رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

التحولات في سوريا والعراق والآثار على لبنان

فوجئنا في يوم الاثنين 12/ 12/ 2016 بمشهد كاردينالٍ من الفاتيكان يسلّم بشار الأسد رسالةً من البابا. وخلال ساعاتٍ عرفنا من وكالة الصحافة الفرنسية أنّ البابا طلب من بشار الأسد حماية المدنيين في حلب وسوريا، ورعاية القانون الإنساني في حقهم. وفي حين اعتبر مراقبون غربيون ذلك شجاعةً ومسؤوليةً من البابا، رأى آخرون أنه أيًا تكن مضامين الرسالة، فإنّ فيها استمرارًا في الاعتراف بالسلطان الواقعي للأسد، والانضمام بذلك إلى عدة دولٍ عربيةٍ وإقليمية (إيران) وكبرى (روسيا والصين والهند)، وأوروبية. بل إنّ الصين تعرض الإسهام في إعادة إعمار سوريا بخمسين مليار دولار!
التعليل العامُّ هو أنه لا بديل للأسد في حكم سوريا. والمعارضة المعتدلة المسلَّحة وغير المسلَّحة ما استطاعت الإقناع بأنها تشكل بديلاً. أما التعليل الخاص فهو أنّ الأولوية المطلقة في سوريا والعراق هي لمكافحة الإرهاب من «داعش» و«القاعدة»، الذي اضطهد وهجَّر الأقليات (المسيحية والإيزيدية) من مواطنها، وأوشك أن يخترق العالم الغربي من خلال المسلمين المنتشرين فيه.
لقد كان للبابا فرنسيس موقف متميز من الإسلام والمسلمين. وعرفانًا بذلك تواصلت معه جهات عربية وإسلامية عديدة، على رأسها شيخ الأزهر. وهناك عملٌ جادُّ ومستمرٌّ بين الأزهر والفاتيكان على إقامة مؤتمرٍ للسلام العالمي في الربيع المقبل. لكنّ الفاتيكان، ومنذ أيام البابا بنديكتوس السادس عشر، لا يستطيع تجاهُل الرعب الذي نزل بالأقليات المسيحية بالمشرق من التطرف الإسلامي. وقد انعقدت لذلك عدة مؤتمراتٍ، ومئات ورشات العمل وبرعاية الفاتيكان أو مجلس الكنائس العالمي أو جهات أوروبية، وصدرت بياناتٌ تدعو للتضامن مع المسيحيين وحمايتهم، في حين أقبلت دولٌ عدَّةٌ على تقبل هجرتهم إليها. والواقع أنّ نصف المسيحيين العراقيين، وثلث المسيحيين السوريين (خصوصًا الأرمن) صاروا في بلدان المهاجر. الواقع أن موجات الهجرة بدأت بالتزايد منذ سقوط صدام حسين بالعراق، ومنذ أيام الأسد الأب في سوريا. والواقع أيضا أنّ الفاتيكان وحده بين الكنائس العالمية هو الذي لا يملك موقفًا لصالح الديكتاتوريات الطائفية بالعراق وسوريا، أمّا الكنيسة الأرثوذكسية العربية (بتأثير الروس)، وكنائس الإنجيليات الجديدة، والبطرك لحّام، فإنها دخلت جميعًا ولأسباب مختلفة، في موجة وحملة التفكير والعمل مع الديكتاتوريات والجهات الداعمة لها، إمّا من أجل الحماية، أو للخوف مما يعتبرونه إمكان عودة سيطرة الأكثريات السنية في بلدان المشرق العربي!
يستطيع المسيحي في سوريا والعراق، أن يذكر دائمًا ما تعرَّضَ له في السنوات الأخيرة. وبعض هؤلاء ممن كان يشكو بمرارة من التمييز والتهميش أيام المالكي، وفي عهد بشار الأسد. وإذا قيل: لكنّ ما يجري في سوريا والعراق اليوم يتجاوز بكثير تعرُّض بعض المسيحيين في مناطق سيطرة «داعش» للتمييز أو التهجير، حيث هناك 12 مليون مهجَّر في سوريا معظمهم من السنة، وخمسة ملايين بالعراق معظمهم أيضًا من السنّة، فإن التساؤل يبقى دون إجابة، أو يقال: المصيبة شاملةٌ الآن بالطبع، لكننا أقليات وضحايا ونحتاج إلى الأمن والحماية، ونحن نلوذ بمن يقدر على ذلك.
قد لا تكون هناك خطة موضوعة من «داعش» ولا من الأنظمة في سوريا والعراق لتهجير المسيحيين أو لنشر الانطباع بالتآمُر على وجودهم من قبل. لكنّ نشر هذا الانطباع بوقائع من دون وقائع واضحٌ من سنوات في خطط حكومة بشار الأسد وعملها. وتعاونُها في ذلك إيران التي تُصرِّحُ بذلك في سوريا والعراق، وخصوصًا في لبنان. الأسد ينشر هذا الانطباع من أجل الحصول على تبرير لاستمرار سلطته باعتباره يكافح الإرهاب، والإيرانيون لأنهم يريدون نشر سيطرتهم في العراق وسوريا ولبنان بداعي حماية الأقليات من طغيان الأكثرية السنية وتطرفها، وهي التي تعتدي على حُرُمات المسيحيين، وتغزو العتبات الشيعية المقدسة!
في لبنان جرى ويجري العمل من جانب إيران و«حزب الله» على هذا الأمر، أمر تحالف الأقليات وحمايتها، منذ عام 2005. وقد كان ذلك معنى التفاهم الذي جرى عام 2006 بين «حزب الله» والتيار الوطني الحر. وما كانت هناك بالطبع شواهد من أي نوع على تعرض المسيحيين من جانب السنّة للاضطهاد أو التمييز. فقد تعرض السياسيون المسيحيون للتهميش أيام السيطرة السورية. وتحالُف 14 آذار، الذي شارك في قيادته مسيحيون بارزون هو الذي أخرج الجيش السوري من لبنان، على أثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وقد كان يحصل على الأكثرية في الانتخابات في المناطق المسيحية. إنّ هذا كلَّه ما حال دون قيام حملة شعواء دعمها «حزب الله» لاستعادة حقوق المسيحيين التي جرى الزعم أنّ اتفاق الطائف ودستوره (1990) تسبّب في انتزاعها منهم. وبفعل ضغوط السلاح والاغتيالات، وانكشاف المظلة العربية عن لبنان عام 2010، وبدء الاضطراب في سوريا، حدث تحوُّلٌ بالفعل في المزاج المسيحي في لبنان أيضًا، لأن «السنّة كلّهم متطرفون أو دواعش»، كما كان يقول التيار الوطني الحر، وليس في سوريا والعراق فقط، بل في لبنان أيضًا.
إنّ هناك تحولاً جديدًا يحصل في سوريا والعراق نتيجة تقدم قوات الأسد والميليشيات المتأيرنة في حلب، وفي الموصل، وستكون له آثار في لبنان، حيث لا شكَّ أنّ «حزب الله» وبشار الأسد على حدٍ سواء، إذا اعتبرنا أن لهم أفضالا على رئيس الجمهورية - ستكونُ لهم مطالبُ جديدةٌ، لجهة المزيد من استلحاق النظام والمؤسسات، والتأثير في السياسات الأمنية والعسكرية، واصطناع قانون انتخابات بالشكل الذي يضمن لهم الحصول على الأكثرية.
وفي المقابل، فإنّ هناك صعوبة كبرى في تنظيم حركة اعتراض سياسي سلمي، بسبب تفكك جبهة 14 آذار نهائيًا، والتعب الشديد الذي يشعر به المواطنون اللبنانيون في الاستنزاف المستمر الذي يفرضه عليهم «حزب الله» والنظام السوري.
على أنّ اللبنانيين الوطنيين والاستقلاليين والعروبيين لا خيار لهم غير الصمود والحفاظ على السلم الأهلي، وعمل المؤسسات، وعلى «الطائف» والدستور، الذي قال الرئيس الجديد إنه يريد تطبيقه بحذافيره. لا بد من تشكيل تحالف جديد بين المسلمين والمسيحيين مختلف عن الصيغة السابقة لاختلاف الظروف، لكنه يملك نفس الأهداف، ويحظى بالصدقية التي تمكنه من تطوير نشاطاته والحصول على الدعم العربي له.
معاناة الشعبين العراقي والسوري أسطورية. وأيًا يكن نكران العالم، وإجرام الأنظمة والإيرانيين وميليشياتهم، فإنّ الشعبين لن تستسلما في سوريا والعراق، ولن يسود بشار الأسد من جديد. وإذا لم يكن ذلك ممكنًا في سوريا والعراق، فهو أولى ألا يكون ممكنًا في لبنان أيضًا.