعيم حركة «النجوم الخمسة» يكاد يصل وجماعته إلى قمة الحكم في روما؟
الأسئلة عديدة ومتسارعة، وزاد من وقعها تعاظم فرص المرشح الفرنسي اليميني غير الشعبوي، فرنسوا فيون، في الطريق لقيادة فرنسا. ومع أنه لا يمكن اتهام فيون بأنه يمثل اليمين الأوروبي المتطرف أو المغرق في عدائه الظاهر للأجانب، فإن يمينيته من النوع الوسط المؤثر والفاعل، والذي يعمل في صمت ودون ضجيج، ولذلك أطلقت عليه الصحافة الفرنسية اسم «السيد مجهول».
كما أن قراءة معمقة لتوجهاته تشي بأنه يميني في كل الأحوال، ففي حين تتهم واشنطن ولندن فلاديمير بوتين بالعداء للغرب، نرى فيون يخطط للتقارب مع روسيا، وهو معارض لزواج الشواذ، ويرى أن الإسلام يمثل مشكلة.
شيء ما تغير ولا شك في ذهنية ومذهبية الفرنسيين، ففي الانتخابات التمهيدية فاز فيون بأصوات 44 في المائة من الناخبين مما يعني أن أوروبا تنتقل في إيطاليا إلى أقصى اليمين وفي فرنسا إلى يمين الوسط، إن لم تحدث المفاجأة التي تحدث عنها رئيس الوزراء الفرنسي السابق جان بيار رافاران بترجيحه فوز زعيمة «الجبهة الوطنية» مارين لوبان.
على أن ما جرى في النمسا قدم لنا قراءة مغايرة لأوروبا اليمينية، وإن كانت لا تزال تحمل مخاوف بعينها، من الأسوأ الذي لم يأت بعد... لقد خسر المرشح اليميني نوربرت هوفر الرئاسة النمساوية، وهو المنتقد لعضوية النمسا في الاتحاد الأوروبي، وأعيد انتخاب ألكسندر فان ديربيلين، الزعيم السابق لحزب الخضر، الذي حملت حملته الانتخابية رسائل مفعمة بالتأييد لأوروبا.
فوز ديربيلين أثلج ولا شك صدور عدد واضح من قادة أوروبا الذين يخشون تصاعد اليمين، وتحقيق مكاسب مماثلة لا سيما في ألمانيا التي تترصدها بغيدا وأخواتها خلف الأبواب، و«الجبهة الوطنية» في فرنسا تحلم بانتصار شعبوي يقلب كيان الاتحاد الأوروبي باعتبار باريس عقل أوروبا النابض.
لم يكن فوز ديربيلين ساحقا ماحقا، وهذا ما يجعل رضا زعماء أوروبا، ملولاً قلقًا، فقد فاز بأقل من 7 في المائة من الأصوات عن منافسه وفي دولة لا تتجاوز عشرة ملايين نسمة. وعليه، فالسؤال الجوهري في هذه القراءة: هل هناك اجتياح لليمين المتطرف لأوروبا أم أن الأمر يقتضي قراءة مغايرة؟
أحد أفضل الإجابات نجدها عند جان إيف كاميو الباحث الفرنسي المتخصص في شؤون اليمين المتطرف عامة وفي أوروبا خاصة، والذي يؤكد أن اليمين الراديكالي لم يكن ليحتاج أوروبا أبدًا، وهي أبعد ما تكون عن ذلك في الوقت الحاضر، وجل ما يحدث هو هيمنة حالة من الضيق العام بين الأوروبيين لها أسباب مختلفة منها ما هو اقتصادي، وجلها سياسي.
تحمل تصريحات كاميو مخاوف بشأن وجود أزمة كبرى في التكامل الأوروبي؛ فقد تولد لدى الأوروبيين انطباع بأن الاتحاد الأوروبي عبارة عن وحش بارد بعيد عن الشرعية الديمقراطية، حتى وإن كانوا لا يعترضون على مبدأ الاتحاد الأوروبي، فإنهم يريدون أوروبا بشكل آخر مغاير لأوروبا الحالية.
مهما يكن من شأن الجواب، فإن تصاعد المد اليميني الأوروبي، يمكن أن يتحول سريعًا لقوى سياسية بعيدة عن الديمقراطية، والمشهد يزداد فداحة حال لقي هذا التصاعد زخمًا سياسيًا من أميركا - ترامب... إنه عالم اليمين لحين إشعار آخر.